عبقرية القطمارس
كمال زاخر موسى
٢٤:
١٢
م +02:00 EET
الثلاثاء ١٦ اكتوبر ٢٠١٨
كتب: كمال زاخر
لا تخلو خدمة طقسية فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، من أكثر من قراءة من الكتاب المقدس، على الأقل ثلاث قراءات، من المزامير ورسائل القديس بولس الرسول والإنجيل، منذ اللحظة التى يولد فيها المرء فى الكنيسة عبر طقس المعمودية، إلى اللحظة التى يترك فيها هذا العالم فى رحلته الأبدية فى طقس التجنيز، عبوراً بطقس الإكليل وهو يؤسس بيتاً جديداً، وحين يشرع فى الإنتقال إلى سكن جديد، فى طقس تبريك الأماكن، وحين يمرض فيستدعى قسوس الكنيسة فى سر مسحة المرضى، وحين يرزق بمولود جديد، ليجد نفسه محاطاً بكلمة الله فى تنويعة حياتية على وجود الله، عبر كلمته، حيثما ولى وجهه؛ لعله هنا يترجم وصية الله "تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك، ولتكن هذه الكلمات التي انا اوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على اولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم ابواب بيتك وعلى ابوابك" (تثنية 6: 5 ـ 9)، وقد أكد على هذا المضمون القديس بولس الرسول "فما هو اذا ايها الاخوة؟ متى اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور، له تعليم، له لسان، له اعلان، له ترجمة. فليكن كل شيء للبنيان" (1كو 14: 26).
ولعل هذا يفسر لنا اهتمام الكنيسة بأن تحول اليوم ـ كل يوم ـ إلى حالة صلاة فكانت صلوات الإجبية، (صلوات السواعى) إذ توقع المزامير والطلبات على ساعات النهار والليل، فى مناجاة العشق الإلهى، وهو طقس رهبانى بالأساس انتقل الى الكنيسة خارج اسوار الأديرة فى مصر والعالم فى كافة الكنائس التقليدية.
ولما كان القداس الإلهى هو جوهرة تاج الليتورجيا (منظومة الصلوات الطقسية فى الكنيسة)، فقد حظى بترتيب خاص فى القراءات الكتابية، فضلاً عن كونه بذاته يروى عبر صلواته وطقوسه دقائق تدبير الخلاص، وقصة الحب العجيب، من الخلق الى العصيان فافتقاده لنا عبر سلسلة الأنبياء ثم تتفجر ينابيع الخلاص بالتجسد والفداء وعودتنا الى رتبتنا الأولى، وفى ثنايا الطرح تفسح الكنيسة مساحة لنقدم للآب طلباتنا واحتياجاتنا، ونسأله أن يبارك مناحى الحياة والطبيعة والبلاد والعباد والقائمين علي تدبيرها، ونتواصل مع الذين سبقونا برحيلهم عنا، نطلب لهم راحة ونطلب صلواتهم عنا، فى استحضار لتكامل الجسد الواحد، وينتهى بنا إلى وليمة الفرح التى نلتحم فيها مع الفادى على مائدة الرب التى تعطى حياة ابدية لمن يتناول منها، وتعطى لمغفرة خطايانا بحسب أمر الرب. "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة ابدية، وانا اقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وانا فيه." (يوحنا 6 : 54 ـ 56). وتأتى روايته الإلهية ترجمة دقيقة لما جاء بالكتاب المقدس وكأنه يقرأه لنا.
وقد ضمت الكنيسة القراءات اليومية هذه فى كتاب يسمى "القطمارس"، وهى كلمة يونانية تعنى "حسب الفصل"، اشارة الى ما يحتوية من فصول كتابية، وقد بُدئ فى استعمالها ضمن القداس ـ شرقاً وغرباً ـ ابتداء من القرن الرابع الميلادى، وكانت كل كنيسة ترتب قراءاتها بحسب ما تراه، ويعود الفضل فى توحيد القراءات الكنسية فى الكنيسة القبطية إلى البابا كيرلس الرابع مع استقدامه لثانى مطبعة بعد مطابع محمد على الأميرية. إذ اهتم بطباعة كتب القطمارس ونشرها بكل كنائس مصر.
والقطمارسات فى الكنيسة القبطية هى :
ـ قطمارس سنوى الأيام (مرتبة حسب ايام السنة القبطية وشهورها).
ـ قطمارس سنوى الآحاد (يضم قراءات ايام الآحاد بامتداد السنة).
ـ قطمارس الصوم المقدس الكبير.
ـ قطمارس اسبوع الفصح (اسبوع الآلام).
ـ قطمارس الخمسين المقدسة ( الخمسين يوماً التى تلى عيد القيامة المجيدة).
وتضم القراءة اليومية ثلاث مجموعات :
ـ قراءت "العشية" وهى صلاة ترفع فى مساء اليوم السابق ليوم القداس ، وتضم المزمور والإنجيل.
ـ قراءات "باكر" وهى صلاة تسبق القداس الإلهى وتضم كسابقتها المزمور والإنجيل. ويضاف اليها قراءات من العهد القديم فى الصوم الكبير وفى ساعات البصخة المقدسة.
ـ قراءات القداس وتضم خمس قراءات :
* البولس : قراءة من رسائل القديس بولس الرسول.
* الكاثوليكون (الجامعة) : قراءة من الرسائل الجامعة (رسائل القديسين : يوحنا وبطرس ويعقوب ويهوذا).
* الأبركسيس (الأعمال) : قراءة من سفر أعمال الرسل.
* المزمور : قراءة من سفر المزامير.
* الإنجيل : قراءة من إحدى البشائر الأربع (متى ـ لوقا ـ مرقس ـ يوحنا).
وتضم القراءات الكنسية، إضافة إلى قراءات القطمارس، قراءة فى سير القديسين وأعياد الكنيسة وأحداثها التاريخية، مرتبة ايضاً بحسب التقويم القبطى يضمها كتاب "السنكسار"، ويوجد نظير له فى كل الكنائس الشرقية.
منهج وفلسفة القراءات :
ـ قطمارس الأيام :
نقطة الإنطلاق تبدأ من السنكسار؛ وتؤسس عليه قراءات القطمارس، التى تدور كلها حول المناسبة الأهم فى سنكسار اليوم، لذلك نلاحظ ان بعض القراءات تتكرر أكثر من مرة فى السنة لوحدة الموضوع، فعلى سبيل المثال القراءات التى تقرأ فى احتفال الكنيسة بعيد ميلاد القديسة العذراء مريم نجدها تتكرر كلما احتفلت الكنيسة بواقعة ترتبط بالعذراء : دخولها الهيكل، نياحتها، تكريس أول كنيسة باسمها، ظهور جسدها بعد صعوده.
وهكذا الأمر مع الملائكة، ويوحنا المعمدان، والأنبياء الأبرار، والرسل والإنجيليون، والشهداء، وآباء الكنيسة ، وغيرهم.
ـ قطمارس الآحاد :
تنبنى قراءات الآحاد على البركة الرسولية (محبة الله الآب ـ نعمة الإبن الوحيد ـ شركة الروح القدس)، وتتوزع بترتيبها هذا على آحاد الشهور القبطية : فتركز قراءات شهرى توت وبابة على محبة الله الآب، بينما تبرز قراءات الشهور من هاتور إلى برمودة اركان نعمة الإبن الوحيد، فيما تحدثنا قراءات الشهور من بشنس وحتى مسرى عن شركة الروح القدس.
ونكتشف معاً أن الموضوع العام لكل قراءات الآحاد هو (عمل الثالوث القدوس فى الكنيسة).
ويعلق قداسة البابا تواضروس على هذا فى كتابه "المنجلية القبطية الأرثوذكسية" "إن يوم الأحد بالنسبة لباقى أيام الإسبوع هو بمثابة الرأس بالنسبة للجسد، وقد خصصت الكنيسة يوم الرب (رؤ 1 : 10) أى يوم الأحد ليكون مُعبِّراً عن عمل الثالوث أو بصورة أخرى يوضح كيف أنه هو "المسيح رأس الكنيسة" على اعتبار أن بقية الأيام فى الإسبوع تمثل "الكنيسة جسد المسيح" حيث تخضع القراءات فى الأيام لكتاب السنكسار وتذكارات القديسين، ويستطرد : جدير بالملاحظة أن قراءات الأحد تُلغى فى حالة وجود أحد الأعياد السيدية لو جاء العيد يوم أحد، ويعامل عيد النيروز وعيدى الصليب معاملة الأعياد اسيدية، ويعود قداستة فيجمل ما قاله فى جدول يبين أن : قراءات يوم الأحد تتناول المسيح رأس الكنيسة، بينما قراءات بقية أيام الأسبوع تتناول الكنيسة جسد المسيح."
(الأعياد السيدية هى الأعياد المرتبطة بالأحداث الكبرى فى حياة السيد المسيح)
ـ قطمارس الصوم المقدس
يضم القراءات المتعلقة بصوم يونان وفصحه وأحد الرفاع وأيام وآحاد الصوم الكبير وقراءات عيد الصليب المجيد وقراءات عيد البشارة المجيد.
ـ قطمارس البصخة المقدسة
ويضم القراءات الخاصة باسبوع الآلام وتبدأ بسبت لعازر وتنتهى بسبت الفرح فى انتظار قيامة رب المجد/ واللافت فيها ما يعرف بليلة أبو غلامسيس، وهى كلمة يونانية تعنى " إعلان" أو "استعلان"، إشارة إلى الآية الأولى من سفر الرؤيا "إعلان يسوع المسيح"، والذى يقرأ كله فى ليلة السبت (من ليل الجمعة الى صبيحة السبت).
ـ قطمارس الخمسين المقدسة
ويضم القراءات الخاصة بالخمسين يوم التى تبدأ من أحد عيد القيامة المجيد إلى أحد حلول الروح القدس، وفيها تعلن الكنيسة الفرح الذى صار لها بقيامة السيد المسيح، وتتجول ما بين ظهورات رب المجد لتلاميذه، وتأكيد أن المسيح هو خبز الحياة ، وهو مصدر الحرية الحقيقية، وهو الماء الذى يروى ولا يعقبه عطش، وهو نور الحياة وطريقها الوحيد.، وقد اصعدنا معه بصعوده، وأجلسنا معه فى السماويات، ثم تؤكد الكنيسة على أنه لم يتركنا يتامى إذ ارسل لنا الروح القدس ليحل فينا ويمكث معنا.
وهكذا نكتشف أن الكنيسة تأسست على الكلمة، المسيح، والحاضر معنا بامتداد يومنا، مسيح كل يوم كل اليوم، عبر ترتيب مبدع لم يترك للصدفة، ينتهى بنا الى تأكيد عضويتنا فى جسده، لنصير إعلان متجدد لوجوده وعمله فى العالم بامتداد التاريخ واتساع الجغرافيا. نوراً للعالم وملحاً للأرض.
اعتمد هذا المقال على كتابين :
ـ المنجلية القبطية الأرثوذكسية لقداسة البابا تواضروس الثانى (الطبعة الأولى نوفمبر 2013).
ـ معجم المصطلحات الكنسية (ثلاثة اجزاء) للأب الراهب القس أثناسيوس المقارى (الطبعة الثالثة سبتمبر 2012).
الكلمات المتعلقة