الأقباط متحدون - العنصرية والمجتمع الحديث
  • ١١:١٣
  • الثلاثاء , ١٠ ابريل ٢٠١٨
English version

العنصرية والمجتمع الحديث

مقالات مختارة | محمد المحمود

٠٥: ١٠ ص +02:00 EET

الثلاثاء ١٠ ابريل ٢٠١٨

العنصرية والمجتمع الحديث
العنصرية والمجتمع الحديث
بقلم محمد المحمود/
 
يختلف المجتمع الحديث عن المجتمع القديم؛ من حيث البنية العامة للعلاقات التفاعلية على مستوى الداخل/ داخل المجتمع الواحد، وعلى مستوى الخارج/ خارج المجتمع أيضا.
 
المجتمع القديم هو ـ في الأغلب الأعم ـ مجتمع مغلق على الخارج؛ بقدر ما هو منفتح على الداخل. أي أن العلاقات بين أفراده، أولئك الذين تذوب فرديتهم في العام والكلي، تتميز بمستوى عال من الانفتاح الذي يسمح بانكشاف الكل أمام الكل، ومعرفة الكل بالكل، ومن ثم؛ ثقة الكل بالكل. يقابل هذا الانفتاح على الداخل انغلاق ارتيابي بالخارج/ بالغريب الذي يصبح ـ مع تطاول الزمن الانغلاقي ـ مجهولا، وبالتالي؛ محل ريبة وتوجس، وربما عداء صريح.
 
من هنا يمكن ـ بشيء من التعميم التغليبي ـ وصف المجتمع القديم بالمجتمع العنصري أصالة، أي المجتمع الذي يتشكل بفعل التضامن ذي النفس العنصري الذي غالبا ما يقوم على أساس رابطة الدم، تلك الرابطة القدرية الأزلية المغلقة بطبيعتها، والتي لا مجال فيها للاختيار؛ قبولا أو رفضا. وبهذا نرى كيف يعكس المجتمع العنصري، أو المجتمع الذي ينطوي على كثير من التفاعلات العنصرية، حالة بدائية جدا، مرحلة أولى من مسيرة التطور الإنساني؛ حتى وإن تموضع في سياق حديث، بل حتى وإن تموضع في سياق حداثي أو ما بعد حداثي.
 
مجتمعاتنا العربية/ الإسلامية التي لا تزال تنطوي على كثير من الرؤى العنصرية تأبى إلا أن تعاند حقائق واقعها اللاإنساني
أيا كانت طبيعة المجتمعات العنصرية، فهي في الحقيقة تعاني من إعاقة ذهنية/ عاطفية في تصورها للإنسان، حيث نجدها تمارس تصنيفا للإنسان بناء على ما هو "غير إنساني".
 
الإنسان وجد أولا كإنسان، ثم اكتسب لأسباب إرادية وغير إرادية صفات إضافية، دينية ومذهبية وعرقية وجغرافية/ وطنية وجنسية وملامح جسدية...إلخ. ولو تأملنا هذه الصفات الإضافية الطارئة على الأصل الإنساني؛ لوجدناها لا تغير شيئا ذا بال في حقيقة ولا في مستوى الصفة الإنسانية الأولية/ الأصيلة التي اكتسبها الإنسان بمحض وجوده العيني/ المادي المباشر في الواقع.
 
المجتمعات العنصرية تنظر في اتجاه معاكس، اتجاه مشاكس للوجود الإنساني الأولي. إنها تجعل من الصفات الإضافية، بل من أحدها، الأصل الحاكم على الأصل الإنساني، بينما يصبح "الأصل الإنساني" إزاء هذه الصفات الإضافية مجرد فرع هامشي ملحق بالأصل المدعى افتراضا؛ إلى درجة يستطيع بها هذا الأصل المدعى/ المفترض إلغاء "الأصل الإنساني".
 
فمثلا، يمكن للاختلاف الجنسي أن يجعل الذكر العنصري يمارس عنصريته ضد المرأة، فيلغي إنسانيتها أو جزء من إنسانيتها (وهو الأصل الإنساني هنا)، بقوة الصفة الإضافية، الذكورة. وبالتالي يتصرف على أساس أن من ليس ذكرا فليس إنسانا.
 
وكذلك الأمر في الاختلاف الديني أو المذهبي، فالمسلم العنصري يرى الاستحقاق الإنساني للمسلم فقط، ومن ليس بمسلم فليس له مطلق الصفة الإنسانية. والمسلم السني العنصري يرى الاستحقاق الإنساني للمسلم السني فقط، ومن ليس بمسلم سني فليس له مطلق الصفة الإنسانية.
 
وكذلك الأمر في الوطنية، إذ يرى الوطني العنصري أن المنتمين لوطنه هم وحدهم الأحق بمطلق الصفة الإنسانية، ومن ليسوا من مواطنيه، فإنسانيتهم ناقصة/ غير معتبرة. ولهذا تراه يسمح بالتجاوزات اللاإنسانية بحقهم دونما تأنيب من ضمير. وقس على ذلك بقية الصفات الإضافية/ الانتماءات الإضافية التي يلغي بها العنصري الأصل الإنساني بتشريطه لمطلق الإنسان.
 
المجتمع الحديث الذي ينتمي إلى عالم الحداثة هو مجتمع إنساني بالضرورة، لا بضرورة التتابع الزمني، بل بضرورة المرجعية ذات الطابع الإنساني، وتحديدا مرجعية تراث عصر الأنوار الأوروبي الذي رفع شعار الإنسانية بـ"حريتها" و"مساواتها"، و"إخائها"؛ بعد أن نقل الإنسان من الهامش إلى مركز.
 
طبعا، لم يحدث هذا بطفرة استثنائية، ولا على نحو مفاجئ، وإنما كان عصر الأنوار، وخاصة مرحلة ما قبل الثورة الفرنسية بعقدين أو ثلاثة وخلالها، هو عصر الإعلان عن أولوية الحق الإنساني وتأكيده على نحو مكثف وصاخب ودافع لمسارات عملية بقوة دفع الحراك الثوري.
 
لكن كل هذا لم يحدث من فراغ، فجذوره الحقيقية ترجع إلى بدايات الحركة الإنسانية/ الهيومانية في القرن الثالث عشر/ عصر النهضة الإيطالية التي مثلت بداية الانبعاث الأوروبي/ الغربي.
 
على أية حال، لا يعني هذا أن كل المجتمعات الحديثة هي بالضرورة ـ مجتمعات إنسانية متجاوزة لكل صور التعنصر اللاإنساني، وإنما تأكيدنا على إنسانية هذه المجتمعات الحديثة يعني وباختصار أمرين متعاضدين في هذا السياق:
 
الأول: أنها أرقى المجتمعات من زاوية تحقق المستوى الإنساني العابر لكل الانتماءات. إنها بلا شك تمثل قمة الهرم الإنساني في هذا المجال؛ رغم بعض صور القصور التي تطال هذا الجانب أو ذاك سواء ما يدخل في باب الإرادات الواعية، أو يدخل في باب النسبية المرتبطة بالعالم اللاواعي للإنسان.
 
الثاني: أنها من حيث كونها المجتمعات الأرقى، تقع في سياق تطور مطرد لتحقق مستويات إنسانية أعلى فأعلى؛ جراء اعترافها الصريح والشجاع بمكامن القصور في مستوي الرؤية وفي مستوى العمل؛ رغم كونها تعي أنها الأفضل. إنها لا تنظر إلى موقعها من زاوية مقارنة ذاتها بالآخرين/ بالعالم المتخلف/ اللاإنساني/ العنصري، بل من زاوية تجاوز ذاتها في مسيرة التحقق الإنساني.
 
المجتمعات العنصرية تنظر في اتجاه معاكس، اتجاه مشاكس للوجود الإنساني الأولي
هنا يتضح الفرق بين مجتمعاتنا وبين المجتمعات الحديثة. فإذا كانت هذه المجتمعات الحديثة التي أثبتت جدارتها الإنسانية تعترف بكل الخروقات العنصرية/ الإنسانية التي تعيب مسيرتها في الرؤية والعمل؛ فإن مجتمعاتنا العربية/ الإسلامية التي لا تزال تنطوي على كثير من الرؤى العنصرية ـ وما يتبعها من ممارسات عنصرية ـ تأبى إلا أن تعاند حقائق واقعها اللاإنساني. إنها تأبى الاعتراف بالتحيزات العنصرية التي تخترق ثقافتها ومسلكها، ومن ثم فهي أبعد ما تكون عن اجتراح الحلول لمعالجتها. والغريب أنها إذا ما تقدمت لمقاربة تحيزاتها كإشكاليات في الفكر أو في الواقع تحت ضغط الإدانات الصادرة عن ثقافة/ مجتمعات أخرى ـ تجدها تسارع إلى تبريرها، بل وتشريعها، بدل أن تعترف بها وتقترح الحلول للقضاء عليها.
 
إنها أزمة وعي عام، وعي مهيمن على مجمل التصورات في مجتمعاتنا. لا أحد يستطيع الإنكار حقيقة، ولا أن ينكر حالة الإنكار. يستطيع أي مراقب أن يلحظ هذا المسلك التبريري/ الاعتذاري لدينا كعرب وكمسلمين ـ فيما يخص ملف التحيزات المصنفة بأنها عنصرية.
 
إنهم ينكرون حقيقة أنهم يمارسون العنصرية، ينكرونها بأي شكل وعلى أي مستوى! لكن، بأدنى تأمل للواقع العربي، وخاصة في بعض مجتمعاته التقليدية، تجد أن أهم محددات/ مشخصات العنصرية المعترف بها في العالم الأول، تتوفر فيها بوضوح، وبكثافة تطمس عين الشمس؛ كما يقال. فهي مجتمعات تقليدية تنضح بـ:
 
انغلاق ثقافي- نفسي، يضيق بالآخر. وطبعا يحاول العنصريون تبرير هذا الانغلاق بمبررات شتى، بعضها قد يكون حقيقة لا وهما، كالمنافسة على الموارد/ الخيرات/ الميزات، وبعضها الآخر ليس أكثر من أوهام وتوجسات/ تخوفات. ومعروف في السلوك الطبيعي للإنسان، الذي يجد نفسه واضحا/ صريحا في السلوك الحيواني، أن الحيوانات تستنفر كل قواها لرد كل من يقتحم مجالها الحيوي الذي تعتاش منه وبه، وتنعم بمميزاته. لكن ـ وهنا تظهر معيارية الرقي الإنساني ـ الإنسان لا يطمح أن يكون حيوانا محضا، لا يطمح أن يتطابق مع الحيوان، فهو، وبالرغم من المشترك الحيواني الملازم له ضرورة، يسعى للتمايز عنه، وتجاوز قاع المشترك الحيواني إلى آفاق إنسانية تضمن له "فرادة نوعية" على مستوى همه الوجودي المرتبط بشرطه الإنساني تحديدا.
 
ضيق أفق/ وعي قصير المدى. فالعنصري يرى الأمور بمؤشر ارتداداته الآنية والمباشرة. فهو لا يرى "ثراء التنوع" في مداه الأبعد. مثلا، يهاجم من يرى أو يظن أنه يقاسمه لقمةَ العيش (ربما في حدود مرتبه الشهري!) ولا يرى ما هو أبعد من هذا، كتحولات الأجيال، والتنوع الذي قد يخلق إضافات مهمة على مستوى نوعية الثقافة = نوعية الحياة...إلخ.
 
أنانية مباشرة. وتتضح هذه الأنانية في معاينة الأشياء/ الأحداث من وجهة نظر قاصرة مرتبطة بمصالح شخصية ضيقة، يتحول الوطن من خلالها، لا إلى مجال للبذل والجد والإبداع والإنتاج، وإنما إلى ما يشبه الضمان الاجتماعي المطلوب منه توفير مميزات مجانية أو شبه مجانية، أي بما يشبه رعاية الآباء للأبناء. ومن هنا يأتي مبرر رفض "الغرباء" في العنصرية التي نحن بصددها.
 
مفهوم اختزالي محدود للوطن ولمفهوم المواطنة. وهذا المفهوم تسرب إلى وعي العنصريين من صور الانتماءات التقليدية، وخاصة الانتماء القَبلي. فهم يتصورون ـ بصورة واعية أو غير واعية ـ أن الوطن يجب أن يكون كيانا مغلقا؛ كما هو حال "القبيلة" التي هي كيان مغلق، ولا يمكن أن تحتضن "الغرباء" فتنسبهم إليها؛ وإلا فقدت مشروعية روابطها، ومن ثم وظائفها في الحال.
 
عجز عن المنافسة، يقود إلى إحباط متحقق، إحباط يجد التنفيس عنه في السلوك العنصري. وحتى لا نجرح مشاعر العنصريين لدينا؛ نطرح مثالا من بعيد، وليكن من ألمانيا. تخيل مواطنا ألمانيا عاطلا أو شبه عاطل، يسير في أحد شوارع برلين، وهنا يرى مطعما تركيا ناجحا، ويبدو من شدة الازدحام عليه أنه يحقق أرباحا عالية. في هذه الحال، أمام هذا المواطن الألماني خياران: إما أن يسعى بنفسه أو بالاشتراك مع ممثلين له لافتتاح مطعم ينافس هذا المطعم، ويتدرج في النجاح حتى يتجاوزه، وإما أن يرفع صوته غاضبا مناديا بطرد هؤلاء الأتراك بوصفهم مستغلين مضرين بألمانيا...إلخ، ومن ثم فهم يشكلون عائقا أساسيا لنجاحه ونجاح أمثاله. الخيار الأول خيار غير عنصري، وهو خيار الناجحين الواثقين من أنفسهم، بل وهو الخيار الذي يثري ـ بتصاعد مستويات التنافس ـ ألمانيا. بينما الخيار الثاني عنصري، يسعى لإفشال الآخرين؛ لأنه نابع من الفشل، إنه يسعى لإفشالهم/ إلغائهم كشرط لنجاحه المتوهم.
نقلا عن الحرة

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع