المُؤَسَّسَاتُ الكَنَسِيَّةُ
القمص. أثناسيوس فهمي جورج
٢١:
٠٩
ص +02:00 EET
الاربعاء ١٣ يونيو ٢٠١٨
القمص اثناسيوس فهمي جورج
حديث المؤسسات في الكنيسة ؛ لا تغيب عنه إشكاليات عديدة.. لذلك ارتبط تاريخ مؤسساتنا إلى حد بعيد بالأشخاص ؛ أكثر من المؤسسة. عندنا أشخاص عظماء بحق ؛ هم مؤسسات بحد ذاتهم ؛ لكن المأسسة تسعى للاستمرار والامتداد الأبدﻱ ؛ إلى ما هو قدام نحو الابدية في الانقضائيات الباروسية. ولعل التلكؤ في مأسسة المؤسسات أثر كثيرًا على ثباتها واستمراريتها ونتائجها الوضعية.. كذلك اضعف تطويرها لغياب الروح المؤسسية التي هي أصل طبيعة الكنيسة الإكلسيولوجية.
لقد ضم عمل كنيسة الرسل هيئات مؤسسية تحت مسميات عديدة ، عبّرت عن كيانها في صورة مؤسسات كرازية ، واجتماعية (خيرية) ، وتربوية (مدارس لاهوتية) ، ورهبانية (ديرية) ، صارت هي الأرضية والقماشة التي ننسج منها وعليها الأهداف والخبرات الكتابية العملية المتراكمة ، لصياغة بنيوية مؤسساتنا الواعدة ؛ وفقًا لأهدافها الدالة على كيانها واستقلاليتها عن العناصر المتشابكة ، كي تضيف المأسسة عملاً منظمًا ينتج حصادًا وفيرًا وثمرًا متكاثرًا لمجد الله الثالوث القدوس ، في ديمومة ملموسة النتائج ، تصبّ في حقل الفلاحة العامة ؛ من دون أن تتقيد بالشخصنة الانانية والفردانية الذاتية ؛ التي تتجاهل مواهب وطاقات ذوﻱ المشورة الحسنة والحكمة المشهود لهم.
كل مؤسسة هي كالأيدويولوجية ؛ لها بنية فوقية تحددها البنية التحتية ، المتمثلة في أهدافها (الكتابية) ورسالتها (الملكوتية) وبنائها (الكنسي) ومسارها (التاريخي) وتنظيمها (التدبيرﻱ) وقوانينها (الهيرارخية) وتطويراتها (الأبدية)... بحيث تكون مرهونة بموافقة عملية حاسمة لا شكلية ، عبر استقراء إيجابي لكل صياغة.
لقد تضمن علم الاجتماع فرعية دراسة المؤسسات ؛ بناء على الشكل الذﻱ تتخذه قنوات الاتصال المنتجة للعلاقات داخل المؤسسة (المركزية / والتفويض) ؛ حسب معايير محددة تجعلها كيانًا يقوم على مبدأ تنظيم الأعمال والأنشطة وأجندتها الأولوية ، في إطار تنظيمي مرتبط بشكل واضح ومحدد الأهداف ومعيارﻱ الجودة، وخاضعا ايضا للقوانين التي تتمشى مع سمة الاستمرارية الخاصة بالعمل المؤسسي. من اجل ذلك كانت اهمية هذه الصيغة الهيكلية التي ينبغي أن تكون عليها مؤسسات الإكليريكيات ومكاتب الخدمة الاجتماعية والتنمية ؛ ومعاهد الدراسات التربوية والتعليمية ؛ والمجالس الإكليريكية والملية والإعلامية ؛ ولجان الكنائس وغيرها من أفرع الكيان العام المؤسسي في الكنيسة.
حيوية المأسسة وأهميتها ليست وجاهة في كنيستنا ؛ لكنها ضرورة حتمية واحتياج ملح جدا ؛ و ذات طابع طبيعي فيها، ينبع من التهديف والرؤية والروح الجموعية والشركة والهيرراخية والمجمعية ؛ التي هي مَنْبَتُ كل مؤسسة الهية .فكم هي بالاولي تكون مرتكزات انطلاقها في الكنيسة الأرثوذكسية المستقيمة الرأﻱ (Orthodoxies) التي تحيا أرثوذكسيتها بالأرثوبراكسيا بالعمل المستقيم (Orthopraxie) لتقترن استقامة الفكر بإستقامة الحياة ؛ والقصد من دون انفصام ولا انفصال – ”قد حكمتُ بإسم ربنا يسوع المسيح ، إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح“ (١ كو ٥ : ٤) - بإتفاق الكنيسة المجتمعة ومن أجلها ؛ بحضرة المسيح ملكها ومالكها الحصين ؛ ليكون كل شيء لنا قد أُعطي في مؤسسات مواهبية تسير بلياقة وترتيب ، لكل عضو فيها رأيه وعمله مفعلاً ، بالفهم والإنصات للتخطيط المشترك في سِينِرجيَّة بين شعب الله (كليرونوميا) الذين هم شركاء كأس مسيحه.
هذا هو الاختبار الكفء في كنيسة (الجسد الواحد) ، والذﻱ لا بُد أن يُعاد إلى الواجهة ، كلما غاب أو خَفُتَ ؛ لأنه سر الكنيسة وخلاصها المشترك ، الذﻱ تبدأ منه المأسسة ؛ لا كشعارات ؛ بل أساس عمل كل مؤسسة تسعى لتكون موجودة (الإدارة بالأهداف لا بالأهواء) ، وتكون أهدافها مرتبطة بأفعالها (إيمان وأعمال) (خبر وخبرة)؛ تحت سقف المحبة المسيحية التي هي الإمكانية المستحيلة لتخطي النقائص والضعفات وموجات عدم الارتياح ؛ تجاه المألوف من وضعيات عديدة ؛ جعلت المناخ المعاصر يصرخ في إلحاح نحو حتمية تطويرها أمام تحديات كثيرة ووضعيات متبدلة ؛ سببتها الظروف المحيطة بأبعادها ؛ حتى لا ننفصل عن الواقع ونتأخر ؛ مكتفين بما نحن فيه ، مجمدين قنوات الإصلاح والتعددية التي إن كانت روحانية وكنسية متعقلنة الاختبار ؛ أسهمت بالكثير في تخطي صعيد التمني والأحلام ، لتصبّ في الواقع الكلي للحصاد.
حاجتنا ليست إلى دفاعات نهرب بها إلى الأمام ، لنتمسك بمتحفيات انفصلت عن الواقع. والأمثلة عديدة علي ذلك، في مجالات : خدمة الطفولة والشباب وفي التحولات الاجتماعية لخدمة الفقراء والمحتاجين والعاطلين والأمّيين.. وفي مجالات خدمة التأهيل والتوعية ضد الإلحاد واللاطائفية والجنوح والإدمان والمعلوماتية.. كذلك في مجال التعليم اللاهوتي السليم لبلوغ واقع متفائل لكنيسة المستقبل الأبدﻱ.
إن الإطار التشاورﻱ (المشورة والاتفاق) الذﻱ يشارك فيه الأتقياء المعينين من المتخصصين ؛ هو الذﻱ يرسم إدارة كنسيةمتجددة لمؤسساتنا ؛ كي تكون مبنية على احتياج واقعي لا خيالي ؛ عملي لا مجرد مثالي وعاجي...... إذا غاب هذا الإطار الغيور والمستنير والمدروس ؛ يضعف نتاج واثمار هذه المؤسسات ”لأن الذين آمنوا كانوا معًا ؛ وكان عندهم كل شيء مشتركًا“ (أع ٢ : ٤٤) . فالمأسسة عندنا لن تبدأ ولن تتطور ؛ إلا إذا استمرينا معًا في محبة ومعرفة وخبرة البذل والهارموني ليكون كل شيء بيننا مشترك ...لأن السلطة المطلقة مِفْسَدَة مطلقة ، ولا سلطة أرثوذكسية مطلقة ؛ لأنها مجمعية ”رأىَ الروح القدس ونحن“.
لذلك أﻱ سلطة مطلقة ومنفردة في مجريات مؤسسات الكنيسة ينطوﻱ على سوء فهم للأبعاد الإكلسيولوجية والليتورجية للكنيسة ، ويشرخ وحدة العمل المنسجم والمتناغم ؛ في كنيسة لن يُقبل إلا أن يكون أداؤها بروح الفريق ؛ تعزف سيمفونية قيثارة الروح القدس.
بناء مؤسسات الكنيسة ، لايتوقف عند عمل اللوائح المنظمة أو قياسات تقارير تقييم وَرْدِيَّة فقط ؛ لكنه يبدأ ببناء توعية البراعم وإعداد الخدام ؛ بأهمية روح الفريق الجماعي ؛ وفق الرؤية التي بدونها يجمح الشعب ، بإعتبار أن الراعي والرعية خدام ومخدومين ؛ هم جميعًا شركاء في نمو بنيان تكميل القديسين... حتى يكمل الله ضعفات الراعي ”خطاياه الخاصة ونجاسات قلبه“ ويستر جهالات الرعية... ”ليكون عبيدك وحقارتي“.
ولعلنا لا نلتفت كثيرًا عندما يقول الكاهن ”ومِنْ فم حقارتي“.. فهذه لفتة ليتورجية تستصرخ الضمير من أجل اتخاذ محلة المسكنة والاحتياج ، بالإشارة دائمًا نحو غسل الأرجل والسعي للخروج خارج المحلة ؛ لحمل عار الصليب... هذه المفهومات المؤسسية تحتاج إلى خلية وورش عمل لتفسيرها وفهم منهجياتها ؛ بلوغًا إلى التنميط والمثال الذﻱ يرفع الممارسة تدريجيًا ؛ لتطال ما ينبغي أن يحقق مقاصد كنيسة الله المجيدة.
فلنصلِّ ونعمل ؛ لتسرﻱ روح المأسسة في الكنيسة ، على قاعدة طبيعة لاهوتها ؛ فلا أُمراء أو ضُباط فيها ، ولا أنفار وعساكر ، ولا أفكار فوقية مأخوذة عن فكر العصمة اللاتيني ؛ لكن بروح اتفاق عموم الآباء ؛ الذﻱ فيه الكبير كالأصغر والمتقدم كمثل الخادم ، مجتمع الذبائح الحية الذﻱ مؤسساته تقوم بمعونة وتعضيد الجميع ”يعطي ويأخذ“ من فيض عطايا ضابط الكل.