أسباب أخرى استراتيجية تستدعي تأجيل الحرب على ايران
ميشيل حنا حاج
الثلاثاء ٢ يناير ٢٠١٨
ميشيل حنا الحاج
منذ انفرد الأمير محمد بن سلمان بولاية العهد في السعودية، وتسلمه سلطات واسعة فيها، شرع بحرب “الحزم” ضد اليمن. لكنه في المقابل، أطلق حملة واسعة ساعية لتغيير وجه السعودية أمام العالم وأمام السعوديين، من وجه قاتم مظلم مغلف بالتشدد الوهابي، المبتعد عن الحضارة السائدة في العالم الحديث، ليضفي عليها سمات من التوجه تدريجيا للارتقاء نحو حضارة القرن الحادي والعشرين.
فقد أقدم على خطوة جريئة تسمح للمرأة السعودية بقيادة السيارة بعد أن كان ذلك محظورا عليها، منذ اليوم الذي شهد استغناء السعوديين عن التنقل راكبين جمالهم، مستبدلين بعيرهم المتعب بالسيارة. كما اذن بوجود دور للسينما في السعودية، وسمح للزوجات بمرافقة ازواجهن الى حفلات الغناء والسمر بعد أن كان حق حضورها محصورا بالرجال. وظهرت تلميحات أيضا تعد باحتمال بناء كنيسة أو كنائس في مدن سعودية معينة لا تشمل مكة المكرمة أو المدينة المنورة، بل وأطلق الوعود بتطورات اقتصادية هامة، ومنها مشروع “نيوم” الذي يتوقع أن تبلغ كلفته الخمسمائة مليار دولار، الى وعد بتحويل السعودية لدولة صناعية قبل بلوغ عام 2030.
ولكن هذه التطورات الواعدة كلها، لم تكن الا تمهيدا لخطوة أكبر، تسعى لتخدير عقول السعوديين، استعدادا لتفعيل الشروع بحرب أخرى، رغم عجزه وبعد ثلاث سنوات من القتال، عن حسم حربه الأولى ضد اليمن والتي تسببت وللمرة الاولى، بظهور عجز كبير في الميزانية السعودية اضطرت السعودية للتعويض عنه ببعض من مخزون احتياطها المالي، اضافة الى فرض بعض الضرائب على المواطن السعودي، ورفع سعر البنزين في بلد النفط ذات الاحتياطي النفطي الأكبر في العالم، كما أدت الى التخلي عن بعض المشاريع التطويرية الحيوية للبنية التحتية.
ولكن تلك الخطوات كانت تمهد في حقيقة الأمر لتطور أهم، وهو استبدال حالة العداء مع اسرائيل، الى حالة من الود والصداقة البالغة حد التحالف السياسي والعسكري معها، نظرا للحاجة لمشاركتها الفعلية في حرب “حزمه” الجديدة القادمة، والتي طالما حلمت السعودية بالشروع بها، من أجل اغتيال الدولة المنافسة لها على قيادة دول الشرق الأوسط والدول الاسلامية، اضافة الى انهاء معوقات انتصارها في حرب الحزم اليمنية، والتي رجحت تقديرات الأمير محمد بن سلمان بأن دعمها لليمن، هو السبب المباشر لعجزه عن حسمه بحزم عاصفة الحزم، كما قدرت رؤيته الشبابية بأنها (أي الحرب مع ايران) حرب قادمة ومنتصرة لا محالة نظرا للتحالفات التي اعدها للمشاركة في خوضها.
غير أن التطورات اللاحقة والمتسارعة، أخذت تكشف عن وجود معوقات استراتيجية عديدة تحول دون الشروع بحرب مبكرة كهذه، ومن أهمها حاجة الولايات المتحدة لحسم الموقف مع كوريا الشمالية، ولظهور تقديرات لأجهزة المخابرات الاسرائيلية ولأساتذة جامعاتها وغيرهم من المخططين والمفكرين الاستراتيجيين في الدولة الاسرائيلية، تحذر من احتمال مواجهة اسرائيل لحرب أو مناوشات جدية كبرى في ثلاثة مواقع هامة هي الجولان وجنوب لبنان وغزة….وهي حرب أو مناوشات تفرض على اسرائيل التأني في الشروع بتلك الحرب التي تشكل حلما سعوديا، وذلك بغية التفرغ للتعاطي مع احتمالات التطورات العسكرية المتوقعة، والتي يرجح المراقبون والمحللون السياسيون، أنها تشكل ولو بشكل غير مباشر، الرد الايراني المسبق، على المخطط الاسرائيلي السعودي والذي كان الى حين مقترنا بدعم ومباركة أميركية.
ففي عمق الرؤية والتحليل، يرجح بعض المحللين السياسيين بأن الرئيس دونالد ترامب، رغم عدم خبرته في القضايا السياسية ومنها الخبرة في التحليل الاستراتيجي لجوهر النزاعات القائمة ، بل ورغم ابتعاده بعدا شاسعا عن العلم بالمقتضيات العسكرية للحروب وآثارها الدامية..هذا الرجل بعقله البسيط، ولا أود القول كعقل طفل صغير، لا يدرك خفايا السياسات ومؤامراتها… قد توصل كما يقول بعض المحللين، الى قناعة بضرورة الشروع بحرب ضد “مستر صاروخ”، أي “كيم جون أونج” رئيس كوريا الشمالية…. والشروع بها اليوم وليس غدا، خصوصا بعد تعليمات الرئيس أونج العلنية لرجاله ولعلمائه، في خطابه بمناسبة العام الجديد، بوجوب استكمال البرنامج الكوري الشمالي الصاروخي والنووي، خلال عام 2018.
فالقناعة الأميركية الترامبية، بدأت تتبلور بوجوب الشروع بالحرب على كوريا الشمالية، الآن وليس بعد حين، لأن الانتظار لمدة أطول، قد يأذن لكوريا الشمالية بأن تشكل خطرا أكبر على الولايات المتحدة. فاذا كانت تملك القنبلة النووية، ويقال بأنها قد طورت بناءها لتصبح هيدروجينية، ولكنها لا تملك الصواريخ القوية قوة كافية لتصل الى قلب الولايات المتحدة، فان الانتظار لعام آخر، أو لمدة أطول، سيمكن صواريخه من بلوغ العاصمة واشنطن، بعد أن كانت حتى الآن قادرة على الوصول الى بعض المواقع الأميركية في المحيط الهادىء كولاية هاواي، أو شواطىء الغرب الأميركي كولايتي كاليفورنيا أو (ولاية) واشنطن مثلا.
فالانتظار حتى نهاية عام 2018 ، كما يعتقد ترامب، سيمكن “مستر صاروخ” كما يسميه الرئيس الأميركي، لتصبح صواريخه قادرة على الوصول الى قلب العاصمة، والى البنتاغون ذاته، التي وصلها أصلا من قبله، في عام 2001، حفنة من الطيارين السعوديين المنتمين لتنظيم القاعدة، فقصفوها بصواريخهم، وقتلوا بذاك القصف مجموعة من الضباط الأميركيين العاملين هناك، وكان بينهم بعض الجنرالات الأميركيين.
وحتى في حالة تعذر تطوير صاروخ كوري بعيد المدى ليصل الى العاصمة واشنطن، ما الذي يحول دون كوريا الشمالية من اللجوء لنهج سابقة تنظيم القاعدة، فيرسل طائرات أو مجرد طائرة تحمل قنابل نووية، تنجح في تجنب الرادارات الأميركية، لتصل الى واشنطن، فتدمر البيت الأبيض بقنبلة نووية، والبنتاغون بقنبلة أخرى، محيلة واشنطن بمخابيء وأقبية قياداتها التي تدير سلاحها النووي، الى هشيم بعد أن كانت مركز القوة، ووسيلة التهديد والسيطرة على دول العالم باعتبارها القطب الأوحد المزعوم في المخيلة الأميركية. ألم تلجأ الولايات المتحدة قبل 72 عاما الى استخدام الطائرات وليس الصواريخ، لالقاء قنبلتيهما النوويتين على هيروشيما وناكازاكي. فما يحتاجه الرئيس اونج ليس فحسب، مجرد تطوير صواريخه بعيدة المدى، بل أيضا دراسة وسائل تجنب الرادارات الأميركية وقبتها الحديديةـ لتمكين طائراته من تجنب الرادارات الأميركية، تماما كما تجنبت الطائرات اليابانية في بداية أربعينات القرن الماضي، تلك الرادارات، واستطاعت بالتالي الوصو الى “بيرل هاربر” في ولاية هاواي، لتدمر الأسطول الأميركي المتواجد في موانئه.
وبينما يقول دانيال فرانكلين – رئيس التحرير التنفيذي في صحيفة الايكونوميست، أن كوريا الشمالية مصممة على توجهها ذاك القاضي بتطوير سلاحها النووي والصاروخي، لا تنفي ناطقة بلسان البنتاغون أجرت قناة سي أن أن حوارا معها يوم الاثنين، اليوم الأول من العام الجديد، ما يدعيه “مستر صاروخ” عن قدراته الصاروخية والنووية، ولكنها تصفها بالاحتمال النظري حتى الآن، وذلك في وقت يحذر فيه “مايك مولان” ، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الأسبق، على ضوء تصريحات الرئيس :”أونج” بأن زر اطلاق القنابل النووية على طاولته وجاهز للضغط عليه … من اقتراب حقيقي لنشوب حرب نووية مع كوريا الشمالية، وقد تمتد وتتسع لتشمل دولا أخرى اضافة الى الولايات المتحدة وكوريا الشمالية ، مما يرجح أن قوله ذاك هو اشارة الى احتمال تدخل روسيا والصين بحرب كهذه.
ولعل هذا ما يعول عليه الرئيس اونج عندما يهدد بالضغط على الزر النووي الذي على مكتبه. فهو يريد اشعال حرب تستدرج لها كلا من الدولتين العظميين روسيا والصين، لتتحول الى حرب عالمية ثالثة قد تنهي الغطرسة الأميركية على البلاد الصغيرة، ومنها كوريا الشمالية.
وبينما يرى البعض ان التهديد النووي الكوري الشمالي، قد يشكل تهديدا فعليا لكوريا الجنوبية ولليابان، يرجح السناتور الجمهوري ليندزي جراهام، في لقاء على سي بي أس ولقاء آخر مع مجلة اتلانتيك الأميركية، بأن احتمالات الحرب مع كوريا الشمالية قد بلغت نسبة 30 بالمائة. ويبني السناتور “جراهام” تقديره ذاك على لقاءات مطولة أجراها مؤخرا مع الرئيس ترامب. ويرجح بعض المراقبين في الولايات المتحدة وفي غيرها، احتمالات نشوب الحرب، نتيجة ضربة أستباقية أميركية لكوريا الشمالية، فيرد عليها الرئيس أونج بضربة مقابلة، أو تتطوع روسيا للرد عليها بضربة مقابلة نيابة عنه، هدفها التحذير من اندفاع الرئيس ترامب، نحو مزيد من الضربات.
فهذه التطورات كلها مع بداية العام الجديد، باتت ترجح احتمال التوجه الأميركي نحو وضع المسألة الايرانية على قائمة الانتظار ولكن لبعض الوقت، وخصوصا بعد اندلاع التحرك الشعبي في ايران قبل اطلالة العام الجديد بيومين، واشتداده على شكل مظاهرات عارمة عشية وصول العام الجديد.
فالرئيس ترامب قد نوه في تغريدة له على تويتر، بأن التغيير قادم لا محالة في ايران. ولكنه على أرض الواقع، ربما لا يعول على مجرد التظاهرات الشعبية التي قد تخمد بعد أيام قليلة، خصوصا بعد مقتل اثني عشر من المتظاهرين واعتقال مائتين منهم… بل اعتمادا منه على توجه آخر يقتضي اشعال حروب أهلية في ايران تقودها الاثنيات الايرانية غير الفارسية.
فهذا نهج لجأ اليه الرئيس جيمي كارتر سابقا في نهايات عام 1979 ، عندما تأكد له أن الامام “روح الله خميني” الذي ساعده بريزينغيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر، على الوصول الى السلطة، معولا على أنه سيكون صديقا وداعما للولايات المتحدة، واذا به يقلب لهم ظهر المجن فيسمي أميركا بالشيطان الأكبر. ففي تلك المرحلة اندلعت عدة ثورات في أقاليم مختلفة من ايران، وكنت أنا يومها متواجد كاعلامي في ايران، وقمت بتغطية بعضا من نشاطاتها المتعددة.
ففي هذه المرحلة تمردت في شرق ايران، قبائل البلوش المتواجدة في منطقة بلوشستان المحاذية للحدود الباكستانية والافغانية، كما تمرد العرب في خوزستان الواقعة في جنوب ايران. وفي آن واحد تمرد الأكراد في غرب ايران، وانطلقت ثورتهم من مدينة “مهاباد عاصمة الاقليم الكردي الايراني، لتنتشر في جبال الاقليم المحاذية للحدود العراقية والتركية، كما تمرد التركمان في شمال البلاد، في منطقتهم المحاذية للدولة الأم تركيا. وحصلت كل هذه الثورات والتمردات في آن واحد، وكأن عصا سحرية قد اطلقت العنان لهم ليتمردوا على الحكومة الموالية للامام خميني.
ومن هنا، قد يكون الرئيس ترامب يعول الآن على حركات تمرد أخرى للقوميات الأخرى غير الفارسية، لتضم صوتها الى صوت المظاهرات المعارضة والتي لم تحدد هويتها ودوافعها بعد، اذ قد لا تشكل مجرد احتجاجات على الغلاء والبطالة والفساد كما يقال، فربما كان لها محرك آخر سواء من الداخل، من التيار الايراني المحافظ والمعارض (رغم رفع بعض الشعارات ضد خامئني) ، أو من الخارج متمثلا بأصابع أميركية وربما عربية أيضا.
فالاحتمال قائم كما يعتقدون، بامكانية احداث التغيير الذي يريده تحالف ترامب والسعودية واسرائيل، علما أن ايران لم تكتف آنئذ بقمع تلك الثورات خلال بضعة شهور، اذ لاحقت قياداتها أيضا. فاغتالت فيما بعد “قاسم لو” الذي قاد التمرد في كردستان ايران، وذلك أثناء تواجده في أحد العواصم الأوروبية. كما جرى نقل عدد من أيات الله وحاملي لقب حجة الاسلام، وخصوصا الذين لهم جذور عربية، أو لديهم تعاطفا مع توجه سكان المنطقة من أصل عربي، الذين الكثير منهم لا يجيدون التحدث باللغة الفارسية، فلا يعرفون من اللغات الا اللغة العربية…نقلوا رجال الدين أولئك، من جنوب ايران المحاذي للمناطق العربية، الى “قم” مركز الافتاء الشيعي وقاعدة آيات الله، وغالبيتهم من أصل فارسي.
فعلى هذا المنوال يتوقع البعض أن يسلك دونالد ترامب، ليس نتيجة عدم رغبته بمقاتلة ايران والحاق هزيمة بها، بل نظرا لانشغاله بالمسألة الكورية التي تتفاقم صعودا يوما بعد آخر، مما يضطره للتفرغ لها ولو الى حين، كما يعتقد ترامب ويقدر هذا المخطط الاستراتيجي حديث الخبرة بالتخطيط الاستراتيجي، والذي لم يدرك بعد أن المخطط الاستراتيجي الخبير في التخطيط، ينظر الى الاستراتيجية في نهاية مسارها وليس في بداياته.
فمن خطط لاشعال ثورة في سورية بغية اسقاط الرئيس بشار الأسد، لم يتوقعوا قط أن يسقطوا هم في التهلكة والضياع، وأن يبقي الرئيس الأسد رئيسا، معززا بتأييد شعبي وبتواجد روسي غير قابل للالغاء في وقت قريب. والأميركيون الذين جاءوا بالخميني لتعزيز مقاومة الاسلاميين لاحتمالات سيطرة اليساريين على السلطة، انقلب الخميني عليهم في نهاية المطاف، لا بل في بداياته، ليصبح العدو الأشد للأميركيين. والرئيس ترامب ان عزم فعلا على توجيه ضربة استباقية لكوريا الشمالية، لا يدرك بعد عواقب خطته الاستراتيجية هذه في نهاية مطافها، اذ قد تؤدي لاشعال حرب أكبر كثيرا من المتوقع، وقد تصل الى حرب عالمية تدمر حضارة القرن الحادي والعشرين.
فالصراع بين “مستر صاروخ” الكوري ومستر “لا لا لا”: أي الرئيس الأميركي الذي اكتسب هذا اللقب بجدارة نتيجة قوله “لا لا لا” لكل شيء: من اتفاقية المناخ الى اتفاقية الهجرة المقررة دوليا، الى مشروع “اوباما كير” الصحي الذي يتعاطى برأفة مع حالات الأميركيين الصحية وخصوصا ذوي الدخل المحدود منهم، ولغيرها من الاتفاقات التي التزمت بها الولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما…لكنه الآن لا يقول “لا” لاحتمالات توجيه ضربة استبقاية لكوريا الشمالية، قد تؤدي لحرب أوسع من مجرد حرب مع كوريا الشمالية، رغم نه على أرض الواقع يستمر كعادته بقول “لا لا”، ولكن لمعارضي تلك الحرب أو لتلك الضربة الاستباقية. فكلا من ريكس تيليرسون – وزير خارجيته، وجون ماتيس – وزير دفاعه، وهربرت فاكماستر – مستشاره في الأمن القومي، قد نصحوه جميعا بتجنب خطوة كهذه والدخول في مفاوضات مع كوريا الشمالية. الا أنه قال “لا لا ” لنصائحهم، وظل مصرا على قول لا لا لا… لهم.
وهكذا بات علينا ان نراقب وننتظر من سيفوز: “مستر صاروخ” أم مستر “:لا لا لا” الذي قال الآن “لا” للحرب مع ايران في الوقت الحالي، وربما لا للاستعجال في تنفيذ صفعة” القرن، والتي ربما قالهما أيضا ولو همسا، في أذن الأمير محمد بن سلمان، الذي يبدو أن جهوده في التحضير لحرب مع ايران…قد ذهبت هباء ولو الى حين.
كاتب ومحلل سياسي