د/ عايدة نصيف
الفلسفة والثقافة كلمتان مترادفتان؛ فالفيلسوف هو صاحب الثقافة الواسعة والمتفلسف أيضًا صاحب رؤية واعية، فهى المعرفة الشاملة وما أحوجنا اليوم إلى التعمق في دراسة الفلسفة والتفكير المنطقى الموضوعى في ظل عالم يموج بالأفكار المتضاربة والمتناقضة، في عالم لا يزال في معظمه يبحث عن المعرفة؛ فالفلسفة تتناول بعض القضايا التي تخص الله والإنسان والعالم والمجتمع، وهى وسيلة للمهتمين بالفكر الإنسانى، بل وبالمنهج العقلى، بل هي أداة للفكر والفهم والحوار والبحث عن الحقيقة، وإذا كانت الفلسفة هي محبة الحكمة فهى الطريق أيضًا إلى المعرفة سواء كانت معرفة الله أو العالم أو الإنسان، بل تُقدم الفلسفة وتُوجه نظر الباحثين والمحبين لها إلى مبحثي القيم والأخلاق، وهما اللذان يتأسسان على الفضائل الإنسانية.
فهى تبحث في الفضائل الإنسانية في المجتمعات وما ينبغى أن تتأسس عليه الأخلاق لقيام مجتمعات إنسانية بل كانت تهدف إلى إقامة المدينة المثالية من خلال فلسفة أفلاطون، ولا أكون مُبالغة إذا قُلت إن موضوع إعمال العقل والتفكير والتحرر من التخلف هو الوظيفة الأولى للفلسفة بداية من الفلسفة اليونانية ومرورًا بفلسفة العصور الوسطى والفلسفة الإسلامية والمسيحية وختامًا بديكارت وفرنسيس بيكون في الفلسفة الحديثة إلى الفلسفة المعاصرة، وتتناول أيضا الفلسفة طرح قضية علاقة العقل بالإيمان وعلاقة الفلسفة باللاهوت، وأن العقل لا يناقض النقل بل يمكن التوفيق بينهما.
إلا أن الفلسفة تظل في مُجملها بحث عن المعرفة التي لم تكتمل حتى الآن وأداة عقلية تساعد الإنسان على فهم موضوعات تخص الله والعالم والإنسان والأخلاق والسياسة، بل فهم المجتمعات بما تشمله من موضوعات ومفاهيم على مدى التاريخ.
ما سبق كلمات موجزة عن الفلسفة، ولكن الطامة الكبرى أن هناك عبارة "بلاش فلسفة"، وكثيرًا ما تتردد هذه العبارة على لسان بعض أفراد المجتمع وعلى الفضائيات وفي الأفلام أو المسلسلات أو البرامج وفى مجالس تدّعى أنها علمية وكأنها دعوة مُلحّة للقضاء على استخدام العقل البشري الذي وهبه الله لنا، ورغبتنا المستميتة للحفاظ عليه تمام المحافظة على أنه عهدة لا نستخدمها لأننا سوف نرُدها إلى خالقها.. فمعنى عبارة "بلاش فلسفة" تساوي (غياب العقل) وإذا غاب العقل غاب أرقى ما في الإنسان.
فهناك بعض الاتجاهات تضرب بالعقل الإنساني عرض الحائط لتقف أمام إدراك الإنسان لذاته ووعيه بمشكلات مجتمعه؛ ومن ثم تحجب هذه الاتجاهات التنوير وتأخذ العقل إلى مفاهيم خرافية يعيش فيها ويتخذها منهجًا للحياة؛ فالعقل كما يقول أحد علماء النفس "هو التاج الذي يعلو الجسم الإنساني ويدير دفة حركاته وسكناته سواء في اليقظة أو المنام في شعوره وإدراكه ووجدانه وإرادته وتفكيره، فهو المركز الرئيسي المسيطر على السلوك الإنساني" فلو غاب العقل من خلال الدعوة البلهاء "بلاش فلسفة" ماتت الإرادة ومات التفكير وانحرف السلوك الإنساني في المؤسسات المهنية والسياسية والاجتماعية والدينية.
ويجب أن تتحول هذه الدعوة إلى دعوة "إيقاظ العقل" أي العقل الفردي لتكوين العقل الجمعي الذي يستطيع أن يبنى ويبعد عن الأنانية والانتهازية وحب الذات في مقابل إهدار ذوات الآخرين، فكفى غيابًا للعقل والانخراط في الخرافات، وكفى غياب للتنوير والانخراط في الجهل، فأدعو كل من يعمل على غياب العقل في هذا المجتمع أقول أن العقل يمثل القوى الخارقة المبدعة التي تبني المجتمعات.
فنحن في أشد الحاجة إلى هذه القوى في مجتمعنا الآن، يقول سقراط: "إن الحياة التي لا تخضع للفحص والنقد ليست جديرة بأن يحياها الإنسان" وإذا رجعنا إلى تاريخنا المستنير نجد مكانة العقل بمثابة الركيزة الأساسية للتنوير أمثال محمد عبده، ولطفي السيد، وطه حسين، وسلامة موسى، وفرح أنطون، وتوفيق الحكيم وغيرهم، فهؤلاء استخدموا العقل وصنعوا لنا فكرًا لابد أن نهتدي به في إطار مشاريعهم التنويرية.. أما الابتعاد عن العقل فيعطي مجالًا كبيرًا لاتجاهات رجعية ومن ثم غياب التنوير الذي يبني المجتمعات.
ومن المؤسف أن نجد هذه الاتجاهات أصبحت منتشرة الآن وتعمل على إهمال إعمال العقل، ومن ثم علينا بناء مستقبل واعٍ مؤسس على التفكير الموضوعي الذي يهدف إلى البعد عن الذاتية والتخلي عن العواطف والمصالح الشخصية؛ للدخول في إطار التفكير المنطقي المنظم الذي يعمل على حل مشكلات المجتمع التي ظهرت مؤخرًا كالمشكلات الاجتماعية، والمشكلات الاقتصادية، والسياسية والتخلي عن العقل في إيجاد حل لهذه المشكلات، ولذا أقول كفى غيابًا للعقل ولنعمل معًا على إيقاظه من أجل تنوير وبناء المستقبل.