هل العلمانية هى الحل؟
مقالات مختارة | بقلم الأب رفيق جريش
الجمعة ١١ مايو ٢٠١٨
كثيراً ما نقرأ ونسمع أن «العلمانية» هى الحل لمجتمعنا، والخلاص الأوحد مــن «حكم الدين» أو «الدينيين» أو بالأحرى «التشدد الدينى»، وقد لاحظت أن هناك خلطا أوليا بين الدين والإيمان، فالدين انتماء الإنسان إلى دين معين، وليس بالضرورة أن يكون هذا الإنسان مؤمناً حقيقياً بهذا الدين وروحانياته. أما العلمانية فهى بدورها مصطلح فيه خلط أيضاً، فهى فى الأساس تعنى فصل الدولة عن الدين، أى أن الدولة لا ترتكز على مبادئ دينية، على سبيل المثال فرنسا التى ترتكز على مبادئ الجمهورية، لأن الدولة خلقته للأغراض الإنسانية، بينما الدين خلقه الله سبحان وتعالى. مرت العلمانية بأوجه كثيرة، إذ قدمت ذاتها من خلال ممارسات الدولة أنها ضد الدين بل عدوة له، فمثلاً فرنسا بحجة فصل الدين عن الدولة استولت الدولة على ممتلكات الكنيسة واضطهدتها (ليس مجال هذا المقال)، ولذلك أصبحت العلمانية مقرونة بالإلحاد والشيوعية.
بعد المجمع الفاتيكانى الثانى 1962- 1965، وعت الكنيسة الكاثوليكية الدور العلمانى، سواء فى الكنيسة أو فى المجتمع، وأصبح الإنسان العلمانى هو الإنسان الذى من العالم ولا ينتمى للإكليروس (أى ليس رجل دين)، ولكنه مشارك فى إدارة الكنيسة وخدماتها الروحية، وعرفت الكنائس الشرقية اللجان المساعدة للإكليروس المكونة من علمانيين ملتزمين فى الكنيسة تساعدهم على إدارتها، خاصة الأمور المالية والإدارية وحتى الروحية.
يبدو أن للعلمانية اليوم رؤية جديدة تجاه الدين ودوره فى المجتمع بعد عقود من سوء الفهم والشك والتشكيك فى تعاليم الأديان وروحانياتها من ناحية، والخلط بين العلمانية والإلحاد واللا دين من ناحية أخرى. وفى خطاب ألقاه حديثاً الرئيس الفرنسى على مجلس أساقفة الكاثوليك هناك- وهو الذى ينتمى إلى دولة ترفع مبادئ الجمهورية على أساس علمانى والتى اكتسبتها فى الثورة الفرنسية- يقول إن «العلاقة بين الكنيسة والدولة تشوهت، ومن واجبنا معاً أن نصلحها، ولا يوجد أى آلية إلا الحوار الحقيقى والصريح».. ويستكمل: «إنى أعتبر أنه ليس من وظيفة العلمانية نفى الروحانيات باسم الزمنيات، ولا انتزاع المقدس من مجتمعنا، فما يهمنا هو (الإنسان) ومصيره ودعوته»..
فإذا كان هناك فى بلادنا من ينادى بأن العلمانية هى الحل، أقول لهم إن العلمانية اليوم فى الدول المتقدمة تعتبر الإيمان والدين والروحانيات ضرورة لبناء مجتمع قائم على العدل واحترام حرية الإنسان وإعمال القانون، بعد أن أظهرت الممارسة الطويلة أنه لا يمكن إفراغ المجتمع من الروحانيات التى تقوى ضمير الإنسان، رغم أنه فى كثير من المواضيع الأخلاقية تتضارب الأفكار (العائلة- المثليين- الموت الرحيم.. وغيرها من القضايا)، ومع ذلك تدعو الدولة العلمانية اليوم إلى حوار مجتمعى حول هذه القضايا خاصة مع المؤسسات الروحية.
ليس الرجوع إلى الروحانيات معناه تحويل الحكم إلى حكم إلهى ثيوقراطى، ولكن تحقيق التوازن بين ما هو إلهى وما هو زمنى، وبين ما هو علاقة مع المطلق وما هو المحدود، وفى الزمان والمكان ما بين احتياجات الإنسان الروحية واحتياجاته الزمنية، خاصة فى المأكل والعيش والصحة والتعليم والوظيفة... إلى آخره. بالقطع، مجتمعنا المصرى والشرقى مازال أمامه أسئلة كثيرة للإجابة عنها، ولكن حان الوقت لتعصيف هذه الأفكار على الأقل على المستوى الثقافى والفكرى والفلسفى لقيادة مجتمعنا الشرقى الذى تعاد صياغته فى هذا العصر، ويخرجنا عن المألوف والكلاسيكى. فلا يستقيم مجتمع خاوٍ من الله، ولا يستقيم مجتمع ثيوقراطى، ولكن التوازن بينهما هو الحل.
نقلا عن المصري اليوم