القانون والثقافة
مقالات مختارة | عماد جاد
الأحد ٢٣ سبتمبر ٢٠١٨
نعانى منذ عقود ممتدة من حالة تغييب للقانون والانتقائية فى التطبيق على نحو جعل بلدنا يراوح مكانه دون خطوة إلى الأمام فى قضايا مثل المحاسبية، الشفافية، المواطنة والمساواة.
واقعنا اليوم يشابه واقع مجتمعات أوروبية قبل قرون طالت او قصرت، تغير الواقع فيها عبر سن قوانين وتطبيقها بصرامة وشفافية، فتوقف الناس عن ممارسة عادات همجية، وتوقفوا عن الاعتداء على بعضهم البعض لاعتبارات تتعلق بعوامل الانقسام الأولى من لغة وعرق ودين وطائفة، أو الانقسام الثانوى التى يكتسبها الإنسان فى مسيرته فى الحياة.
تغير الواقع عبر سن قوانين وتطبيقها، حدث ذلك فى دول العالم المتقدم عندما كانت متخلفة مثل حالنا اليوم، خرج البشر فى أوروبا من عصور الظلام والحروب الدينية والطائفية والقومية إلى عالم جديد ينهض على دولة المؤسسات وحكم القانون والمساواة التامة بين المواطنين بصرف النظر عن العرق، اللغة، الدبن، فالبشر وبعد تجارب مريرة وحروب مدمرة بسبب الانحياز لدين أو طائفة والعمل على تمكينها من الهيمنة والتضييق على المخالف والمختلف، وجدوا أن القاعدة الذهبية للتقدم والتطور هى بناء نظام ديمقراطى بأشكاله المتعددة المعروفة، وحكم القانون، المواطنة والمساواة، حياد الدولة تجاه الأديان والعقائد، بمعنى أن الدولة تقف على مسافة واحدة من كافة الأديان والعقائد، لا تنحاز لدين على حساب آخر ولا تمكن طائفة من أخرى، فليس من وظائف الدولة مساعدة أو إجبار المواطن على دخول الجنة، وظيفتها القيام بمهام الحماية والتأمين وتنظيم شؤون الحياة، الدول الفاشلة هى التى تتخذ لنفسها مهام دينية وتخلط الدين بالسياسة.
عندما أرادت هذه الدول بناء قاعدة الانطلاق نحو المستقبل وضعت دساتير ديمقراطية، بنت مؤسسات، فصلت بين السلطات، وسنت مئات القوانين التى تقر المواطنة، المساواة، قبول التنوع والتعدد، حياد الدولة إزاء قضية الأديان والمعتقدات، وفرضت عقوبات صارمة على مخالفة هذه القوانين وتحديدا المساواة بين المواطنين، وكانت هذه القوانين بمثابة الرادع الحقيقى عن ممارسة سياسات التمييز بين المواطنين او التدخل فى شؤون الآخرين، وبمرور الوقت اعتاد المواطنون على وجود هذه القوانين، وتحولت لدى الأجيال التالية إلى ثقافة دون خشية من رادع او عقوبة.
أما فى بلادنا حيث ينتشر الفقر والجهل والمرض والخرافة، فالأمر مختلف تماما، فلدينا دستور ملتبس، مرتبك بشأن علاقة الدين بالدولة، وفى الوقت نفسه لدينا قوانين بها فقرات غامضة عن عمد تدخل الموضوع فى متاهة ولا تحسم الموقف تجاه قضايا محددة، خذ على سبيل المثال قانون بناء الكنائس الذى صدر مؤخرا عن مجلس النواب من أجل تنظيم وتقنين عملية بناء الكنائس وإصلاحها، وتجد عبارة أن الموافقة على البناء أو الإصلاح «بعد الرجوع إلى الجهات المعنية» ولا يخفى على أحد أن الجهات المعنية هنا تعنى الجهات الأمنية، ومن ثم بات قرار إنشاء الكنائس وإصلاحها بيد جهات أمنية، تعمل وفق الأسس التى وضعت زمن السادات وكادت تفجر مصر أكثر من مرة، وبدلا من أن ينهى القانون حالة الصراع والجدل بشأن إصلاح وبناء الكنائس ساهم فى تعميق جراح المسيحيين فى البلاد ومنع السير باتجاه بناء دولة المواطنة، فما يجرى فى محافظة المنيا ومناطق أخرى هى مجرد أمثلة لغياب إرادة بناء دولة القانون والمواطنة وغرس ثقافة المساواة، فهناك حتى اللحظة عدم إيمان ببناء دولة مدنية حديثة تنهض على حكم القانون، صحيح أن الرئيس يؤكد باستمرار على الرغبة فى بناء دولة مدنية حديثة، لكن الصحيح أيضا أن الوقائع على الأرض تسير فى اتجاه مغاير.
الحل الوحيد للخروج من نفق العصور الوسطى الذى ننحشر فيه هو تنقية القوانين وإزالة ما بها من عوار وتضييق، التطبيق الصارم للقوانين على نحو يحولها إلى جزء من الثقافة العامة السائدة، فيكون التعامل بين الجميع وفقا للدستور والقانون لا ميراث العصور الوسطى بكل ما تزخر به من إرث دينى يكبل دولة القانون ويمنع بناء دولة مدنية حديثة، فأساس التعامل بين الدولة والمواطن هى نصوص الدستور والقوانين المستمدة منها والتى تتحول عبر التطبيق الصارم إلى جزء من الثقافة العامة.
نقلا عن المصري اليوم