سبع سنوات مضت منذ أن وضعت إثيوبيا حجر أساس سد النهضة فى الثانى من إبريل عام 2011، بقرار من طرف واحد لبناء أضخم سد فى القارة الأفريقية على النيل الأزرق دون مراجعة شركائها فى النهر ودون اعتبار لقانون الأمم المتحدة للأنهار الدولية العابرة للحدود من حتمية الإعداد المسبق للدراسات العلمية الخاصة بالآثار المتوقعة للسد على البيئة النهرية وعلى تدفقات المياه إلى شركاء النهر، وأخيرا الأضرار الاقتصادية والاجتماعية التى تقع على دول المصب من تبوير أراض وفقدان عمل للمزارعين والصيادين وغمر أراض بمياه البحار، وتأثير ذلك على اقتصاد دولة المصب. يلى ذلك طبقا لقانون الأمم المتحدة قيام إثيوبيا بتسليم هذه الدراسات لمصر ومنحها مهلة ستة أشهر للنظر فيها، قابلة للمد ستة أشهر أخرى، فإذا ما رفضت مصر هذه الدراسات فعلى إثيوبيا أن تلجأ إلى الأمم المتحدة للنظر فى خلافاتها مع دولة المصب، قبل أن تبدأ فى وضع حجر واحد فى جسم السد. إثيوبيا تخطت كل هذه الأمور مستغلة الوضع الداخلى فى مصر بعد تنحى مبارك عن السلطة فى 12 فبراير 2011، وقامت بوضع حجر الأساس لسدها الضخم بعد مرور 50 يوما فقط، فى أسوأ استغلال وانتهازية لظروف الجار محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع قبل أن تستفيق مصر وتنتهى من الإجراءات المتبعة بعد الثورات من وضع دستور جديد وانتخاب برلمان ورئيس جمهورية، فيكون السد قد أصبح واقعا ولتذهب المبادئ والأخلاق وعلاقات حسن الجوار إلى الجحيم.
قدمت مصر خلال السنوات السبع المنقضية كل ما يمكنها تقديمه من صبر ومحاولات توافق وبناء ثقة، مترقبة أن تبادلها إثيوبيا الثقة بثقة إلا أننا لم نجد إلا كل مراوغة واستهلاك للوقت وجحود مطلق. فبعد الإعلان عن السد وتوالى سفر المسؤولين المصريين إلى إثيوبيا للتباحث حول هذه الخطوة المنفردة فى مورد مشترك، ادعى رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل ميليس زيناوى أن هذا السد لن يضر بمصر ولن ينقص من حصتها من مياه النهر ولو بكوب واحد فى سيناريو سبق أن ادعاه مع جارته الجنوبية كينيا قبل أن ينبى سد على نهر «أومو» المشترك بينهما ثم تلاه سدان آخران ومخطط لزيادتها إلى خمسة سدود مسببا ضررا بشمال كينيا ومدمرا بحيرتها السياحية التى يصب فيها النهر. تحت المساعى المصرية وافق ميليس زيناوى على تشكيل لجنة فنية دولية لمعاينة السد مدعيا أنه سيلتزم بتقريرها إذا ما نص على حتمية تغيير مواصفات السد الضخم لتفادى أى أضرار تقع على مصر، واُتفق على أن تنتهى اللجنة الدولية من عملها خلال ستة أشهر. وفى استغلال مقيت من إثيوبيا للموقف أشترطت أن توقع مصر على قرار بأن تشكيل اللجنة الدولية هو لدراسة سد تحت الإنشاء وليس لمشروع إنشاء سد! على الرغم من أن إثيوبيا لم تكن قد وضعت حجرا واحدا فى السد!، كما اشترط ألا يتوقف العمل فى السد انتظارا لتقرير اللجنة الدولية، على اعتبار أن فترة عملها قصيرة ولن تزيد على ستة أشهر، وبالتالى يمكن الأخذ بتوصياتها حيث سيكون البناء ما زال فى مرحلة صب الأساسات. وافقت مصر مضطرة ولأن خبراءها فى المياه واثقون من مخالفة هذا السد لكل الأصول العلمية والقانونية وأن اللجنة الدولية سوف تدينه، لأنه سد للإضرار بمصالح دولة أخرى وليس سدا للتنمية أو لحسن استغلال الموارد. اتفق الأطراف الثلاثة على تشكيل اللجنة الدولية من أفضل عالم وخبير سدود فى العالم من ألمانيا ومعه خبيرين فى الموارد المائية من إنجلترا وفرنسا ثم خبير فى البيئة النهرية من جنوب أفريقيا، بالإضافة إلى عدد من الخبراء الوطنيين يمثلون الدول الثلاث المعنية مصر والسودان وإثيوبيا. وفور بدء اللجنة لعملها تفننت إثيوبيا فى عرقلة أعمالها والتسويف حتى هدد الخبراء بالانسحاب وفضح ما تقوم به إثيوبيا من استنزاف للوقت، إلا أن ذلك لم يحسن الوضع إلا قليلا فى تقديم الدراسات المطلوبة للجنة بشح وخبث، فامتد عمل اللجنة إلى عام ونصف أى ثلاثة أمثال الوقت المقرر وقدمت تقريرها فى 31 مايو عام 2013. خلص التقرير إلى أن هذا السد خارق لكل القوانين الدولية وأنه سد بلا دراسات وأن إثيوبيا تسير عكس الاتجاه العالمى بإجراء الدراسات اللازمة قبل بدء العمل فى السد، فقررت أن تقيم السد أولا ثم تجرى الدراسات بعد ذلك استغلالا لظروف دولة المصب!
فى ذلك التوقيت شهدت مصر ثورة جديدة فاستغرق الأمر حتى منتصف عام 2014 لتبدأ مصر مرحلة استقرار جديدة فى تاريخها، إلا أن السنوات الثلاث التى مرت على بدء إنشاء السد كانت فى صالح إثيوبيا تماما وأصبحت تقترب من فرض سياسة الأمر الواقع. وفى أول اجتماع للاتحاد الأفريقى بعد عودة مصر إليه تقابل الرئيسان المصرى المنتخب مع هيلاى مريام ديالسين رئيس الوزراء الإثيوبى الجديد بعد رحيل زيناوى فى مباحثات على هامش اجتماعات الاتحاد وادعت إثيوبيا أنها استكملت الدراسات المطلوبة والتى أدانتها اللجنة الدولية وأنها مستعدة لاستئناف المباحثات بالشفافية المرجوة وتم إصدار بيان بذلك تتعهد فيه الدولتان بعدم الإضرار وأن يكون نهر النيل مصدرا للخير والتعاون.
كان من البديهى أن توافق إثيوبيا على عودة اللجنة الدولية السابقة التى أدانتها، والتى ادعت إثيوبيا أنها استكملت الدراسات الناقصة التى طلبتها اللجنة إلا أن الوفد المصرى فوجئ بإصرار إثيوبى مؤيد من الأشقاء بالسودان بعدم الاستعانة بأى خبراء دوليين، وأن يتولى الخبراء الوطنيون للدول الثلاث مناقشة الدراسات؟!. بدا الأمر شديد الوضوح بأن إثيوبيا لا تريد شاهدا دوليا على تجاوزاتها وخروقاتها الواضحة ورغبتها الأكيدة فى الاستحواذ على مياه النيل، واستنكر الوفد المصرى الأمر متسائلا: وماذا لو اختلفنا ونحن بالتأكيد سنختلف بسبب ميل كل طرف إلى موقفه، وبالتالى فالأمر يحتاج إلى محكم دولى محايد ينظر فى الاختلافات ويراجع الدراسات التى تدعى إثيوبيا أنها أجرتها، ويقوم بتجارب على السد وعلى امتداد مجرى النهر حتى نهايته ليتأكد من علمية وصدق الدراسات الإثيوبية. وعلى مضض وافقت إثيوبيا أن تتم الاستعانة بمكتب استشارى ولكن يصنف على كونه مكتبا محليا، وأن تكون نتائج دراساته فى النهاية غير ملزمة لأى طرف من الأطراف الثلاثة، ولكن ينبغى أن تحترم؟! كيف للدراسات أن تُحترم ثم يكون من حق إثيوبيا ألا تعمل بها وغير ملزمة؟! ومارست مصر الصبر وسياسة النفس الطويل لأنها قرأت أن إثيوبيا تمضى بإصرار فى طريق نسف المباحثات وإنهائها طالما أن العمل فى السد مستمر، وأن الوقت فى صالحها. وافقت مصر على التعسف الإثيوبى مرة جديدة لثقتها فى أن أى لجنة فى العالم ستدين هذا السد وتظهر المبالغة فى سعة تخزينه للمياه لتعمد الإضرار بالجار، إلا أن إثيوبيا سرعان ما تفننت فى استنزاف الوقت كعادتها وتحدى إرادة شركائها فى النهر الذين اختاروا مكتبا هولنديا محترما لإجراء الدراسات بالمشاركة مع مكتب فرنسى فرفضت إثيوبيا وأصرت على المكتب الفرنسى فقط على الرغم من وجود مصالح وأعمال له ينفذها فى إثيوبيا، وأثمر الرفض والتعنت الإثيوبى عن انسحاب المكتب الهولندى بعد أن نشر بيانا أوضح فيه أن الضغوط الإثيوبية التى يتعرض لها لا توفر الضمان بأن يخرج تقريرا محايدا يتسم بالشفافية، وفرضت إثيوبيا مكتبا فرنسيا آخر لبدء العمل فى مراجعة الدراسات التى قامت بها على ألا يتضمن عمل المكتب الاستشارى القيام بأى دراسات على السد ولا ارتفاعه ولا سعة تخزينه وأن يقتصر الأمر فقط على الدراسات المائية والبيئية والاقتصادو-اجتماعية وتداعياتها على مصر والسودان!! وامتد الصبر المصرى وسياسات النفس الطويل والتى تقرأ جيدا عدم الشفافية من الجانب الإثيوبى ومحاولات إفشالها وتعطيلها.
ولمزيد من بناء الثقة، وقعت مصر إعلان مبادئ الخرطوم والذى نص صراحة على أن يكون الملء الأول لخزان سد النهضة عبر اتفاق خبراء الدول الثلاث والمكتب الاستشارى، كما ينص على التزام إثيوبيا بالدراسات التى يجريها المكتب الاستشارى وأن تقوم بالتعديلات المطلوبة فى جسم السد إذا كان ذلك ممكنا لتقليل أى أضرار يذكرها التقرير ويمكن أن تضر بمصر أو أن تنظر فى التعويضات المستحقة لهذه الأضرار إذا كان من الصعب أن تقوم بتعديلات فى جسم السد أو سعة تخزينه.
اتفق الأطراف الثلاثة على بدء عمل المكتب الاستشارى فورا إلا أن المماطلات الإثيوبية استمرت على حالها وبنفس المنهجية فعطلت بدء عمل المكتب الاستشارى ما يقرب من عام كامل ثم بدأت العمل على أن تنتهى جميع الدراسات فى مدة أقصاها أحد عشر شهرا يقدم خلالها تقرير استهلالى ثم تقرير وسطى وتقرير نهائى. لم يتعاون الجانب الإثيوبى مع المكتب الاستشارى واستمر فى المماطلة ولم يسمح إلا بخروج التقرير الاستهلالى فقط وبعد ستة عشر شهرا كاملة بدلا من ثلاثة أشهر كما كان مقررا له ولا أن يصدر التقرير النهائى فى أحد عشر شهرا. وكما هو متوقع صدر التقرير الاستهلالى فى صالح مصر، فرفضته إثيوبيا مدعية أنه تجاوز اختصاصاته رغم سابق الاتفاق والتوقيع على جميع مهام المكتب الاستشارى. وفى الجلسة التالية فوجئ الوفد الفنى المصرى لوزارة الرى بأن الجانب الإثيوبى يرفض استكمال المكتب الاستشارى عمله مدعيا أن إثيوبيا فقط من حقها أن تقدر الأضرار التى يمكن أن تقع على مصر فى تزيد بالغ، فاضطر الوفد المصرى أن يعلن عن فشل المباحثات الفنية بشأن السد وعدم جدواها. هذا الفشل المتوقع فى الأمور الفنية التى لا تعرف الحلول الوسط يعنى أن الأمر أصبح يتطلب دخول الدبلوماسية فى المفاوضات لأنها الوحيدة القادرة على تقريب وجهات النظر والوحيدة التى تقبل بالأمور الوسط بحيث يتحمل كل طرف بعض الأضرار حتى تسير الأمور وتستمر العلاقات.
وفى شفافية ونية صافية من مصر ورغبة فى التوصل إلى حلول منطقية اقترحت مصر دخول البنك الدولى التابع للأمم المتحدة بصفته المنظمة الدولية الوحيدة المودع بها جميع اتفاقيات نهر النيل، ولأنه يضم صفوة خبراء المياه فى العالم، كما أنه يضع شروطا عادلة من أجل تمويل السدود النهرية ومنها ألا تتضرر من السد أى دولة وأن يكون ذا فائدة لدولتين على الأقل، وبالتالى فهو الأقدر لتقييم الدراسات الإثيوبية الخاصة بالسد وأضراره. وكالعادة ولرغبة إثيوبيا فى عدم وجود طرف دولى يكون شاهدا على مخالفاتها الجسيمة أو أن يمّكن مصر من أن تمتلك تقريرا دوليا أمميا محايدا، رفضت إثيوبيا ومعها السودان قيام البنك الدولى بهذه الدراسات مدعية أنها أمور إقليمية وليست دولية وأنها والسودان لا ترغبان فى تدخل دولى فى مشكلة إقليمية! متناسيتين أن إثيوبيا قد تقدمت بشكوى إلى الأمم المتحدة ضد مصر عند بناء السد العالى فى عام 1959 على الرغم من عدم إضرار السد العالى لأى دولة بعده وأنه فقط منع إهدار المياه العذبة الثمينة فى البحر المتوسط، وأيضا تناست الشقيقة السودان التى تدعى أنها مع عدم تدويل أى خلافات إقليمية أنها تقدمت مؤخرا بشكوى للأمم المتحدة ضد مصر بشأن حلايب وشلاتين!.
طلبت مصر من إثيوبيا والسودان التقدم باقتراح بديل للبنك الدولى يمكنه النظر والتحكيم فى الخلافات القائمة بين دولة المنبع ودولة المصب بشكل أساسى، فتنصل الجميع من الأمر لأن من رفض استمرار اللجنة الدولية الأولى من خبراء ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وجنوب أفريقيا من البديهى أن يرفض تدخل البنك الدولى، بل إن الأمر وصل إلى الرغبة فى عدم استمرار حتى المكتب الاستشارى بقراراته غير الملزمة وكأن الأمر يجب أن يسير على هوى الإثيوبيين وحدهم؟!.
طلب الرئيس خلال اجتماعات الدورة الأخيرة للاتحاد الأفريقى من رئيس الوزراء الإثيوبى أن تتوصل الأطراف إلى حل مرض خلال ثلاثين يوما فقط من بدء اجتماعها والذى انعقد فى الخرطوم فى 4 إبريل الجارى على أن ينضم للوفود الفنية الثلاثة للمياه وزراء الخارجية ورؤساء المخابرات باعتبار أن المياه أمن قومى، إلا أن الاجتماع الأول كان استمرارا للتعنت الإثيوبى ورفضاً لجميع المقترحات المصرية وتم الاتفاق على معاودة الاجتماع قبل مرور الشهر المتفق عليه.
من الحكمة عند الخلاف أن تعطى للطرف الآخر مخرجا آمنا للحفاظ على أمنه واستقراره وألا تضعه فى موقف يختار فيه بين حياته وحياة الآخر، بالإضافة إلى حتمية تفهم بأن الكهرباء ليست مثل البترول ولا تغنى أى دول ولا تنتشلها من الفقر بالادعاء، فكل ما هو متوقع نظريا من سد النهضة هو توليد ستة آلاف ميجاوات بينما يرى عالم إثيوبى أمريكى (أصفو بينينى) أن الأمر لن يتعدى عمليا ألفى ميجاوات فقط عند التشغيل، ولكن حتى إذا سلمنا بالتقديرات النظرية الإثيوبية فإن مصر بنفس عدد سكان مماثل لإثيوبيا تنتج حاليا 35 ألف ميجا وات وليس ستة آلاف فقط مثل سد النهضة دون أن يؤثر ذلك لا على نسبة الفقر ولا الحديث عن التنمية المنتظرة، فالكهرباء ليست مصدرا للثراء ولا سببا للخروج من الفقر.
مصر البلد الوحيد فى منابع النيل الذى يعيش على 7% فقط من مساحة أراضيه والباقى صحراء تعانى من القحط وندرة المياه، ومصر الدولة الوحيدة بين شركاء النهر التى تعيد استخدام مياه الصرف الصحى والزراعى والصناعى عدة مرات بسبب فجوتها المائية العميقة والتى تتجاوز 42 مليار متر مكعب عجزا سنويا صافيا يجعلنا أكبر مستورد للعالم فى القمح ورابع أكبر مستورد فى الذرة وسابع أكبر مستورد فى زيوت الطعام مع استيراد للفول والعدس والسكر واللحوم فى فجوة تبلغ 60% من أغذيتنا الأساسية، كما أن ثروتنا الحيوانية لا تتجاوز 8 ملايين رأس وليس 100 مليون مثل إثيوبيا ولا 70 مليونا مثل السودان والتى تنمو على المروج الطبيعية المجانية بينما ثروتنا الحيوانية القليلة تدفعنا إلى زراعة الأعلاف المروية فى بلدنا الجاف والتى تنافس زراعات القمح فتكون النتيجة أن مصر بتعدادها المتوسط أصبحت أكبر مستورد للقمح فى العالم منذ عام 2005، فهل بعد كل ذلك يمكن أن تتحمل مصر أى نقص فى مواردها المائية المستقبلية أم أن الأمر يتطلب تفهما لهذا الأمر الجلل، وأن تتعهد إثيوبيا كتابة على أن تحافظ على تدفقات النيل الأزرق عند نفس مستوياتها قبل بناء سد النهضة على اعتبار أنه الشريان الأكبر للنيل والذى يشارك بنحو 64% من إجمالى مياهه وأيضا من إجمالى مورد مصر الوحيد للمياه مقابل تسعة أحواض أنهار فى إثيوبيا تضم عشرات الأنهار.
نرجو تفهماً إثيوبياً للصبر المصرى.
نقلا عن المصري اليوم