مُسْتَعِدٌّ للرَّحِيلِ
القمص. أثناسيوس فهمي جورج
السبت ٣٠ يونيو ٢٠١٨
بقلم القمص أثناسيوس فهمي جورج
نهاية عمرنا هي نقطة بدايتنا نحو الأبد ، وبدون استعدادنا للرحيل لا يكون لحياتنا معنى ، ذلك هو ما سهِر لإعداده الساهرون كي يعَدوا للحظة خروجهم ( عُريانًا خرجتُ من بطن أمي عُريانًا أعودُ إلى هناك ) ، فالموت أقرب إلينا مما نتصور ؛ وطوبَى لمن يقطر زيته ليوجد ساهرًا ؛ ومصباح سراجه غير منطفئ ؛ وساعته حاضرة أمامه ؛ إذ ليس في القبر من يذكر ولا في الجحيم من يشكر...
عمرنا كلُه أشبه بنفخه وأيامنا تُحسب مثل ظل عابر ... أشبه بشِبر وعشب وظل .. إنها مجرد حلم وبخار يظهر قليلاً ثم يضمحل.. إنها نسمة الريح العابرة ؛ تدخل من نافذة وتخرج من أخرى . تنحصر بين شهقتي الولادة وخروج النفس من الجسد عند سكرة الموت ، حياتنا تجري أيامها سريعة كالعدّاء ، وقد تعيَّن أجلنا فلا نتجاوزه ، مثل العشب أيامنا وكزهر الحقل تنحسر وتذبل..... كالعنكبوت نسيجها وهي عابرة في خيمة تُنقض ، لا تثبت لها ثروة ولا تمتد لها مقتنيات، فقبل يومها تتوفى ؛ وسعفها لا يخضرّ ، لأن صوت القائل ينادي ( كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل . يبس العشب وذبل الزهر ؛ لأن نفحة الرب هبّت عليه ، أمّا كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد ) ، ولا أحد يستشير الموتى ؛ لأن ذكرهم نسي ..
لذلك قيل عن نومنا بأنه رُقاد صغير وتذوُّق مُسبق للموت الذي أباده المخلص بقيامته وكسر شوكته، وهدمه بظهوره المحيي ..فمن البدء خلقتني يارب ومن العدم كونتي وبصورتك الإلهية رسمتني؛ وكفخاري أعظم عُدت وعملتني وعاءًا آخر لمجدك .... أعدت صياغتي وأصلحتني بيدك لتُرجعني إلى جمالك القديم ، فعما قليل تفنى أيامي وليس لي خلاص إلا برحمتك يا محب البشر الصالح..
وضعت فيَّ نسمة الحياة ؛ أوجدتني وجبلت نفسي حُلوة سخية مروية وثمينة ومحفوظة ، لأنك أنت لي مرساة النفس واقتناؤها ، فديتها بدمك الكريم ، وتحفظها بسياج أسرارك الإلهية غير المائتة .. تنجيها من الفخ يا منجي النفوس لتدرك تدابيرك وتميز الأمور المتخالفة ، وما هو لخيرها وخلاصها وزمان افتقادها ، فتمتحن الحق البعيد عن كل خداع وصغار ، محترزة من كل خواء وخراب وتراخي الهلاك ، عارفة مشيئتك ؛ غير عاملة مشيئات الباطل ، سالكة في جدة الحياة التي لحرية مجد أولاد الله ، مُبقية الله أساس معرفتها ؛ لتثمر وتزهر وتعبد بجدة الروح ؛ لا بعتق الحرف ، فاعلة كل ما يليق برضاك إلى النفس الأخير ، عندئذ تموت موت الأبرار وتكون آخرتها كآخرتهم ، وتصير أواخرنا أفضل من أوائلنا ( مت 12: 45 ).