رسالة إلى كلمة!
مقالات مختارة | مفيد فوزي
السبت ٣ مارس ٢٠١٨
تعلمين بيقين مدى حبى وغرامى بك.. همساً وحروفاً وإيقاعاً وموسيقى، وتعلمين كيف جعلت منى القارئ والكاتب والمحاور! فمنذ صار لى عينان تبصران الجريدة لأول مرة وكنت صبياً وقعت فى غرام الحروف ولم أبرأ!، ولا يزال الحرف المطبوع فى حضن كتاب هو نبع العرفة فى عقلى، ولا يزال للورق رائحة مهما حاولت تكنولوجيا العصر أن تهزمها، لا يزال للكتب أرفف تنام عليها وتتغطى بدفء اهتمامى، ملايين الحروف ترقد فى مكتبتى وتلك أثمن ثروة!. أنا مفتون بالكلمات قارئاً قبل أن أحترف الكتابة وصارت أدواتى للتعبير. مرة أنت مطيعة ومرات تصبحين عصية، لكنك دائماً حاضرة على سن قلمى. أرسم حروفاً تتشابك فتغدو كلمة لها دلالة وعندما تمر العين على حروف كلمة فإنها تحمل للعقل المعنى الذى تضمره، نعم تحمل لى على جناح فراشة معانى الحروف. فكلمة حب من حرفين ودلالتها عقد اتفاق بين اثنين. وكلمة حرب تطوى داخلها النار والدمار، كان أنيس منصور يقول لى: حين يزورنى خاطر ما يغرينى بالكتابة تتسابق الحروف وكأنها تعرض خدماتها على قلمى!. وكان الرسام الكبير صلاح طاهر يقول إن الحروف والألوان كلتاهما تتبارى لتقنعنى بأهميتها. كلتاهما تعلم أنى قادر على التعبير بالحروف مثلما أرسم الوجه بالألوان، وكان الشاعر نزار قبانى يملك فى بنوك اللغة «ودائع» نزارية ينفق منها فى صياغة قصائده!. ويقسم لى أحمد رامى أن ما كتب من طقاطيق عاطفية لأم كلثوم كانت بقلم الوجع والبعاد. لقد علمتنى الحروف أن أقول «أدب الافتقاد» ولا أقول أدب الرثاء. علمتنى أن الألم هو ألم الجسد وأن الوجع هو ألم النفس.. علمتنى حروف اللغة العربية كيف أحبها وأفتتن بها وأزهو. علمتنى كيف أحنو على الفصحى وأهيم مع العامية ربما بعد ما قال طه حسين فى عبارة صريحة «لست أخاف على الفصحى إلا من عامية بيرم»، وكان عميد الأدب يقصد بيرم التونسى الذى «لعب بالحروف وأمرها فصارت له صاغرة»، ولم أكن أعرف قبل أن ألتقى بكامل الشناوى فى فجر حياتى العملية أن للكلمات «جرس موسيقى». وحين تعرضت اللغة إلى ازدراء واهتراء، كنت أحزن ولكن ليس بمقدار حزن فاروق شوشة أحد حراس لغتنا الجميلة، ولولا صيحات هنا وهناك لإنقاذ اللغة من الانحدار لبقيت فى القاع ذليلة!.
مرت فى زمانى كلمات تبدأ بحرف الخاء، ولم أستملحها مثل خراب وخواء وخسة وخذلان وخسارة وخسئت وخنوع وخنجر، ولا أعرف علاقة حرف الخاء بهذه المعانى، وأحببت كلمات تبدأ بحرف التاء مثل تدبير وتوضيح وتبرير وتنوير وتقرير وتقدير وترسيخ وتفضيل وتهميش وتغريد وتصفيق، وتشجير وترتيب وتنفيد وتعمير وتعميق وتدقيق.
عشت وتألمت عندما شاعت فى أوقاتنا كلمة «مقاطعة»، وظنى أنها مولودة للانتخابات وبالدخول فى جوف الكلمة وجدت: موقفاً بلا موقف، وصراخاً بلا صياح، واستشكالاً بلا قضية وغضباً بلا سند وهذياناً بلا مبرر ونباحاً بلا صدى ودمعة بلا جفن وابتسامة ما لها شفاه!. وقد كان من الممكن احترام المقاطعة لو كانت لبضائع إسرائيلية احتجاجاً على مواقف أمريكية بايخة أو قرارات مؤذية للمسيحيين فى القدس ولكنها مقاطعة للكيان المصرى وحق الرأى فى حاكم الغد فى مصر. وبالدخول أكثر فى تجويف الكلمة اكتشفت أنها «أفعال الصبية» وهم رجال، وأنها «جهل مركب» وهم نخبة. فلماذا لا تذهب للامتحان وتنال صفراً؟ لماذا تنام فى سريرك ولك مقعد يحمل اسمك فى خيمة الامتحان؟، فمن أنت يا صاح على طريقة السينما؟ هل تريد عودة مرسى؟ محال! هل تحلم بفوضى؟ محال! هل تريد إسقاط الدولة؟ محال!.. فمرسى لن يعود والحلم بالفوضى وهم وإسقاط الدولة من سابع المستحيلات، وبالدخول القيصرى لتجويف الكلمة يثبت لى أن صاحب «المقاطعة» يفتقد الرشد والرشد كناية عن العقل وعندما يضيع الرشد من إنسان يفقد البوصلة ويجهل جغرافية الجهات الأربعة!.
عزيزتى الكلمة، لم أكره من حروفك سوى حروف إذا تشابكت بعينيها صدَّرت لى جبناً ونفاقاً وحملت لى أتربة العفن، فداخل كل كيان سياسى ذباب وصراصير وعقارب وثعابين، يأخذون شكل البشر لكن أقوالهم تفضحهم وأعمالهم ومواقفهم المخزية تدينهم.
صحيح ما قاله عبدالرحمن الشرقاوى «أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة فى كلمة، ودخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة نور وبعض الكلمات قبور».
الكلمات ليست صامتة وليست مجرد أصوات نطلقها أو أحرف نكتبها، إنها شهادة وأمانة.
عزيزتى الكلمة: قضيت العمر مع حروفك ولم تكن نزهة خلوية بل كانت مسؤولية، أكثر من خمسين عاماً وأنا أقابلك على ساحة أوراق بيضاء وأقلام فلوماستر أكتب فوق سطور الحرفية ملتزماً المهنية، لم أكتب شيئاً من وراء قلبى. بل كنت ومازلت أستخدم أقل الحروف عدداً، كلمة لا!، قلتها كثيراً وتحملت مضارها، عرفت طعم الفصل من العمل بسبب كلمات وجعت السلطة وحين عدت للعمل أخرجت الحروف فى مظاهرة ترحب بى وتفتح صدرها لاستقبالى، أشرعت قلمى وأبحرت ومازلت أبحر وسط أنواء صعبة وما أفخر به أنى لم أتلق عتاباً على كلمات نطقت بها ضد وطنى أو مخالفة لضميرى، لم أتنكر لولاء عشته بل جاهرت به لأن الإنصاف كان رائدى، ولم أقاطع انتخابات ولم ألوث النيل.
نقلا عن المصري اليوم