الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟
كمال زاخر موسى
٢٨:
٠٩
ص +02:00 EET
الاربعاء ٢٩ اغسطس ٢٠١٨
كمال زاخر
الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟
32 : رسالة القديس أنبا مقار لأولاده ... دراسة تحليلية
فصل من كتاب: الرهبنة فى عصر القديس أنبا مقار
جزء 1
رسالة القديس مقاريوس الراهب إلى أولاده
1. حينما يبدأ الإنسان يعرف ذاته، لماذا خُلق، ويبحث عن الله خالقه،
فإنه يتوب أولاً عن كل ما اقترفه فى زمن توانيه. هكذا يعطيه الله الرؤوف
حزناً على خطاياه.
2. ثم يعطيه، بنفس الرأفة، أن يُتعب جسده بالأصوام والأسهار، وأن يثابر
على الصلاة ويحتقر العالم، كما يمنحه أن يحتمل الإهانات، برضى،
ويبغض كل نياح الجسد، ويفضل البكاء على الضحك.
3. ثم يعطيه اشتياقاً للدموع والبكاء، ومسكنة فى قلبه، وتواضعاً، كما يعطيه أن يرى الخشبة فى عينه دون أن يحاول إخراج القذى من عين قريبه، وأن يردد باستمرار : "إنى عارف بإثمى وخطيتى أمامى كل حين" (مز3:51)، وأن يفكر فى يوم موته وفى مثوله أمام الله، وأن يتصور الدينونة والعذاب، وأيضاً الأجر والكرامة التى تُعطى للقديسين.
4. وحينما يرى الله أن هذه الأشياء تحلو له، يُعرِّضه للتجربة، ليراه هل يرفض الشهوات، وهل يثبت أمام هجمات ولاة هذا العالم الذين غلبوه من قبل، وأمام ملذات الأطعمة المتنوعة التى تُضعف القلب. فتصل به الحال (تحت التجربة) إلى أنه يعجز تقريباً عن الصوم، ويكاد يستسلم، منهزماً بضعف الجسد وطول الزمان، لأن أفكاره المعادية تقول له : " كم من الزمان تستطيع أن تحتمل هذه الأتعاب؟"، وأيضاً "إنه لتعب مرير أن تستحق حلول الله فيك، لاسيما وأنك وأنك قد أخطأت بهذا المقدار"، ثم أيضاً : "هل يستطيع الله أن يغفر لك كل هذه الخطايا؟".
5. ولكن حينما يتيقن الله أن قلبه يبقى ثابتاً فى مخافته، وأنه لا يترك المكان الذى جاء ليسكن فيه، بل يقاوم بشدة، فإنه يسمح بأن تأتيه أفكار أخرى توحى له قائلة ـ وهى متخذة فرصة ببره ـ : "صحيح إنك أخطأت، غير أنك قد قدمت توبة، فقد صرت منذ الآن قديساً"، وتذكره بخطايا بعض الناس الذين لم يتوبوا، وبذلك تزرع المجد الباطل فى قلبه.
6. ثم أن الأبالسة لا تكتفى بذلك، بل تجعل أيضاً بعض الناس يمتدحونه بإفراط، ويدفعونه إلى أعمال لا يقدر أن يقوم بها؛ وتوحى له بأفكار، كأن يمتنع عن الأكل أو الشرب أو يغالى فى السهر، وبأفكار أخرى يطول ذكرها؛ بل وتعطيه سهولة القيام بها، محاولة بكافة الوسائل أن تجتذبه إليها (أى إلى هذه الأعمال) مع أن الكتاب يحذر قائلاً: "لا تمل يمنة ولا يسرة بل أسلك فى الطريق المستقيك" (راجع أمثال 4 : 26 و 27).
7. ولكن إن لاحظ الله أن قلبه لم يمل إلى أى من هذه التجارب، التى سبق داود فتكلم عنها قائلاً : "جربت قلبى وافتقدته ليلاً. محصتنى بالتار لكن لم يوجد فىَّ إثم" (مز3:17)، حينئذ ينظر إليه الله من سمائه المقدسة ويحفظه بلا عيب. ولاحظوا جيداً أن داود لم يقل "نهاراً" بل "ليلاً"، لأن خداعات العدو هى ليل، كما يقرر أيضاً بولس الطوباوى : إننا لسنا أولاد ظلمة بل أولاد نور. فإن إبن الله هو بالحقيقة "نهار" بينما يشبه إبليس بـ "الليل".
8. ومتى تجاوزت النفس كل هذه المحاربات، فإن الأفكار المعادية توحى له بشهوة الزنا "النجاسة". وفى كل ذلك تشعر النفس بضعفها، ويذبل القلب، لدرجة أنه يتوهم أن حفظ الطهارةأمر يستحيل عليه؛ فإن الأفكار، كما فلت، تبين له طول الزمان، من جهة، وصعوبة الفضائل، من جهة أخرى، وكم أن حملها ثقيل لا يُحتمل، وتضيف إلى ذلك أيضاً ضعف جسده وهوان طبيعته.
9. وإن لم يكل أمام هذه المحاربات، فإن الله الرؤوف الحوم يرسل له قوة مقدسة، ويثبت قلبه، ويعطيه الفرح والنياح والقدرة على أن يقوى على أعدائه، بحيث أن هجومهم عليه لا يخزيه، لأنهم يخافون القوة الساكنة فيه، هذه التى قال عنها القديس بولس : "جاهدوا فتنالوا قوة" (كو29:1)، والتى تعرض لها أيضاً الطوباوى بطرس فى حديثه عن "الميراث الذى لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ فى السموات لأجلكم، أنتم الذين بقوة الله محروسون بالإيمان" (1بط 1 :4 ـ 5).
10. ومتى رأى الله الرؤوف المتحنن أن قلبه صار أقوى من أعدائه، فإنه يسحب عنه بالتدريج القوة التى كانت تسنده، ويسمح لأعدائه أن يهاجموه بنجاسات الجسد المختلفة وبشهوة المجد الباطل والعظمة، وبتجارب الخطايا الأخرى التى تجذب إلى الهلاك، حتى أنه يكاد يشابه سفينة بلا دفة، تتخبط من كل ناحية على الصخور.
11. ولكن متى صار قلبه وكأنه قد ذبل، وكاد أن يكون قد عثر فى كل من تجارب العدو، فإن الله محب البشر والمعتنى بخليقته يرسل فيه قوة مقدسة، ويثبته، ويُخضع قلبه ونفسه وجسده وكل أعضائه إلى نير الباراقليط، لأنه هو قد قال : "إحملوا نيرى عليكم، وتعلموا منى، لأنى وديع ومتواضع القلب" (متى 9:11).
12. وهكذا يبدأ الله الرؤوف، أخيراً، يفتح أعين قلب (الإنسان)، لكى يفهم أن (الله) هو الذى يثبته، وحينئذ يبدأ الإنسان يتعلم بالحقيقة كيف يعطى مجداً لله بكل تواضع وانسحاق قلب، كما يقول داود: "الذبيحة لله روح منسحق" (مز17:51)، لأته من صعوبة ذلك الجهاد، يتولد التواضع وانسحاق القلب والوداعة.
13. ومتى تجرب بكل هذه الأنواع، فإن الروح القدس يبدأ يعلن له الأشياء السمائية، أى كل ما يعود بالإستحقاق والعدل على القديسين، وعلى الذين وضعوا رجاءهم فى رحمته. وحينئذ يتفكر الإنسان فى ذاته ويردد قول الرسول : "إن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا" (رو18:8)، وأيضاً قول داود : "ماذا لى فى السماء؟ ومعك كم من الأشياء أردت فى الأرض؟" (مز25:73) ومعناه : يارب كم أععت لى فى السماء؟، وأنا كم من الأشياء طلبت معك فى الحياة الفانية؟ وهكذا أيضاً تعلن له العذابات التى تنال الخطاة، وأشياء أخرى كثيرة يفهمها كل رجل قديس بدون أن أذكرها.
14. وبعد هذا كله يقطع الباراقليط عهداًمع نقاوة قلبه وثبات نفسه وقداسة جسده وتواضع روحه، فيحعله يتجاوز كل الخليقة، ويعمل فيه، بحيث أن فمه لا يتكلم بأعمال الناس، وأنه يرى المستقيم بعينيه، ويضع حارساً لفمه، ويرسم طريقاً مستقيماً لخطواته، ويقتنى برَّ يديه أى (بر) أعماله، والمثابرة فى الصلاة مع تعب الجسد والسهر المتكرر. ولكن هذه الأشياء يرتبها الباراقليط فيه يقياس وإفراز، وليس بتشويش، بل بهدوء.
15. ولكن إن تجاسرت روحه فقاومت ترتيب الروح القدس نفسه، فإن القوة التى وُضعت فيه تنسحب، ويذلك تتولد فى قلبه محاربات واضطرابات، ثم تضايقه آلام الجسد فى كل لحظة بمهاجمة العدو.
16. ولكن إن تاب قلبه وتمسك بوصايا الروح القدس (من جديد)، فإن معونة الله تكون عليه. وحينئذ يفهم الإنسان أنه خير له أن يلتصق بالله فى كل حين،وأن حياته هى فى (الله) كما يقول داود : "صرخت اليك فشفيتنى" (مز2:30)، وأيضاً "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز9:36).
17. فمن رأيى، إذن، أن الإنسان إن كان لا يقتنى تواضعاً كثيراً، وهو فى قمة جميع الفضائل؛ وإن كان لا يضع حارساً لفمه ولا يجعل خوف الله فى قلبه؛ وإن كان لا يمتنع عن تزكية ذاته بسبب الأشياء التى يتوهم فيها أنه أصلح من غيره، وكأنه قد فعل خيراً ما؛ وإن كان لا يحتمل، برضى، الإهانات التىتقع عليه، ولا يقدم الخد الآخر للذى يلطمه؛ وإن كان لا يندفع، بعزم، نحو كل عمل صالح ليقتنيه؛ وإن كان لا يحمل نفسه فى يده كأنه يموت كل يوم؛ وإن كان لا يعتبر كل الأشياء التى تُرى تحت الشمس كأنها باطلة، ولا يردد فى نفسه : "لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح" (فى23:1)، وأيضاً "لى الحياة مع المسيح والموت هو ربح" (فى21:1)؛ فإنه لا يستطيع أن يحفظ وصايا الروح القدس. آمين.
(ملاحظة : الإقتباسات الكتابية مختلفة أحياناً عن نصها فى طبعة بيروت وهى مترجمة حرفياً عن نص القديس مقاريوس).
لفصل الثاني
دراسة تحليلية لمنهج القديس أنبا مقار
يكتب الأب متى المسكين تعليقه الشخصى على رسالة القديس أنبا مقار:
تبدو الرسالة فى منهجها الروحى عملية، تخلو خلواً تاماً من أى ميل ناحية المنهج التأملى الأوريجانى أو ناحية المنهج العقلى المفتعل المسمى بالتداريب الروحانية، حسب النمط الأوغريسي، الذى انتشر في القرن الرابع بين آباء نتريا والقلالى بتأثير أوغريس وآباء السريان فيما بعد (الشيخ الروحانى، والدرجى ومار اسحق). لذلك، فـ "رسالة القديس أنبا مقار إلى أولاده" هذه تعتبر من أندر وأنفس الكتابات الرهبانية القبطية الصافية الأصلية، التى وصلت إلينا، وهى جديرة باهتمام الرهبان وكافة الروحايين، بسبب بساطة الروحانية العملية التى تشع من كل سطورها.
والرسالة تخلو من أى منهج تصويرى فكرى أو ادعاء تدريبى مفتعل، كما قلنا، بل اعتمادها الأصيل على الخبرة الروحانية المسبقة القائمة على حياة التسليم المسبقة الإسترشاد بتدبير الأب الروحانى، حيث تأنى المعرفة دائماً نتيجة للخبرة الروحية وليس العكس؛ يُقوِّمها الأب الروحى ويوجهها، لتطابق المنهج الآبائى الإنجيلى، ليجعلها دائماً فى أمان كامل من التزييف العقلى، والنفسى، ومن الطموح الروحى؛ هذه الثلاثة التى تعتبر أخطر المزالق التى يهوى فيها النساك.
وفيما يلى نقدم بحثاً موجزاً عن كتابات القديس أنبا مقار بقلم أحد علماء الغرب الروحيين، وبه نقدم للقارئ صورة للعمل الفكرى الغربى فيما يخنص بدراسة الكتابات الروحانية؛ وهو يميل إلى التحليل والقياسات دون أن يهتم بلمس الحقائق الروحانية الصافية ليجعلها فى متناول القلب.
فهذه الدراسة العلمية الدقيقة، ولو أنها تتسم بالأمانة والإخلاص فى البحث حيث يبدو العالِم هنا (Resch) مهتماً أشد الإهتمام بمناهج الآباء وبالأخص منهج القديس أنبا مقار، مما يجعلنا نلتفت أكثر إلى هذا التراث الروحى المجيد؛ إلا أن هذا البحث فى مجمله لا يتعدى وضعه العقلى الفكرى المحض؛ وقد رأينا فى تقديمه فرصة لكى نعقد مقارنةبين أقوال القديس أنبا مقار الروحية البسيطة السهلة العملية وبين هذا البحث، الذى ولو أنه يقوم أصلاً على كتابات أنبا مقار، إلا أنه ينتحى ناحية القياس والمنطق الفكرى العقلى المحض.
وكل ما نوده من القارئ أن ينتبه إلى تعليقات الباحث، لا لكى يدخل معه فى حوار ودراسة فكرية، ولكن لكى يلتقط الحقائق فى موضعها ويخبئها فى قلبه ليخضعها إلى الخبرة العملية.
أما بصدد المقارنة التى يقدمها الباحث بين منهج أنبا مقار النسكى والروحى وبين منهج أنبا انطونيوس، فنحن نود أيضاً أن نلفت نظر القارئ أنه فى حين جاءت سيرة القديس أنبا أنطونيوس حافلة بالصراع الشخصى ضد الشياطين، على مستوى المقاومة المستمرة والمعاناة الواعية؛ فإن سيرة القديس أنبا مقار يظهر فيها الشيطان مقهوراً باستمرار ومنهزماً دائماً بصورة ساحقة، والسبب فى تفوق أنبا مقار على الشيطان كان هو القوة الروحية المرافقة له التى دُعيت بالشاروبيم أو الملاك. ومن هنا كانت حياة أنبا مقار وأعماله ومعجزاته الكثيرة جداً صورة للنصرة الفائقة القائمة على مؤازرة الله الشخصية لقديسيه، وبالتالى جاءت أقواله وتعاليمه مختصرة أشد الإختصار، لكنها قوية أشد ما تكون القوة، تنجح دائماً عند أول تطبيق لها بسبب الإلهام الفائق الذى يرادفها.
ويبقى ان نعرض البحث الذى تعرض بالتحليل لهذه الرسالة :
[التعاليم النسكية لكبار آباء القرن الرابع المصريين] للعالم ب . ريش والذى نشر يفرنسا عام 1931
الكلمات المتعلقة