الأقباط متحدون - مثلثُ التفوق والإنسانية
  • ١٢:٤٧
  • الاثنين , ١١ سبتمبر ٢٠١٧
English version

مثلثُ التفوق والإنسانية

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

١٩: ٠٧ م +02:00 EET

الاثنين ١١ سبتمبر ٢٠١٧

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

جلسنا نتابعُ ما يجرى للمُستضعفين فى ميانمار من ويل وتقتيل وتهجير قسرى، والقلبُ ينزف. ثم تضاعف نزيفُ القلب حين صفعتنى تعليقاتٌ طائفية لبعض المتصفحين فى مواقع التواصل الاجتماعى! هل تُطلُّ الطائفيةُ بوجهها القبيح، حتى فى لحظات الحزن على الأرواح المُزهَقة والأسر المُشرّدة والأطفال المرتعبين؟!، هل نسألُ عن عقيدة المقتول أو المُغتصب أو المُهجّر، حتى «نُقرّر» إن كنّا سنتعاطفُ معه أو نحزن لأجله، أم لا؟! لستُ أصدّق!.

الطائفيةُ مرضٌ خطير. لم أرها يومًا منهجًا فى التفكير. إنما هى مرضٌ قاتل، لا يدمّر الآخرين، إنما يدمّر صاحبَه، أولًا. والحمد لله الذى عافانا من ذلك المرض. وأنا أتابع بعض التعليقات الطائفية على صفحتى الرسمية، لا أدرى لماذا تذكّرتُ ابنى «مازن» وهو بعدُ طالبٌ فى الصف الثالث من كلية الهندسة قسم العمارة، حينما كان جالسًا يفكّر فى تصميم مميز لقاعة المؤتمرات التى طلبها منهم أستاذهم بالكلية. رسم أربعة قاعات متصلة، منفصلة. قاعة على شكل قلب كبير، تجاورها ثلاثُ قاعات أصغر، كلٌّ منها على هيئة مخٍّ بشرى. ثم كتب فلسفة التصميم كالتالى: «مثلث التفوّق: المعرفة- العقل- القلب. فالمعرفةُ لا تأتى إلا إذا استخدمنا (العقلَ) لنتعلّم، و(القلبَ) لنحبَّ.» تلاقت عيناى بعينى والده، المهندس المعمارى أيضًا، وابتسمنا. لقد تعلّم ابنُنا الدرسَ الطيب الذى غرسناه فيه منذ طفولته: «إن امتلأ قلبُ الإنسان وعقلُه بحبِّ الله، ما عاد بقلبه ولا عقله متسعٌ لكراهية أحد». الإنسانية هى الحل لجميع مشاكل الإنسان. أدرك الصبىُّ الجميلُ أن العقلَ (وحدَه)، قد يشيّدُ مجتمعًا عالِمًا مثقفًا متطوّرًا، لكنه جافٌّ، قاسٍ، أجوفُ الروح. وأن القلبَ (وحدَه) قد يمنحنا مجتمعًا طيبًا متعاطفًا رحومًا، لكنه فى الأخير مجتمعٌ رخوٌ لا قوامَ صلبًا له، ولا قانونَ عادلاً يحكمه. العقلُ يضبط ميزانَ القلب؛ فيجعله لا ينحازُ للأقرب، بل للأكفأ. والقلبُ يضبطُ ميزانَ الميل والهوى، فيدفعنا لأن يكون ولاؤنا وانتماؤنا للإنسانية بكاملها؛ دون عنصرية ولا تحيّز. فى هذا يقول «هنرى برجسون»، فى كتاب «التطوّر الخلّاق»: «الإنسانُ العادى ميالٌ بطبيعته إلى موافقة الجماعة التى ينتمى إليها. أما العبقريّ الفائق، فيشعر أنه ينتمى إلى البشرية جمعاء، ولذا فهو يخترق حدودَ الجماعة التى نشأ فيها، ويخاطب الإنسانيةَ كلها بلغة الحبّ».

«المسلمون يُقتلون فى بورما!».. هكذا يقولُ صغارُ العقول ضيقو الأفئدة. أما نحن فنقول: «بشرٌ يُقتلون فى بورما!» فلسنا مرضى بما مرضوا لنُصنّف البشرَ؛ ونوزع أحزاننا على القتلى وفق عقائدهم وطوائفهم. ذلك شأن الصغار ومرضى «الميجالومانيا»، ممن يجعلون من أنفسهم الصغيرة ديّانين مع الله، حاشاه! فالحمد لله تعالى الذى عافانا مما ابتلوا به أنفسَهم من جنون ومرض. أما المرضُ فهو: تقسيمُ البشر على أساسٍ عَقَدى وطائفى ومذهبى. وأما الضمير (هُم) فى كلمة (أنفسهم)، فيعود على الطائفيين المتطرفين مرضى جنون العظمة Megalomaniac.

وأما لماذا لم أقل: «الحمدُ لله الذى عافانا مما ابتلاهم به»، كما تجرى أدبياتُنا الإسلامية فى حمد الله وشكره على نعمة العافية؟ فلأننى أؤمن أن الله لا يبتلى أحدًا بذلك المرض: الطائفية، إنما أنفسَهم يُمرضون وأرواحَهم يبتلون. اللهم إلا إن كان الابتلاءُ بمعنى «الاختبار»، وليس بمعنى الإيقاع فى البلاء والمرض. فاللهُ يخلقنا أنقياءَ مُعافين من البغضاء والعنصرية والشراسة، حتى نختار «نحن» أن نكره ونبغض، فنصير إرهابيين طائفيين ميجالومانياك، أو لا نختار ما سبق، فنظلُّ على فطرتنا الطفولية النقية السوية، فنكون لله أقرب، ونصير مُستحقين ميراثَ الله فى أرضه.

وإذن، فإن تصحيح الجملة فى صدر المقال هو: «بشرٌ يُقتلون فى بورما»! هكذا أراهم، فيعتصرنى الألمُ على قتلهم، سواء كان القتل والتشريد بسبب الغاز الطبيعى أو حقوق المواطنة أو حيلة داعشية، كما تذهب الرواياتُ المتباينة. لا يهم. القلبُ ينزف عليهم دون النظر إلى عقيدتهم. وليس كما يفعل الصغارُ: أحزن إن اتفقت عقيدتُهم مع عقيدتى(!) وأفرح فيهم إن كانت عقيدتهم على غير عقيدتى(!)، شأن التافهين من العنصريين الطائفيين والمرضى.

الإنسانيةُ تتخبّط. أتساءلُ أحيانًا إن كانت هذه اللحظة الزمنية العسرة التى نحياها أفضل أم أسوأ من لحظتيْ الحرب العالمية الأولى والثانية اللتين راحت فيهما أرواحُ ملايين البشر دون جريرة ولا منطق ولا معنى، سوى انتماء هذا أو ذاك إلى بلاد متناحرة لأسباب سياسية، بسبب نقض معاهدات أو قتل ورثة عروش أو ميول استعمارية أو سلطوية أو اقتصادية أو تجارية أو..!. تتعدّد الأسبابُ، والهمجية واحدة، والتجبّر واحد، والاستعلاء بالمال والاستقواء بالسلاح والاستضعافُ بالكثرة العددية واحد.

تُرى، ماذا يقول الدواعشُ والمتطرفون اليومَ؛ وفينا مِن مسلمى ميانمار المستضعفين مَن يذوق من نفس الكأس المرَّة التى سقاها داعشُ لغير المسلمين؛ تقتيلا واستلابًا واغتصابًا وتهجيرًا؟! هل يبكون ضيعتنا وضعفنا واغتراب الإسلام؟!.

وماذا يقول ضحايا داعش من غير المسلمين؟! هل يهمسون: إنها عدالة السماء؟! كلا. دموع الأولين كاذبةٌ منافقة؛ وزعمُ الآخرين هراء. ليس عدلا أن يدفع بشرٌ مسالمون فاتورةَ غيرهم من الإرهابيين القتلة. كلنا ضائعون مادام الإنسانُ ظالمًا. اللهم انزعْ من قلوب البشر شوكةَ الطائفيات والمذهبيات والعرقيات والعنصريات والطبقيات والأكثريات والأقليات الغليظة المتخلفة؛ واستبدل بها زهرة الإنسانية الرهيفة المثقفة.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع