قيامة السيد بين اعلانات السماء وهموم الأرض
البروتوبرسفيتيروس أثناسيوس حنين
السبت ١٥ ابريل ٢٠١٧
الرسالة الرعوية لصاحب السيادة مطران بيرية سيرافيم
بمناسبة عيد الفصح عام 2017
نقلها الى العربية الأب المتقدم فى الكهنة الأب الدكتور أثناسيوس حنين
مطرانية بيرية – اليونان
أيها الأخوة الأباء الأحباء والشركاء فى الخدمة وكهنة المسيح
الأبناء الذين أحبهم فى الرب ’ بالحق
"قام المسيح من بين الأموات وهو بكر الراقدين"
« Χριστός έκ νεκρών έγήρεται, ή άπαρχή των κεκοικημένων»
تشكل هذه الصرخة القيامية والحياتية والمصيرية ’ موقف الكنيسة وشهادتها ’ منذ البدء والى مدى الدهور ’ وتشكل أيضا الايمان الذى لا يتزعزع والخبة الوجودية ’ بأن "الموت قد ابتلع الى المنتهى"
«κατεπόθη ό θάνατος είς τέλος»
ليفتخر الذين يطلبون الالحاد ويسعون فى سبيل الكفر ويقتلون الناس فى سبيل اله ميت !. ليطلق العنان لشهواتهم ورغباتهم كل أنظمة وشعارات وتنظيمات خدام الموت. لكن الكنيسة ستظل تؤمن بالانسان وتبشر بالحياة القائمة من الموت ضد كل الخسة والجبن ورائحة الموت التى تنتشر فى العالم على يد تجار الموت من كل حدب وصوب .
ليس أمام الكنيسة من خيار ’ وسط غباء الواقع اليومى كونيا ’ سوى أن تكون دوما ملتصقة بالحق وجوديا ’ الحق الذى هو القيامة والحياة. أذا ما سلكت الكنيسة طريقا أخر ’ سوف تصير كل أعمالها باطلة وسائر كلماتها فارغة مثلها مثل أية مؤسسة دنيوية فاشلة! . لقد شدد الرسول بولس على هذه الحقيقة قائلا:" أن لم يكن المسيح قد قام ’ باطلة (فارغة من المعنى ! )هى كرازتنا وباطل هوايماننا " (1كورنثوس .15’14).
السؤال هو : عن أية حياة وعن أية قيامة تتحدث الكنيسة ؟
هنا يحدث كثيرا ’ عن نية حسنة أو نية سيئة أو عن جهل ’ سوء فهم كبير ’ من قبل الذين لا يقبلون بأن موت المسيح وقيامتة ’ لها تأثير كبير وبأثر رجعى وحاسم ’ على تاريخ العالم الواقعى هنا والأن . هناك من تزعجهم حقيقة قيامة السيد لأنها لا تتفق مع مشاريعهم الجهنمية وخططهم الأبليسية القتالة للناس ’ يحاول هؤلاء وأولئك (من الداخل ومن الخارج !)’ ويبذلون الجهد وينفقون المال وربما السلاح الفكرى والمادى والدعائى ’ لكى ما يحولوا الخطاب الكنسى ’ من رسالة من أجل حياة العالم الأنى ’ هذا العالم ’ الى خطاب خرافى وحكايات عجائزية وسير باهتة تترجى العالم الأتى والذى لن يأتى أبدا بهذا الشكل!’ يتحول الخطاب المسيحى باختصار الى ميتافيزيقية أخروية رديئة لا تحوظ على احترام العقل الانسانى المعاصر. يؤدى هذا الموقف الى أن هؤلاء وأولئك ’ لا يعترفون بدور الكنيسة وينكرون عليها حقوقها ’ بل وواجبها ’ فى أن يكون لها رؤية وأراء ’ فى شئون هذا العالم الحاضر.
ماذا يقول هؤلاء وأولئك ؟
يقولون بأنه يجب على الكنيسة أن تنشغل ’فقط وحصريا "بعملها فقط" ’ وهم يقصدون من "عملها فقط" وحصريا أن تهتم بشئون العبادة داخل حوائط الكنيسة فقط !
ولكن "وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء" (رومية 1 ’22)’ لأن تعبير (العبادة ) أى
Ή Λατρεία
تأتى من الفعل اليونانى الفصيح والذى يعنى
Λατρεύω
والذى يعنى
Λάτρα
و(اللاترا) لغويا وتاريخيا هى الاهتمام الغير المحدود لكى ما يتم بهدف بنيان وتحسين ’كل حاجات الانسان المادية والنفسية والروحية والثقافية ’ الظاهرة والخفية ’ والعاجلة والطارئة والدائمة ’ وذلك بهدف بيان الشأن العام على المستوى الفردى والاجتماعى . أن موت المسيح لم يبطل فقط قوة الموت لما بعد القبر ’ بل أبطل كل مظاهر الموت الأنية واليومية ( الأن وهنا ) من ثقافة الكراهية وسلوكيات الحقد ووفتاوى القتل وفتح الأفاق أما العقل اللوغوس لكى يتجلى .!
تعلن الكنيسة هذه الحقيقة ’ هذه الأيام ’ وترتلها صرخة مدوية الى العالم أجمع فى قانون الفصح :
(فلتفرح السماوات ’ وتتهلل الأرض بلياقة واجبة ’ وليعيد العالم كله اجمع الذى يرى والذى لا يرى ’ لأن المسيح قد قام سرورا مؤبدا).
لا يوجد ’ عندنا نحن المسيحيون ’ الحسنى العبادة ’ ثمة مسافة أو فارق أو أنفصام او امتزاج وأضطراب ’ بين حياة ما قبل القبر ’ وحياة ما بعد القبر ! بل هناك علاقة عضوية ومباشرة. هذا معناه أن هناك علاقة عضوية وتبادلية كبيرة بين ما يحياه الانسان هنا فى هذه الدنيا ’ وما يحياه فى الأخرة. ان الحياة فى العالم الأني والحاضر ’ عندنا نحن المسيحيون ’ هى مرحلة كفاح روحى وانسانى ’ والتى وعلى أساسها تتحدد معالم العالم الأتى. لهذا فأن الكنيسة لم يحدث فى تاريخها أن أحتقرت الجسد أو قللت من شأن هموم الناس . الكنيسة ’ على العكس تماما من الكثير من الثقافات والتوجهات ’ تكرم الجسد وتحمى كل حقوقه المشروعة وتوجهاته سواء أكانت مادية أو روحية.
الكنيسة تملك خطابا توجيهيا لكل شئون الحياة الانسانية لأن كل شئون الحياة تهم كل الانسان وكل انسان. ومع هذا كله لا تمارس الكنيسة السياسة ! لأن السياسة تفترض وجود ألأحزاب السياسية ’ والاحزاب ’ بحكم رسالتها ’ هى التقسيم بين الناس ’ والكنيسة ’ بحكم طبيعتها اللاهوتية ورسالتها الناسوتية ’ هى جامعة أى هى لكل الناس ولكل أمور الناس ’ وخاصة للذين يختارون بملء حريتهم أن يكونوا من أعضائها أى أعضاء فى جسد قيامة الحياة وحياة القيامة. أن للكنيسة الحق ’ قبل أية سلطة عالمية أو رئاسة ’فى أن تهتم بكل قضايا الانسان ووشئون وشجون العالم الحاضر’ لانها الوحيدة التى تؤمن بقيامة الجسد ’ بل وبقيامة العالم كله ’ فى التجلى الأخير . هذه الحقائق المصيرية ’ لا تمثل للذين هم خارج حظيرة الكنيسة الجامعة ’ سوى محض أمال فارغة !’ وحينما لا يقدرون أن يمنعونها بشكل استفزازى (مثل قتل المسيحيين أثناء الصلاة أو تهجيرهم قسرا! )’ يقومون باحتقارها وتهميشها وتقزيمها وبشكل ضمنى بكافة الوسائل الاعلامية وغيرها.
ومع هذا كله ’ ستظل الكنيسة أمينة لذلك الذى غلب قوى الظلام وفضح الظلاميين ’ لذلك الذى غلب الموت والموتى ’ كل ظلام أيا كانت ركائبه وأى موت أيا كانت مصادره ! ستظل الكنيسة أمينة للرسالة اذا ما خدمت كل الانسان وكل انسان ’ بغض النظر عن الزمان والمكان والعادات والثقافات ’ اذ هى وبقوة القيامة قادرة على تجسيد الرسالة فى كل مكان وزمان وثقافة ( أذهبوا الى العالم أجمع .....).
على أساس كل ما سبق ’ تقدر قيامة السيد المسيح أن تبشر فى وسط ثقافة عصرنا وهموم الانسان المعاصر ’ وقناعتنا تامة بأن ابن الله الصائر انسانا ’ ليس هو روحا لا تمس ’ ولا خيالا يتم معرفته (بالثيؤريا مونى !)كما يقول البعض منا !. بل هو هو "أيقونة الله الغير المنظور بكر كل خليقة" كولوسى 1 ’15.
يا أخوتى وأبنائى الأحباء
لقد أطبق اليأس والكأبة والحزن على نفوس تلاميذ المسيح وذلك بعد القبض عليه ’ وعانى من التعذيب والصلب على يد خصومه من كبار رجال الدين العتاة ورجال السياسة الأقوياء ! لقد ملأت الاحداث قلوب التلاميذ بسحب قاتمة من اليأس والصدمة وخيبات الأمل ! لقد تحطمت أمالهم بأن يسوع "كان هو المزمع أن يخلص شعبه " لوقا 24 ’ 21 . لقد عاين التلاميذ كيف أن يسحق الظلم ’ الكذب ’ الكراهية ’ الانسان البرئ!
....ولكن كان الواقع مغايرا تماما لكل هذا ’ وأظهرت قيامة يسوع المسيح هذا الواقع المختلف والجديد وذلك حينما أقتر ب من التلميذين’ كليوباس ولوكاس ’ وهم راحلون طوعا (أو مهجرون قسرا !) الى قرية أيماؤس وقال لهم" أيها الغبيان والبطيئا القلوب فى الايمان بجميع ما تكلم به الأنبياء ’أما كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل الى مجده" لوقا 24 ’ 25 -26 . ومن ثم قام وشرح لهم كل ما يتعلق به فى الكتب التاريخية أى كتب الأنبياء. ومكث معهم وقتا وقاموا بدعوته الى مائدتهم وأعلن لهم نفسه كاملا . حدث فى ما هو يبارك الخبز ويكسره ويناولهم ’ أن أنفتحت أعينهما "وعرفاه " أى ذاقوا وأعترفوا بقيامته .
لقد دشن المسيح بقيامته أبعادا جديدة وفتح افاقا معاصرة أمام تلاميذه الخائفين ومنحهم القوة لكى ما يتقدموا ويبشروا ’ بسلام لا يهتز ’ وعزيمة لا تنفك ’ ببشارة وانجيل الحب ’ انجيل ثقافة الحب الذى سوف يجدد حياة البشرية جمعاء.
ان نفس المخاوف القديمة واليأس العتيق ’ ولكن باشكال عدة وطرق متباينة ’ تطبق على خناق نفوس الناس ’ اليوم . أن كل ما يجرى حولنا ’ يظهر كيف يحكم الظلم ’ وتعم الكراهيه ’ ويتم تهميش الحق . تلاحق قوات الظلام الدينية والسياسية كل من يتجرأ أن يعيش فى حياة الصدق والفضيلة والعلم والجدية . لا يقتصر هذا على الحياة الشخصية لكل منا ’ بل على مستوى المجتمع المحلى والواقع الكونى والدولى. ولكن يجئ عيد الفصح ’ وحدث القيامة ’ ليبدد سحب اليأس وضباب الاحباط ويحررنا من "بطء القلب فى الفهم والايمان". يجئ عيد الفصح لكى ما يؤكد طلبتنا بأن "أمكث معنا لأنه المساء و النهار قد مال"’ جاء عيد الفصح لكى ما يساعدنا أن نتعرف شخصيا على الرب القائم.
ان الايمان بقيامة السيد المسيح يرتبط بالايمان بالأثار الكونية و التاريخية للقيامة ’ اذ تقدم القيامة نورا وقوة للخروج من نفق الجفاف الروحى وفقدان المبادرة وما اصاب قلب الانسان من وجع وعطب .حينما قرر المسيح قبول الألام الطوعية ’ أى قبلها بملء حريته الانسانية ’ هدم تسلط القوى المعادية للانسان ’ والتى تتكل على الغرور والاكتفاء الذاتى والانكفاء المادى. لقد همش المسيح قوى الظلام "وأبطل الموت ومنحنا الحياة الدائمة"لقد وضع الله الأب ابنه المصلوب والقائم "فوق كل رئاسة وسلطان وقوات ’ أى فوق كل اسم يسمى ليس فى هذا العالم الأنى بل وفى العالم الأتى ’ وضع كل شئ تحت قدميه"(أفسس 1 ’21 -22). هذا هو الطريق ’ طريق الخروج من المأزق الكونى ’ وهذا المخرج هو ما ييبشر به عيد اليوم العظيم ’ داعيا ايانا أن نتشدد فى الايمان بسلطان القائم.
أن سلطان المسيح القائم ’ بهموم جسدنا وفى حاجات جسدنا ’ يرتبط بالأمه الطوعية. سيظل يسوع هو الشريك فى الألام القائمة والقيامة المتألمة . شريك كل انسان يتألم بالحق وفى الحق ومن أجل الحق.ينحنى المسيح بحنان بالغ على الانسان المعاصر ليضمد جراحاته . ان سلطان المسيح لا علاقة له بمفهوم السلطة السائد. هى سلطة لا تتسلط بل تخدم’ لا تنتقم بل تسامح ’ لا تقمع بل تفدى ’لا تسبى بل تحرر ’ لا تفرض نفسها ولا يتقدمها ضجيج فارغ وخادع ’ ولكنها تعمل فى الصمت المميز ’ سلطة لا تميز بين الناس ’ بل تساوى وتواسى ’ هى سلطة فادية بالدرجة الاولى ’ وهى عطية تسامح وحب. يحترم المسيح القائم حرية الانسان وقداسة كيانه وحصانة شخصه ’وهذا الاحترام ينطبق حتى على الذين يشكون فيه ويجدفون عليه ويضطهدزن زيلاحقزن تلاميذه. لا تسبب سلطة المسيح الخوف ’ بل تحرر الكيان الانسانى من كل خوف ’ حتى الخوف من الموت.
أن الفصح ’ أيها الأخوة ’ تعنى عبور ’ مرور ’ خروج . كانت فى البداية تشر الى خروج اسرائيل من عبودية أرض مصر. أن الفصح هو "عيد الأعياد" ’ وهو يدعونا الى خروج متعدد الأوجه ’ خروج من اليأس الذى تسببه الفاقة والعوز ’ خروج من المأزق الاقتصادية ’ خروج من الأضطرابات الجيوبوليتيكية فى منطقتنا ’خر وج من الارتباك والتشويش الذى يحيط بقضايا الهجرة الغير االشرعية وأثارها الخطيرة على التوازن السكانى فى بلادنا ’ بل وفى أوروبا كلها ’ خروج من اليأس الذى يطبق على النفوس بسبب الظلم ’ والاشاعات والتذمر ’ والتمرر من فقدان الحس عند من خدمانهم وصنعنا معهم معروفا أو من خيانات من أحببنا ! خروج من اليأس الذى تسببه الطوارئ الصحية ’خروج من ألم المرض العضال’ أو من الانفصال عن أصدقاء وأحباء ’ وأخيرا خروج الأخطاء التى يسببها عدم تروينا وتركيزنا وربما أخطأنا.
ان حديث السيد الى تلميذيه السائرون على طريق عمواس هو لنا " يا أيها الأغبياء والبطئ القلب فى الايمان بكل ما سبق وقيل للانبياء" (لوقا 24 ’25-26). ويذكرتلاميذه بكل قوة بأنه " قد أعطى لى كل سلطان فى السماء وعلى ...وها أنا معكم كل الأيام والى أخر الدهر"(متى 28’18). يتكرر هذا الوعد فى معمودية كل مسيحى. أن كل من يؤمنون بالمسيح القائم ويتبعونه بكل قلوبهم ’ يدركون جيدا أنهم ليسوا وحدهم أمام الواقع اليومى للحياة الانسانية . هم لا يتجاهلون الواقع اليومى القاسى ’ ولا يحتقرون ظروف ومعطيات الحياة ’ بل يواجهونها بالنعمة والقوة ويحولونها ويغيروها.
نستطيع بنور القيامة المقدس أن نتطلع برجاء وتفائل وبفكر مبدع ’وبيقين شديد ندرك أن قطار التاريخ البشرى لا يسير بمعزل عن صانع هذا القطار . لهذا نقدر أن نتقدم بمبادرات جريئة وأبداعات اجتماعية وثقافية ’ تبدأ من واقعنا الملموس وحارتنا ’ وعائلتنا ومدينتنا وبلادنا.
دعونا نأخذ من عيد هذا اليوم البهى ’ قوة قيامية’ وسط السقوط الشنيع الذى يحيط بناويهددنا. نحن واثقون من أن روح القيامة كفيل بأن يشدد مسيرتنا فى سبيل الخروج الدائم من كل الوان وأشكال الاحباط واليأس ووروح الفشل.
المسيح قام
بالحقيقة قام
مع دعواتنا الابوية الصادقة والحارة
مطرانكم سيرافيم
مطران بيرية