ميت فى الشرق حى فى الغرب!
مقالات مختارة | بقلم مفيد فوزي
السبت ٣١ مارس ٢٠١٨
■ كنت أظن أن المجتمع المصرى قد أصابته آفة الضحالة وبات محصوراً فى نابغة الكرة محمد صلاح والاستديوهات التحليلية للمباريات وليس لأوجاع أمة تعانى من كثافة سكانية ونسبة لا يستهان بها فى الأمية، ولكن بعض الأسباب قد تؤدى إلى نتائج لم تخطر على البال، لقد كنت ومازلت أقول إن الدور السادس فى أهرام هيكل كان أهم صالونات الفكر والأدب، وكان ما يطرح فى تلك الحجراتله صدى فى المجتمع، وبعد أن سكن التاريخ الحكيم ومحفوظ وإدريس وصلاح طاهر وثروت أباظة وزكى نجيب محمود وبنت الشاطئ وجمال حمدان وسيد عويس وأحمد خليفة وعبدالرحمن الشرقاوى وعبدالقدوس وأحمد بهاء الدين والسباعى وفتحى غانم، ظننت أن البلد أصيب بالعقم.
لقد انحسرت الصفحات الأدبية والثقافية وطغت صفحات الرياضة والسياسة، وما عادت قضية فلسفية تناقش أو كتاب مهم صادم يحتل مساحة اهتمام، وانزوى الأدباء وتقلص دور العلماء واختزلت سيرة زويل فى جامعة تحمل اسمه وطغت فتاوى دينية سرعان ما تبخرت وبات العقل المصرى محاصراً بالإرهاب من جهة وبالمطالب الحياتية من جهة أخرى حتى إن المطابع المصرية المخلصة للحرف العربى مشغولة بطبع «أمنا الغولة» و«نسوان زمن»، وهى الكتب الرائجة فى معرض الكتاب يناير 2018.
كنت فى الواقع أستكين بحزن لهذه الحالة من الجدب حتى ألح علىّ خاطر ما وبدلاً من السكون، اتصلت ببنك المعرفة المشتغل بالفلسفة أسأله عن عنوان كتاب لابن رشد الذى بثه على هواء الإعلام، وقال لى محدثى أيقونة الفكر د. مراد وهبة: لماذا اهتمامك بابن رشد؟ قلت تابعت كل حواراتك وآخرها مع الذكى د. خالد منتصر، وشعرت أننا فى حاجة لهذا العقل التنويرى.
وفجأة انفعل د. مراد وهبة، وقال: ابن رشد هذا، فيلسوف ميت فى الشرق وحى فى الغرب، ووجدت نفسى أردد وراءه هذه العبارة ذات الدلالة، فإذا به يستطرد: فلسفة ابن رشد من جذور التنوير الأوروبى يا أستاذ، قالها بأسى، فقلت له «أريد كتاباً عن ابن رشد يبصرنى بمحاور فكره ومنهجه التنويرى»، قال ضاحكاً: هذه شجاعة منك أن تعلنها ولكن مفيد فوزى الذى يطرح الأسئلة الصعبة القابلة للإجابة والعصية على الحل يقوم بمغامرة! قلت للدكتور مراد: مغامرة؟ هل البحث والتنقيب فى الفكر صار ازدراء؟ وردد، مراد: ربما لا تعرف أنى فصلت بقرار من السادات بسبب ابن رشد إذ اعتبروا تدريسه جريمة، وأعادنى مبارك بقرار جمهورى إلى عملى! أعترف أن المعلومة كانت جديدة، وشعرت بفضولى يقودنى: كيف أحصل على فكر ابن رشد؟ قال د. وهبة: انتظر تليفون من الأستاذ جرجس شكرى!
■ بعد أيام قليلة، تلقيت مكالمة من الأستاذ جرجس شكرى الذى كنت أجهل مهمته، وقال لى: هل وجدت شيئاً عن ابن رشد؟ قلت له: اشتريت من مكتبة الهيئة العامة للكتاب.. كتيبا قوامه 112 صفحة بعنوان مفارقة ابن رشد، وهالنى الثمن وربما أخجل أن أقوله لك، سألنى الأستاذ جرجس بدماثة: كم دفعت؟ قلت بغيظ: دفعت 7 جنيهات فى كتاب يحمل اسم أكبر عقول مصر الراجحة د. مراد وهبة وثمن فنجان القهوة فى قهوة لوتس خمسون جنيهاً؟ أليست هذه مفارقة؟ قال الأستاذ جرجس: سوف نرسل لك أهم كتب بن رشد «تهافت التهافت جزء 1 وجزء 2 وفصل المقال» وسوف نزودك بكتب أخرى مهمة، عن الجيش المصرى فى الحروب الروسية والبطل إبراهيم باشا والجيش المصرى والبحرى وحى بن يقظان وتخليص الإبريز والمرشد الأمين ومناهج الألباب والكوميديا الإلهية.
قلت للأستاذ جرجس شكرى: أرجوك زدنى إحاطة بك، من أنتم؟ قال بهدوء أخجلنى: نحن الهيئة العامة لقصور الثقافة، الإدارة العامة للنشر الثقافى وأنا أمين عام النشر.
■ جاءتنى الكتب التى أعتبرها «نوارة» مكتبتى المتواضعة وتصفحت الذخائر، فوجدت السلسلة تحمل اسم الذخائر، وهى «تعنى بنشر نفائس التراث العربى بالمستوى الذى يحقق رغبة القارئ المعاصر من حيث التحقيق العلمى وحيوية المضمون المعرفى».
رئيس مجلس الإدارة: صبرى سعيد ورئيس الإدارة المركزية للشؤون الثقافية: حسين صبرة ومدير عام النشر، عبدالحافظ بخيت والإشراف الفنى: د. إسلام عبدالحميد زكى، وهيئة التحرير مكونة من د. محمود إسماعيل رئيساً لتحرير السلسلة، وهلال عبدالرازق مديراً للتحرير وأحمد سليمان سكرتيراً للتحرير.
لماذا حرصت على نشر أسماء هذه السلاسل من الذخائر ومن هم «الصامتون المحترمون» وراء هذا الجهد الذى يجهله الناس، وكان د. مراد وهبة قد أشار إلى اسم الأستاذ شكرى دون ذكر وظيفته، ومن ثم كان هذا اكتشافاً بالنسبة لى، فما زال جنود ثقافة فى البلد، صحيح أن صوتهم خافض ولكنهم «موجودون» يحققون التراث ويتعقبون الشهادات ويحللون المحتوى والمضمون. ما زال نهر الثقافة يجرى رغم أن الإعلام لا يسلط عليه الضوء. ما زال هناك اهتمام بالبحث عن نفائس ثقافتنا، وكنت أظن أنها تاهت فى الزحام، لابد أن أعترف أن سلسلة الذخائر أعادت لى الأمل فى زمن جميل آخر وأسماء كبيرة ترصع شارع الأدب والثقافة، تعيد ضخ المعرفة فى وجدان المصريين الذين سيدركون أن «غذاء الفكر» لا يقل عن غذاء المعدة، إن لم يتجاوزها.
■ ابن رشد، اتهموه بالكفر والزندقة وأحرقت مؤلفاته فى قرطبة، أكثر الأفكار الخلافية عند ابن رشد هى «العلمانية» ويمكن صياغتها بألفاظ إسلامية وفق قول د. مراد، الذى يرى فلسفة ابن رشد تصلح أن تكون جسراً بين العالم الإسلامى والغرب. هناك الآن «الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير» وفى 1998 يكون قد مر 800 عام على موت ابن رشد، مات ابن رشد وعمره 71 سنة ونقل جثمانه إلى قرطبة على ظهر بهيمة حملته إلى مثواه الأخير، وضع التابوت فى جهة ومؤلفاته من الجهة الأخرى.
■ «تهافت التهافت» هو الكتاب الذى فجر المعركة بين الغزالى وابن رشد، هى المعركة بين «تهافت الفلاسفة» و«تهافت التهافت» وفى تهافت التهافت لا يكتفى ابن رشد بتفنيد حجج الغزالى، بل يحاول تحليل شخصيته ويصفه بأنه «مداهن وخبيث» وقال إن إتيانه أقوالا سفسطائية، هو لمداهنة أهل زمانه.. وابن رشد يقسم الشريعة إلى ظاهر وباطن والباطن يخضع للتأويل والتأويل عند ابن رشد هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، ويرى ابن رشد أن المؤول معرض للخطأ ومن أجل تجنب الوقوع فى الخطأ والحد من إفراط الصوفية فى التأويل، قال ابن رشد إن التأويل يأتى من الراسخين فى العلم، والرشدية فى نظر د. مراد وهبة «أدت» دوراً مهماً فى تأسيس تراث قادر على التساؤل عن مكانة الدين بالنسبة للعقل، وهنا هو التنوير، أى إعمال العقل لفهم طبيعة العبارات الدينية، وبذلك ينتقى عالم الأسرار.
نقلا عن المصري اليوم