سعيد السني
ليس مُجدياً، صب اللعنات على داعش والدواعش، وإنزال أحط الأوصاف عليهم لتوحشهم وحقارتهم، ودمويتهم، والمذابح التي يرتكبونها بحق إخواننا الأقباط.. كما ليس مفيداً من الناحية العملية، هذا السيل الجارف من العبارات الرنانة والكلمات النارية وبيانات الشجب والإدانة، استنكاراً لهذه الأعمال الإرهابية البشعة، المُعادية للإنسانية.. فكل هذا وغيره من تعاطف مع إخواننا الأقباط، ليس ذات معنى ما لم يكن مصحوباً بمراجعة شاملة للسياسات السارية في التعامل مع «قضية الإرهاب»، وإجراء تقييم علمي وموضوعي لهذه السياسات، مع التركيز على أن «الإرهاب»، قضية متشعبة، لها جوانبها الكثيرة، وخلفياتها وجذورها وأسبابها الموضوعية العديدة التي يجب إخضاعها للدراسات المتخصصة والمتعمقة، وصولاً إلى تحديد السُبل المثلى للتعاطي والعلاج الناجع، بالتوازي مع طرحها للنقاش العام ضماناً للمشاركة المجتمعية في التصدي لهذا الوباء الداعشي اللعين، وحماية للمسيحيين من الاستهداف وتأمينهم، بعدما راحت داعش تتمدد في عملياتها، وتنتقل من شمال سيناء (قتل ثمانية أقباط بالعريش في فبراير، ونزوح الباقين)، ثم إلى العاصمة (حادث الكنيسة البطرسية في ديسمبر 2016م)، بعدها إلى الدلتا، والوجه البحري، بالتزامن (كنيستا طنطا والإسكندرية في إبريل الماضي)، وصولاً إلى حادث أتوبيس أقباط المنيا بالوجه االقبلي قبل أيام الذي أسفر عن سقوط 30 شهيداً بينهم أطفال، وعشرات المصابين، ونفذه «داعش الصعيد» حسبما أفاد موقع «العربية نت» نقلاً عن مصادر أمنية.
أخطر ما في هذه الموجة الإرهابية، أن داعش أعلن، ويواصل تنفيذ، استهدافه للإخوة المسيحيين، بشكل خاص عقاباً لهم على هويتهم الدينية وعقيدتهم.. لاشك أن هذا المسلك الداعشي، يهدف لإشعال فتنة طائفية، وإنتاج عنف وصراع طائفي من شأنه تهديد استقرار البلاد، واستدراجها وجرها إلى حزام «الصراعات الطائفية والمذهبية» المقيتة، باعتبار أنها الأكثر فاعلية، والأسرع في إسقاط وهدم الدول وتفتيتها، فإذا أفلتت منها دولة ونجت من التفتت، فإن الثمن يكون فادحاً، ومعاناة طويلة المدى من آثار تلك الصراعات.. لدينا في هذا الصدد النموذج اللبناني حيث شهدت لبنان عنفاً طائفياً لمدة 15 عاماً (1975- 1990م)، راح ضحيته 120 ألف قتيل، ونزوح نحو مليون لبناني وتشريد مئات الآلاف، قبل أن تضع هذه الحرب الأهلية أوزارها.. كما أن النموذج العراقي للدولة الفاشلة شاخص أمامنا، نتاجاً لصراع واقتتال شيعي سني، وطائفي مع الأكراد، وهو الصراع الذي أيقظته من مرقده تحت السطح، واشعلته الولايات المتحدة الامريكية، فكانت ولا تزال مفاعيله ونتائجه، أوقع أثراً وأعظم مما أحدثه الاجتياح ثم الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003م. بما أسفر عن مئات الآلاف من القتلى ومثلهم مُشردين وأضعافهم جرحى.
هذه الاعتبارات تفرض على الدولة أن تعيد دراسة الأمر، وجدوى السياسات الأمنية القائمة ومراجعتها، والسعي لاختراق هذه الجماعات الإرهابية، «معلوماتياً»، ومن ثم إجهاض عملياتها مبكراً قبل وقوعها، حتى لو استدعى الأمر استدعاء كفاءات أمنية جرى تسريحها من الخدمة سابقاً، والنظر بعين الاعتبار إلى أهمية العوامل الثقافية والتربوية والتعليمية والاقتصادية، المؤثرة في تكوين وبناء استعداد نفسي وعقيدي، لدى بعض الاشخاص، وتهيئتهم ليكونوا إرهابيين محتملين، بما يجعلهم عجينة لينة قابلة للتوظيف والاستخدام من قبل داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية.. فالإرهابي الذي يفجر نفسه ويقتل هكذا بدم بارد هو إنسان مشوه نفسياً، عرف الكراهية وتربى على الحقد، وربما كان نتاجاً للفقر والعوز، والتهميش الاجتماعي، والجهل الثقافي والتعليمي، والتعصب الديني، بما يستلزم إعلاء أهمية التعليم والثقافة والتجديد الديني، وتننقية المضامين التعليمية والثقافية والدينية والإعلامية، والممارسات الحكومية العملية، من التمييز والطائفية، وإعادة الأنشطة الثقافية والفنية وغيرها إلى المدارس، وإحياء أدوار وأنشطة مراكز الشباب وقصور الثقافة.. فهذه الأنشطة تستنفد طاقات الشباب وتمنحهم الفرصة للتعبير عن ذواتهم، وممارسة هوايتهم، تحصيناً لهم من الإحباط والكراهية والفراغ، ذلك أن الشاب الذي يمارس الرياضة، وينخرط في العروض والأنشطة الفنية والمسابقات الثقافية والندوات الأدبية والشعرية، والرياضية، بهذه المراكز، لابد أن يكون مُحباً للحياة والناس، مُحصنَّا من الكراهية، ويصعب تجنيده إرهابياً.. فهل سمعتم عن إرهابي يتذوق الموسيقى أو الشعر أو ما شابه؟.. الإجابة بالنفي قطعاَ.. وقبل هذا كله يجب التوقف لمراجعة السياسات الاقتصادية المنتجة للفقر وتوسيع رقعته، وإعطاء الأولوية لمشروعات إنتاجية توفر فرصاً كثيفة للعمل، تخفيفاً لحدة مشكلة «البطالة» الأخطر اجتماعياً.. فالفقر يولد الإحباط، وحين يجتمع في شخص متعطل، مع الجهل و«التعصب» الذي تغذيه فتاوى مشايخ الفتنة عبر الفضائيات، والمواقع السلفية، فإن النتيجة هي تحول الشخص إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار، والتوظيف للانتقام من المجتمع.. وهذا كله لا يغني عن التعامل بسيف القانون البتار، بعيداً عن قعدات المصاطب العرفية، مع مُشعلي الحوادث الطائفية.. كما لا يمنع من مراجعة أوضاع الشباب بالسجون والإفراج عمن لم يتورط في عنف منهم.. فالمسجون ظُلماً هو مشروع إرهابي محتمل في قابل الأيام.
نسأل الله السلامة لمصر.