جرائم العثمانيين بعد الغزو العثماني لمصر
سامح جميل
الجمعة ٦ يوليو ٢٠١٨
سامح جميل
عن جرائم العثمانيين يحكى ابن إياس فيقول: «خلال الغزو اتجهوا إلى الطحانين فأخذوا البغال والخيول وأخذوا جمال السقايين ونهبوا كل ما فى شون القمح من غلال، ثم صاروا يأخذون دجاج الفلاحين وأغنامهم وأوزهم وحتى أبواب بيوتهم، وخشب السقوف، ثم صاروا يخطفون العمايم ويعرون الناس فى الأماكن المفردة.. وأرسل السلطان واحدا من أكثر رجاله توحشا وهو جان بردى الغزالى إلى الشرقية؛ فوصل إلى نواحى التل والزمرونين والزنكلون ونهب ما فيها من أبقار وأغنام وأوز ودجاج، وقام بأسر الصبيان وسبى الفتيات، باعتبار أنهم أبناء كفار وراح يبيعهم فى المحروسة بأبخس الأثمان... وسارع المصريون بشراء هؤلاء الصبية من سوق العبيد، ثم يهبونهم لأهاليهم، وفوق ذلك فإن العثمانية طفشت فى العوام والغلمان ولعبوا فيهم بالسيف وراح الصالح بالطالح، وصارت جثثهم مرمية من باب زويلة إلى الرميلة إلى الصليبة فوق العشرة آلاف إنسان، ثم أحرقوا جامع شيخون فاحترق الإيوان والقبة، أما الوالى الترحى الذى تركه سليم لحكم مصر فكان يصبح وهو مخمور فيحكم فى الناس بالعسف والظلم».
ويلخص الأيام الأولى للغزو العثمانى لمصر قائلا: أطلقوا فى مصر جمرة نار، وبسبب تلك الأيام السوداء فى تاريخ مصر التى علمت المصريين شعارا ظلوا يرددونه دوما.. «يا رب يا متجلى.. أهلك العثمانلى».
لنا الآن أن نتحدث عن الإمارة العثمانية؛ فهى نشأت فى الشمال الغربى للأناضول، أى على حافة العالم المسيحى، وهو ما يطلق عليه دار حرب وعلى حافة العالم الإسلامى، وهو ما يسمى «دار السلم»، ونتيجة للإحساس بضرورة توسيع دار الإسلام على حساب دار الحرب، لم يكن للعثمانيين رابطة بأرض معينة؛ فالأرض بالنسبة لهم لم تكن إلا مجرد معبر إلى أرض أخرى، لذا كانوا دوما يرفضون نسبتهم إلى تركيا، ويتمسكون بكلمة عثمانى وعثمانيين.
ويتأسف ابن إياس على سقوط مصر فى يد العثمانيين، حسبما يورد فى كتابه: «من العجائب أن مصر صارت بعد ذلك نيابة بعد أن كان سلطان مصر من أعظم السلاطين فى سائر البلاد قاطبة؛ لأنه خادم الحرمين الشريفين وحاوى ملك مصر الذى افتخر به فرعون اللعين».
ويصف المؤرخ المصرى ما وقع للمحروسة بعد سقوط القاهرة: «أن ابن عثمان انتهك حرمة مصر وما خرج منها حتى غنم أموالهم وقتل أبطالها ويتّم أطفالها وأسر رجالها وبدد أحوالها. ويقص ابن إياس فى الجزء الخامس من كتابه الذى يشبه اليوميات، أن سليم خان، الإمبراطور التركى، الذى اقتحم القاهرة، كان رجلا سيئ الخلق سفاكا للدماء شديد الغضب، وروى عنه أنه قال: «إذا دخلت مصر أحرق بيوتها قاطبة والعب فى أهلها بالسيف».
هكذا كانت النية مبيتة لاقتحام القاهرة وقتل المصريين ونهب خير البلاد، وسرقة منجزها الحضارى، وليس نصرة الدين كما كان يدعى الأتراك، فمن ينصر الدين لا يحرق ويخرب المساجد، وإنما كان الغرض هو هدم الدين ذاته، وإنهاء دولة الخلافة الإسلامية فى القاهرة؛ حيث نقل الخليفة العباسى المتوكل جبرا إلى اسطنبول، وأجبر عن التنازل عن الخلافة لسليم، وحسب قول ابن إياس «حصل للناس على فقد أمير المؤمنين غاية الأسف؛ فقد انقطعت الخلافة فى مصر وصارت إلى اسطنبول»، ويظهر قصر فهم الدين لدى الأتراك فى مواضع كثيرة من الكتاب نورد منها: «أن أحد القضاة لم يجز لأحد العثمانية الزواج من امرأة لم تنقض عدتها، فاشتكاه فأحضر ذلك القاضى ولم يقبل له عذرا وبطح وضرب ضربا مبرحا، ثم كشف رأسه وألبسه عليها كرشا من كروش البقر بروثه، وأركبه على حمار مقلوب وأشهره فى القاهرة، وكان قبل ذلك نادى السلطان فى القاهرة بأن أحدا من قضاة مصر لا يعقد عقدا لعثمانى».
ولم يظهر من آل عثمان ومن عسكره ما يدل على دفاعهم عن الدين الإسلامى، فعسكره كما يصفهم ابن إياس كان عندهم «قلة دين يجاهرون بشرب الخمور فى الأسواق بين الناس، ولما جاء عليهم شهر رمضان فكان غالبهم لا يصوم ولا يصلى فى الجوامع ولا صلاة الجمعة إلا قليلا منهم، ولم يكن عندهم أدب ولا حشمة».
ويروى المؤرخ المصرى آيات وقصص الظلم الذى وقع وأصاب المصريين من العثمانيين فى مواضع عدة من كتابه، حيث وصل الأمر إلى سقوط 10 آلاف من عوام المصريين قتلى فى يوم واحد، وحسب وصف ابن إياس لهذا اليوم المشئوم «فالعثمانية طفشت فى العوام والغلمان والزعر ولعبوا فيهم بالسيف وراح الصالح بالطالح، وربما عوقب من لا جنى، فصارت جثثهم مرمية على الطرقات من باب زويلة.. ولولا لطف الله لكان لعب السيف فى أهل مصر قاطبة».
ووصل حد الاضطهاد والاستعباد والاستهزاء بعوام المصريين، من جانب العسكر الأتراك، أنهم كانوا «يخطفون عنهم العمايم ويعرون الناس فى الشوارع» حسب رواية ابن إياس، رغم أن سليم خان «كان ينادى كل يوم بالأمان والاطمئنان فى القاهرة والنهب والقتال عمال من جماعته».
ويروى المؤرخ المصرى رواية أخرى للاستعباد الذى كان يقوم به الأتراك للمصريين، فحسب ما ورد فى بدائع الزهور: «فى يوم اضطربت أحوال القاهرة، وصارت أرباب الأدراك (الدرك) تقف على أبواب المدينة، ويمسكون الناس من رئيس ووضيع ويضعونهم فى الحبال حتى من يلوح لهم من القضاة والشهود، وما يعلم ما يصنع بهم، فلما طلعوا بهم إلى القلعة أسفرت تلك الوقعة على أنهم جمعوا الناس حتى يسحبوا المكاحل النحاس الكبار التى كانت بالقلعة، وينزلوا بها إلى شاطئ البحر.. وقاسى الناس فى سحبها غاية المشقة، وحصل لهم بهدلة من الضرب والسك وخطف العمائم.. وصاروا يربطون الرجال بالحبال فى رقابهم ويسوقونهم بالضرب الشديد على ظهورهم».
هكذا عامل العثمانيون، المصريين، ولم يكتف الأمر بذلك بل قام العثمانيون بأعمال نهب وسلب وتخريب، لا تكفى هذه المساحة ذكرها، لتضيق الأقوات على الشعب المصرى وتحل به المجاعة، وكما يورد ابن إياس فإنه «شحت الغلال من القاهرة، وسبب هذا أن العثمانية لما دخلوا القاهرة نهبوا المغل الذى كان فى الشون وأطعموه لخيولهم»، وفى موضع آخر «أنهم سرقوا دجاج الفلاحين وأغنامهم وأوزهم، ثم دخلوا إلى الطواحين وأخذوا ما فيها من البغال والأكاديش وأخذوا عدة جمال من جمال السقايين، وصارت العثمانية تنهب ما يلوح لهم من القماش وغير ذلك، واستمر النهب عمالا فى ذلك اليوم إلى بعد المغرب، وتوجهوا إلى شون القمح التى فى مصر وبولاق ونهبوها».
ويروى ابن إياس فى موضع آخر أن «جماعة من العثمانية صاروا يمسكون أولاد الناس من الطرقات ويقولون لهم أنتم جراكسة فيشهدون عندهم الناس أنهم ما هم من المماليك، فيقولون لهم: اشتروا أنفسكم من القتل فيأخذون منهم حسبما يختارون من المبلغ، وصار أهل مصر تحت أسرهم.. فانفتحت للعثمانية كنوز الأرض بمصر من نهب وقماش وسلاح وخيول وبغال وجوارى وعبيد.. وغير ذلك من كل شىء فاخر».
ووصل الحال بالعثمانية لفرض غرامات على الزواج والطلاق «فصار الذى يتزوج أو يطلق تقع غرامته نحو أربعة أشرفية، فامتنع الزواج والطلاق فى تلك الأيام، وبطلت سنة النكاح والأمر لله فى ذلك».
ويورد ابن إياس رواية أخرى «أنه أشيع أن ابن عثمان خرج من مصر وبصبحته ألف جمل محملة ما بين ذهب وفضة، هذا خارج عن ما غنمه من التحف والسلاح والصينى والنحاس والخيول والبغال والحمير، وغير ذلك حتى نقل منها الرخام الفاخر وأخذ منها من كل شىء أحسن، ما لا فرح به آباؤه ولا أجداده من قبل أبدا، وكذلك ما غنمه وزراؤه من الأموال وكذلك عسكره، فإنه غنم من النهب ما لا يحصر».
هكذا كانت حال المصريين، بينما كان سليم الأول السلطان العثمانى فى القلعة محتجبا عن الناس، يقول ابن إياس: «إن ابن عثمان احتجب عن الناس ولم يظهر لأحد وحكم بين الناس، ينصف الظالم من المظلوم، بل كان يحدث منه ومن وزرائه كل يوم مظلمة من قتل وأخذ أموال الناس بغير حق، ولأنه كان يشاع العدل الزائد عن ولاد ابن عثمان وهم فى بلادهم قبل أن يدخل سليم شاه لمصر، فلم يظهر لهذا الكلام نتيجة»، وفى موضع آخر يروى ابن إياس أن سليم «كان مشغولا بلذته وسكره وإقامته بين الصبيان والمرد.. وما كان له أمان إذا أعطاه لأحد من الناس وليس له قول ولا فعل وكلامه ناقص ومنقوض ولا يثبت على قول واحد كالعادة».
على الجانب الآخر، الأرض بالنسبة للمصريين تمثل مكانة كبيرة فى فكرهم ووجدانهم، ذلك لأن الارتباط بمصر الأرض والنهر والوطن ككيان لا يلغيه الارتباط بما هو أكبر منه كالخلافة، وهذا يرجع إلى أن مصر شكلت عبر تاريخها إقليما موحدا، فالوعى المصرى يتمثل أساسا فى الأرض والنهر ككيان جغرافى وحضارى ترسخ فى العقل منذ عصور قديمة جدا، ثم جاءت المسيحية ثم الإسلام ليلقى كل منهما البردة الدينية على مصر، فالتراث المصرى القبطى والإسلامى يعتبران مصر هى الجنة فى الدنيا، وهكذا يمكن القول إن علاقة المصريين بأرضهم تمثل واحدا من أهم عناصر الاستمرارية المصرية على مر التاريخ.
هذا الجزء تعمدت ذكره لتوضيح الرؤية المتباينة للأرض بين العثمانيين والمصريين، التى كانت أحد أهم الأسباب فى وجود فجوة واسعة بين كل منهما.. فجوة بين المصريين والداعين لإعادة دولة الخلافة... وهذا أدى إلى بقاء عناصر الحكام من العثمانيين ينتشرون فى ربوع مصر كإثنية أجنبية، وظلوا كذلك لم يطلهم التمصير ولا الاندماج مع المصريين، بل عاشوا مترفعين فى معزل عنهم!