العراق، بلاد ما بين النهرين، دجلة والفرات، يواجه أزمة مياه خانقة، تركيا بدأت ملء سد أليسو المنشأ حديثاً على دجلة، وإيران قطعت روافد النهر، وحولتها لداخل حدودها، انخفاض منسوب المياه للنصف خلق أزمة، رغم خطورتها، فلم تكن بخافية على الحكومات المتعاقبة، لكنها فترات كانت تخضع لقيادات سياسية تدين بالولاء لطهران، وأخرى انكبت على نفسها، تواجه داعش، «العصفورة» التى تعمدت شغلها عن مصالح أمنها القومى.. نفس ما تعرضنا له بخصوص سد النهضة الإثيوبى، فقد صار واقعاً بعد سقوط الدولة المصرية نتيجة لمؤامرة يناير 2011، التى شغلت الجميع، إلا وفد من أطلقوا على أنفسهم «الدبلوماسية الشعبية»، الذين ذهبوا لأديس أبابا، بعد إسقاط النظام بأيام، ليمنحوا الموافقة على بدء البناء.. الجرائم الوطنية الكبرى، تفرض المحاسبة والعقاب!!.
أزمة المياه تهدد
العراق منذ 2003، الإيرادات المائية تراجعت من 70 مليار متر مكعب فى الثمانينات، إلى 30 ملياراً، ومرشحة للتراجع بحلول 2025 إلى 17، وقد يتحقق الجفاف الكامل بحلول 2040، حصة الفرد من المياه تراجعت من 6000 متر مكعب إلى 2000، مساحة البحيرات الكبرى «الثرثار، الحبانية، والرزازة» انحسرت إلى النصف؛ الجفاف أضر بالزراعة والثروة السمكية والحيوانية، مصدر رزق 70% من سكان الجنوب، وثانى مصدر للدخل «30% من إجمالى الموازنة»، 17 قرية بدأ سكانها فى الهجرة لشُح المياه.. محطات توليد كهرباء سدود الموصل وحديثة وكردستان، مهددة بالتوقف، ما سيضر بالصناعة، وكميات مياه الشرب الواصلة للمنازل تراجعت بشدة، ناهيك عن الانعكاسات السلبية على البيئة بأهوار الجنوب، خاصة بعد تراجع معدلات الأمطار بنسبة 30% خلال الشتاء الماضى.. الحديث عن حرمان 50% من الأراضى الزراعية من الحصول على المياه، وإشاعات عبور دجلة سيراً على الأقدام، صارت هواجس تؤرق المواطنين.
تركيا بدأت العمل بمشروع جنوب شرق الأناضول سبعينات القرن الماضى، وسعته فى الثمانينات ليشمل غرب الأناضول، وأطلقت عليه «جاب GAP»، يتكون من 22 سداً ضخماً، منها 14 بحوض الفرات، أهمها سد أتاتورك، و8 بحوض دجلة، أهمها سد إليسو، ومشروع تخزينى بقدرة 100 مليار متر3، ومحطات طاقة هيدروكهربائية تولد 23 مليار ميجاوات/ساعة، وشبكة رى تغطى 1.7 مليون هكتار، تبلغ تكلفتة 35 مليار دولار، يمكن
تركيا من التحكم فى 90% من مياه نهر الفرات.. سد إليسو الثالث فى الارتفاع على مستوى العالم «140 متراً»، بلغت تكلفته 1.7 مليار دولار، شاركت الولايات المتحدة فى تمويله، ما يفرض على
العراق مراجعة تحالفاته معها.. تم افتتاحه فى يناير 2018، بدأت عملية الملء فى مارس، فانخفضت الموارد المائية للعراق إلى النصف، ووقعت الواقعة.
إيران شريكة
تركيا فى الجريمة، التى بدآها مع الغزو الأمريكى للعراق 2003، أقامت سدوداً على منابع الأنهار الكبيرة التى تتدفق باتجاه
العراق، لتسيطر على تدفقاتها، مثل نهر الزاب، وحولت مسار الأنهار الصغيرة لتبقى داخل أراضيها، ما حرم
العراق من حصته المائية، وتسبب فى جفاف الكثير من الأنهار، بينها نهر ألواند فى خانقين، وللأسف فإن طهران رغم ما تظهره من تحالف مع بغداد، تبدى تعسفاً وتعنتاً، ولا تلتزم بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التى تحدد تقاسم مياه الأنهار والروافد المائية المشتركة..
تركيا تلتزم بالقاعدة التى أرساها تورغوت أوزال الرئيس الأسبق «الأنهار لا تعتبر دولية إلا إذا شكلت الحدود بين دولتين أو أكثر، عدا ذلك فهى أنهار وطنية حتى النقطة التى تغادر فيها إقليم الدولة، ولها الحق فى استغلال مواردها المائية كما تشاء!!»، سليمان ديميريل أضاف من بعده «مياه الفرات ودجلة تركية، ومصادر مياهها تركية، وكما أن آبار النفط تعود ملكيتها للعراق وسوريا، ونحن لا نشاركهما مواردهما النفطية، فلا يحق لهما مشاركتنا مواردنا المائية، إنها مسألة سيادة!!».. هى قواعد تنتمى لقاموس البلطجة السياسية، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بقواعد القانون الدولى، ولا بعلاقات التعاون وحسن الجوار.. أردوغان ادعى بأنهم أبلغوا
العراق بضرورة تخزين المياه قبل 10 سنوات، لكن حكامهم «ليس لهم آذان مصغية»، والمسئولون
العراقيون تعللوا بأن «التبليغ جاء من باب إسقاط الفرض».. بغداد لم تلجأ لمحكمة العدل الدولية لأن ذلك يتطلب موافقة الطرف الآخر، إضافة لاعتبارات أخرى تتعلق بطول إجراءات التحكيم، وضعف ثقل
العراق ضمن توازنات القوى الإقليمية الراهنة.
الغريب أن عملاء الدولتين فى
العراق يتهمون صدام حسين بالمسئولية عن جفاف دجلة، ليتمكن من تجفيف منطقة الأهوار «السبخية»، ومطاردة المعارضة الشيعية المتحصنة بها، لكن التاريخ يسجل كل شىء، حتى لو اختلف البعض مع صدام، فالدولة
العراقية بنت 15 سداً عملاقاً إبان حكم البعث، سبعة منها خلال حرب الخليج الأولى، وسدان خلال الحصار الدولى، فهل ذلك سلوك من ينتوى تجفيف النهر؟! أزمة السد التركى طُرحت إبان حكم صدام، هدد بقصفه فتم وقف العمل فيه، ولم يستأنف إلا بعد سقوطه، وسقوط الدولة
العراقية، لنشاهد نماذج بالغة التدنى من تعامل القيادات السياسية مع القضايا الوطنية؛ إبراهيم الجعفرى، وزير الخارجية الحالى ورئيس الوزراء السابق، علق على الأزمة بأن «جفاف نهر دجلة من علامات ظهور الإمام المهدى، وهذا ما نحن ننتظره!!».. ماذا ننتظر من دول الإقليم فى تعاملها معنا، إذا كان واحد من أكبر المسئولين المنوط بهم التعامل مع ملف الأزمة، يفرط هكذا فى مصالحنا استناداً لمعتقدات وهرطقات سخيفة.. حيدر العبادى وقطاع واسع من المواطنين تبنوا حملة مقاطعة للمنتجات التركية وال
إيرانية، كنوع من الضغط لتعديل مواقفهما، استناداً إلى أن التبادل التجارى مع
تركيا 20 مليار دولار، ومع
إيران 13 ملياراً، متجاهلين أن ضرب القطاع الزراعى، وحظر زراعة المحاصيل كثيفة الرى، كالأرز والذرة، يفرض الحاجة لمزيد من الاستيراد، ما يفقد الحملة قيمتها.
حرب المياه التى يتعرض لها
العراق من جانب
تركيا و
إيران، هى ذاتها التى تعرضت لها مصر مع إثيوبيا، بفارق واحد، هو أن مصر الدولة عادت سريعاً لتتعامل بحكمة مع أزمتها، بينما لا يزال
العراق يلعق جراحه، بعد هزيمة داعش، وفى كل الأحوال لن يتمكن أى من الطرفين من التوصل لتسويات مرضية سوى بتوظيف ناجح لتوليفة مناسبة تجمع بين الدبلوماسية والقوة.. فهل نمتلك القدرة على ذلك؟!.
نقلا عن الوطن