بيريسترويكا كنسية (9) - الثابت والمتحول: وحدة ممكنة أم افتراق أبدى؟
ماهر عزيز بدروس
٢٠:
٠٤
م +02:00 EET
السبت ٢٧ اكتوبر ٢٠١٨
كتب : ماهر عزيز بدروس
تعانى الكنيسة الجامعة الرسولية أزمة كبرى تمنع على نحو جذرى عميق أن تكون كنيسة "واحدة" على نحو ما يشيع فى قانون الإيمان المسيحى: "نعم نؤمن.. بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية"..
فهى ليست واحدة بعد حتى يومنا هذا على أثر الافتراق المروع فى أعقاب مجمع خلقيدونية الأشهر.
فإذا سألنا: لماذا الافتراق؟
تأتينا إجابة صافعة بأن الجميع قد رصدوا لبعضهم البعض اختلافات كبرى فى الإيمان والعقيدة تعوق وحدتهم.
ونسأل: هل هى حقاً اختلافات كبرى تكرس الخلاف وتعوق الوحدة؟
أم أن الأمر يحتاج أن يتبينه الجميع على نحو أصح وأرشد؟
يبدو لى أن التمترس بحصون الاعتقاد المفرد لكل كنيسة على حدة، واستعلاء كل منها على الكنائس الأخرى بوصفها الوحيدة التى تملك الصواب والفهم والإيمان الصحيح.. قد أغشى عيون الجميع وأعماهم عن رؤية القاسم الإيمانى المشترك الأعظم الذى بمستطاعه أن يوحدهم جميعاً معاً مصداقاً لقانون الإيمان المتفق عليه من الجميع.
هنا يتعين أن نعود لعنوان المقال:
الثابت والمتحول: وحدة ممكنة أم افتراق أبدى؟
ونسأل: ما الثابت؟ وما المتحول؟
فنجيب: الثابت هو المقولات الرئيسية للإيمان التى بدونها لا يكون االمسيحى مسيحياً..
والمتحول هو الممارسات الروحية والعبادات التى تختلف من كنيسة لكنيسة ومن شعب لشعب ومن ثقافة لثقافة ومن عوائد إلى عوائد أخرى.. بل ومن جيل سبق إلى جيل لاحق..
بالإجمال: الثابت هو الثابت الإيمانى والمتحول هو المتحول التعبدى.
ونسأل: ما هو الثابت الإيمانى للمسيحية كديانة؟
فنجيب: الثابت الإيمانى للديانة المسيحية يتشكل من ثلاث مقولات جوهرية:
أولها: اللـه موجود.. واحد بالجوهر منفرد بالوحدانية
" أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَاى"(إش 45 : 5).
" أَنَا هُوَ. قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ. أَنَا أَنَا الرَّبُّ، وَلَيْسَ غَيْرِي.. وَأَنْتُمْ شُهُودِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَنَا اللهُ"(إش 43 : 10 - 12).
ثانيها: اللـه الواحد الأحد الذى لا شريك له مثلث الأقانيم
" فَإِنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الآبُ، وَالْكَلِمَةُ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ. وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ" (ايو 5 : 7).
والإيمان بالجوهر الإلهى مثلث الأقانيم هو هكذا:
أقنوم الآب : الكيان بالذات
أقنوم الإبن: المعرفة بالذات
أقنوم الروح القدس: الحياة بالذات
وهذا هو اللـه الواحد الأحد الذى لا شريك له..
واحد فى الجوهر مثلث الخواص الذاتية (الأقانيم = الهيبوستات).
فاللـه الواحد الأحد الذى لا شريك له.. الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد: كائن بذاته ناطق بكلمته حى بروحه.. خصائصه الذاتية (أو صفاته الذاتية جوازاً) تعنى أن لا خصائص أخرى يمكن نسبتها إليه تحقق ذاتية الوجود (لا صفات أخرى تتعلق بالوجود فقط ويتحقق وجوده فيها إلا هذه وحدها).
هذه الذاتيات الثلاث يمتنع وجود اللـه لو امتنعت إحداها.. وهذا هو معنى "الذاتية": أى "الجوهرية" فى الذات الإلهية.
لو لم يكن الكيان ما كان اللـه (حاشا)،
لو لم يكن العقل (الكلمة = المعرفة) ما كان اللـه (حاشا)،
لو لم يكن الروح ما كان اللـه (حاشا).
فلا يمكن أن لا يُوجَد بذاته،
ولا يمكن أن لا يَعْرِف بذاته وفى ذاته،
ولا يمكن أن لا يحيا بذاته.
وما عدا هذه الذاتيات الثلاث يوجد اللـه.. فالرحمن الرحيم العدل القدوس القهَّار إلى آخر الصفات يوجد اللـه (فى الكيان والعقل والروح) سواء وجدت هذه الصفات جميعها أم لم توجد.
وهذا هو الفارق بين الخصائص الذاتية (أى الجوهرية للوجود) وغير الذاتية (أى التى يوجد سواء وجدت أم لم توجد).
ثالثها: أقنوم المعرفة بالذات – الكلمة – تجسد فى التاريخ : اللـه الظاهر فى الجسد فى شخص يسوع المسيح، وصنع الفداء: صُلِبَ وقُبِرَ وقام من بين الأموات، وصعد إلى السموات، ويأتى فى مجده ليدين الأحياء والأموات.
" قُولُوا لِخَائِفِي الْقُلُوبِ: «تَشَدَّدُوا لاَ تَخَافُوا. هُوَذَا إِلهُكُمُ... هُوَ يَأْتِي وَيُخَلِّصُكُمْ" (إش 35 : 4-6).
" وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (اتى 3 : 16).
" وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا
نِعْمَةً وَحَقًّا" (يو 1 : 14).
" آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ" (فى 2 : 6 ، 7).
" فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ.. حَيْثُ صَلَبُوهُ" (يو 19 : 16، 17).
" فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ ههُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ" (مت 28 : 5 و 6).
" أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا" (يو 11 : 25).
" وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ (أى اللـه الظاهر فى الجسد) الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ" (يو 3 : 13).
".. يَأْتِي فِي مَجْدِ... مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ" (مت 16 : 27).
".. وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْعَتِيدِ أَنْ يَدِينَ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتَ، عِنْدَ ظُهُورِهِ وَمَلَكُوتِهِ" (2تى 4 : 1).
ولكن جرثومة الانقسام – رغم هذا الثابت الإيمانى المباشر والبسيط الذى يُجْمِع عليه الكل – سرعان ما سرت فى الجسد الضعيف للكنيسة منذ عصر الهرطقات الكبرى.
كان القرن الخامس الميلادى هو قرن الانقسام الأعظم بين كنيسة روما والكنيسة القبطية الأرثوذكسية عام 451 على أعقاب المجمع المسكونى الخامس فى خلقيدونية، وهو المجمع الذى لا تعتبره الكنيسة القبطية وكافة الكنائس اللاخلقيدونية الأخرى مجمعاً مسكونياً.
كان المجمع بمثابة مؤامرة انعقدت فيها النية منذ البداية على تقزيم كنيسة الأسكندرية وعزلها. فمصر التى كانت أحد أجزاء الامبراطورية الرومانية – هكذا صوَّر لهم حقدهم – لا يمكن أن تقود كنيستها الإيمان المسيحى للإمبراطورية كلها وتقف وحدها حارسة له..
فلقد رفض البطريرك السكندرى ديسقورس ومعه كنيسة الاسكندرية منذ البداية الإذعان لما كانت روما تريد أن تفرضه من تقدم أسقف روما على غيره من الأساقفة، وكانت الكنائس الخمس القديمة متساوية ولم تمارس إحداها أية سلطة على أى كنيسة من الأخريات.. فإذا بالبواعث السياسية تعظم الخلاف اللاهوتى لينفرد بابا روما بالرئاسة التى كان يريدها.. فأدانت روما وبيزنطية ديسقورس لهذا الرفض عينه ورمته بمساندة هرطقة أوطاخى.
كان الوتد اللاهوتى الذى دُقَّ فى ظهر الاعتقاد المسيحى عندئذ مرتبطاً بطبيعة المسيح ومشيئته ، فراح متآمرو الخلقيدونية يبالغون فى تأكيد طبيعتين للمسيح إحداهما إلهية والأخرى إنسانية بينما تمسك ديسقورس بتأكيد اتحاد اللاهوت بالناسوت فى المسيح فى طبيعة واحدة بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.
وهكذا ولدت "المونوفيزية" القبطية (الطبيعة الواحدة) التى يخلطونها عمداً بهرطقة أوطاخى (القائلة بأن لاهوت المسيح قد امتص ناسوته كما يمتص المحيط قطره من الخلّ) بما يخالف "الطبيعة الواحدة"..
على أن الخلاف اللفظى المحتدم بين صياغتى "الطبيعة الواحدة" و "الطبيعيتين" لم يتبين أنه خلاف صورى، وأن الصياغتين تعبران فى الواقع عن نفس الحقيقة الإيمانية إلا بعد خمسة عشر قرناً عندما تم الاعتراف رسمياً بذلك.
كانت الكنائس الخلقيدونية تدافع عن التعليم بأن "المسيح هو طبيعتين بعد التجسد، وهو مسيح واحد وابن واحد ورب واحد فى بروسبون (أى "شخص" التى هى و"أقنوم" كلمة واحدة فى اللاتينية) واحد"، وكانت الكنائس السابقة على مجمع خلقيدونية تدافع عن التعليم بأن "المسيح هو طبيعة واحدة للـه الكلمة المتجسد والمتأنس، وهو مسيح واحد ورب واحد فى هيبوستاس (أقنوم) واحد، بوحدة كاملة بين اللاهوت والناسوت، وصَدَرَ ذلك فى الأساس لأن الكنيسة الأنطاكية (الخلقيدونية) كانت تعلم بأن "الكلمة = الإنسان"، بينما كنيسة الأسكندرية (اللاخلقيدونية) كانت تعلم بأن "الكلمة = جسد".
"الإله الحق" و"الإنسان الحق" كانت متفقة فى واقع الأمر، ومع ذلك اختلفت بين الفريقين باختلاف الصيغ، فلقد أعطت كل من مجموعتى الكنائس لألفاظ "الشخص" و"الطبيعة" و"الهيولى" و"الناسوت" و"الأقنوم" معان اختلفت فيما بينها بكثير من المماحكات اللفظية.
ولذا فبعد نزاع دام خمسة عشر قرناً اعترف بابا روما (بولس السادس) وبابا الأسكندرية (شنودة الثالث) بتماثل إيمانهما فى سر تجسد الكلمة كما تم التعبير عنه فى إعلان مجمع نيقية، وكان ذلك فى الإعلان المشترك الصادر عن الفاتيكان فى 10 مايو 1973.
فى خلقيدونية كان المثال صارخاً:
تبعثروا فى الاختلاف فى مهاترات لفظية بحتة، وأدت اللغة دوراً تدميرياً للجميع، فاختلفوا حول المفاهيم الأساسية بمناح شتى، وبلغت المواقف السياسية المتناقضة بالانقسام ذروته، فإذا به يدمر الوحدة فى صميمها، وتتشرذم - من ثم - الجماعة الواحدة فلا تعود تقدر أن تلتئم ثانية البتة.
الجميع يؤمنون بالمسيح "اللـه الظاهر فى الجسد".. وذلك وحده كاف لتوحدهم.
أما أن يكون ذا طبيعة واحدة ومشيئة واحدة أو يكون ذا طبيعتين ومشيئتين فذلك هو العُقْم الفكرى والروحى عينه.. والمضى فيه لافتعال الخلاف، ومداراة التناقضات السياسية المغرضة وشهوة السيادة والسلطان المتأصلة، هو الحماقة الكبرى.
يحفل التاريخ باجتهادات بشرية عقيمة فى محاولة إدراك المسيح.. تبنى فيها كل جماعة تصوراتها على مفهومات جزئية مبتسرة أو مفهومات كلية شاملة.. وغيرها من المفهومات التى ينتهى كل منها إلى اعتقاد مختلف فى الظاهر، بينما الباطن الحقيقى واحد فى الجميع، ويمكن بالاستناد إليه وحده يتوحد الجميع.. ويُتْرَك بالتعمق فى الكتاب المقدس وحده أن يصل كل فريق بعد ذلك إلى الإدراك الحق دون التعثر مطلقاً فى الخلاف حول الإدراك.
ذلك ما وقع فيه المسيحيون ومزقهم فشطر الجسد المسيحى الواحد شطرين عظيمين بعد واقعة خلقيدونية القاصمة.
ففى خلقيدونية تقطعت أوصال الجسد الواحد للمسيح (رو 12: 4-5) فوجهت سهماً مسموماً للرأس الواحد جعله ينزف حتى اليوم.
وكانت الحماقة هى الاختلاف المحتدم حول شخص المسيح وطبيعة جوهره مما لا علاقة له أبداً بعمل اللـه الخلاصى للبشر وفعله الإلهى الأعظم لتوحيد الإنسانية المعذبة فيه وبه، وهو الأصل والجوهر فى المسيح يسوع من حيث هو "اللـه الظاهر فى الجسد".
تشبث الحمقى باللفظ المختلف على حساب الجوهر الواحد الذى يتفقون عليه جميعاً، وغلبت الطبيعة البشرية التى تتحزب للذاتية الفردية والعصبية المحلية وتتعصب لها على حساب الجماعية المنكرة للذات.
ماذا أفاد الذين تحزبوا للطبيعتين والمشيئتين؟
ماذا كانت فاعلية ذلك فى ثباتهم فى المسيح؟
ماذا أفاد الذين تحزبوا للطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة؟
وماذا كانت فاعلية ذلك فى حياتهم؟
أزعم أنهم جميعاً افترستهم كبرياء الفكر المجرد العقيم التى تحجرت على مناقضة الآخر كسبيل لإثبات الذات، وتوكيد السلطان الأخرق، والتمترس بالمكاسب السياسية الباطلة..
وأزعم أنهم لم يدركوا حتى اليوم ماذا يعنى لهم تشبثهم ذلك خاصة والآيات التى تكشف عن جوهر يسوع فى الكتاب المقدس واضحة فى ذاتها وبذاتها دون خلاف!!!
المسيح.. "اللـه الظاهر فى الجسد".. وكفى.. "قول الحق الذى فيه يمترون".. يختلفون.. يتجاذبون.. ويتساقطون.. بينما هو الساطع كالشمس التى لا يختلف عليها اثنان: "اللـه الظاهر فى الجسد".
طبيعة أم طبيعتان؟
مشيئة أم مشيئتان؟
ليست أكثر من مماحكات لفظية ومفاهيمية دمرت وحدة الكنيسة على أيدى الحمقى والجهَّال ومَلْهَاة السياسة.
بينما يبقى الكتاب المقدس وحده دون تأويل هو الحَكَم الأصدق الذى يَجُبُّ كل خلاف.. لكنهم تركوا الأعماق الكتابية وانهمكوا فى المهاترات العدائية التى ولَّدت الخصومة والترصد والعداوات والتعصب المقيت!!!
ألا فلتترك الأرثوذكسية القبطية عنادها المستحكم لتقترب من الكنائس الأخرى على قاعدة مشتركة من الجوهر الكتابى الثابت، وليس على الظاهر التعبدى السطحى الذى يعمق الاختلاف.
لتسقط كل مماحكة لفظية يتحصن خلفها أولئك الذين يكرسون الفرقة ستاراً للإبقاء على السلطان والسيادة.. فالسلطان والسيادة باقية فعلاً مهما حدث الاقتراب والتوحد.. فلا مخافة.
ماذا أفاد المسيح من جدل عقيم حول طبيعته ومشيئته بينما الحقيقة الوحيدة التى سطعت جلياً دون لبس: أنه هو هو "اللـه الظاهر فى الجسد" الذى أعلن للبشر جَلاَلَه فأخلى ذاته وأحنى السماء ونزل..
هذا الجدل العِنِّين لم يخصب سوى رِجْسَات الخراب.
وماذا أفاد المسيحيون حين اختلفوا حول شخص المسيح المجيد؟
ماذا كسبوا حين خاصموا بعضهم البعض حتى الموت بالطبيعة الواحدة والمشيئتين؟
هل انطبع ذلك بأى أثر على سلوكهم أو حياتهم؟
أم أثمر فقط الافتراق العنيد والعداوة المتمكنة والاغتراب عن إرادة اللـه فى وحدة البشر المؤمنين باسمه كالأعضاء فى الجسد الواحد الذى رأسه المسيح؟ "... هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ"(رو 12 :4 - 5 ). فإذا بالجسد يمزق بعضه بعضا.. وإذا بالأعضاء تختصم جميعها معاً فى عناد مستحكم ليحفظ العناد لكل منها رئاسة دنيوية مستقلة، وسلطنة أرضية زائلة، تطعن جميعها الوحدة فى المسيح؟
عود فنسأل : وما هو المتحول التعبدى فى الديانة المسيحية؟
فنجيب : المتحول التعبدى.. هو الممارسة المتجسدة للاعتقاد الإيمانى المجرد التى تتحول من صورة إلى صورة.. ومن أسلوب إلى أسلوب.. ومن طقس إلى طقس..
أى تتحول من تجسد للإيمان على نحو ظاهر فى ثقافة معينة إلى تجسد مكافئ على نحو عيانى فى ثقافة أخرى.
الجميع يقبلهم يسوع.. لأنه هو ذاته الذى أوجد البشر على اختلاف.. على ثقافات متنوعة.. ولا يطلب من الجميع أن يمتثلوا لتعبير ثقافى واحد.. فالتنوع فى الوحدة كائن.. والوحدة تؤلف الاختلاف.
تبدو الصور المعتادة للعبادة المسيحية فى الطوائف كلها على اختلاف منابتها وموائلها وطرائق وجودها كأنها تفترق أو تتعاكس أو تتنافر أو يعتورها التضاد والمفارقة.. بينما هى فى حقيقتها تجسدات متمايزة لجوهر وحد هو الإيمان بالمسيح.
يبقى الإيمان الثابت واحداً ثابتاً دون تغيير أو اختلاف أو ظل دوران.. لكن التعبدات كلها تظل رهن النسبية المنبتّة فى الخصوصيات الثقافية لكل شعب وكل كنيسة..
فالأصوام -مثلاً- كإحدى الظواهر التعبدية فى كل الكنائس تختلف من كنيسة لأخرى.. بل إنها فى الكنيسة الواحدة قد اختلفت عبر العصور خلال ألفى عام منصرمة دون أن يؤثم أحدهم هذا الاختلاف أبداً..
ففى القبطية الأرثوذكسية ظل الصوم الكبير -كمثال- حتى القرن الخامس الميلادى ستة أسابيع شاملة أسبوع الآلام.. كما ظلت نوعية الطعام خلال الصيام غير محددة البتَّة.. بينما يبلغ الصوم الكبير الآن خمسة وخمسين يوماً تشتمل على ما يسمى أسبوع هرقل (الذى لم يكن للكنيسة فيه ناقة ولا جمل)، وتحددت فيه الأطعمة ذات الأصول النباتية فقط..
فهل كانت القبطية الأرثوذكسية منذ دسقولية تعاليم الرسل وحتى القرن الخامس مزندقة آثمة لأن صيامها الأكبر لم يكن كما هو عليه الآن؟
أم أن الصوم فى حد ذاته هو ممارسة تعبدية نسبية بنسبية البشر والعصر والأحوال والثقافة والتعليم الدينى السائد والتعبدات التى اعتادها الناس؟
الحق أنه قد بات لازماً الآن أكثر من أى وقت مضى أن يتعرف الجميع على حقيقة أن الطعام فى حد ذاته لا يجعلنا أبراراً أكثر أو أشراراً أكثر، إنما يدان الإنسان لارتباطه بشهوة الطعام أو الاستعباد له!!
ولنتذكر جميعاً أن الذين لم يذوقوا اللحم قط وعاشوا فقط على الطعام ذى الأصول النباتية فى عصر نوح البار غرقوا جميعهم فى الطوفان رغم امتناعهم عملياً عن اللحوم؟
ولنتذكر أيضاً أن رُسُل المسيح تركوا الأمر كله فى هذا الشأن للحرية الفردية حتى ليمارس كل إنسان الصوم دون ضغط أو إضطرار.
وفى ممارسة العماد كأساس تعبدى للولادة الروحية ومثال لموت المسيح ودفنه وقيامته.. باباً للدخول فى المسيحية وختماً للقبول يؤكد: "... هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ"(مت 3: 11).. وقد أسس
للوسائط المتجسدة "مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ"(يو 3: 5)، مطهراً كل من يدخل إلى إيمانه "بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ"(أف 5: 25-27).. "فأعاد ولادة النفس بالإيمان لينال الجسد أيضاً النعمة بواسطة الماء"(غريغوريوس النيسى، عظة 3: 2)، لأنه قد سبق فأكد: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللـه"(يو 3: 5)، فيكون " مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ"(مر 16: 16). وتصنع القبطية الأرثوذكسية الممارسة التعبدية فى المعمودية بالتغطيس فى الماء ثلاث دفعات على اسم الثالوث الأقدس: الآب والإبن والروح القدس.. اللـه الواحد الأحد الذى لا شريك له فى تجليات كينونته وكلمته وروحه فى الواحد الأحد.
غير أن ذلك لم يمنع ما عَبَّرَت عنه الكنيسة "بمعمودية الشهادة والدم" للذين يقدمون أنفسهم للشهادة على اسم المسيح قبل أن يقتبلوا معمودية الماء، وذلك على الصخرة التى أسسها يسوع: "فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"(مت 10: 32)، و"مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا"(مت 16 : 25).
معمودية الدم هذه وقبولها فى الاعتقاد الجازم للقبطية الأرثوذكسية: هلى تلقى بظلال مؤكدة للتساؤل المشروع حول ما قصده السيد المسيح من "الماء والروح"(يو 3: 5)؟ وهل لذلك وشائج تربطه "بالأشياء العتيقة قد مضت" و"هُوَ ذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا"(2كو 5 : 17)؟ و"أَمْاَ الرُّوحِ فَيَّحْيَّىَ"(يو 6: 63)؟
كذلك سمحت القبطية الأرثوذكسية فى ظروف استثنائية لا مناص منها للمرضى والمقعدين الذين لا يمكن تغطيسهم فى جرن المعمودية أن يُعَمَّدُوا بسكب الماء ورشه (ترتليانوس فى التوبة فصل 6 ، وتاريخ أوسابيوس 6 : 43 وأغسطينوس فى تفسير يوحنا 80)، ولمّا حدثت مشاجرات عنيفة بين مسيحيى عصر "كبريانوس"، إذ كان كثيرون منهم لا يقبلون اعتبار العماد الذى تم بالرش، وكان يطلبون إعادة معموديتهم، اضطر "القديس كبريانوس" أن يكتب فى الموضوع لنزع الخلاف: "إن سر العماد لا يعدم قوته ولا صحته إذا تم عند الضرورة بالرش ولا حاجة إلى إعادته" (رسالة 76)، لذلك لا تعيد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية معمودية كل من اقتضت دواعيهم الخاصة عمادهم بالرش لكنها لا تمارس السر ذاته إلا على النحو الذى تمارسه به بالتغطيس.
رغماً عنا يقفز التساؤل هنا: ألا تسوقنا هذه المرونة النسبية فى النسق التعبدى للعماد إلى إنعدام التحجر فى رفضنا - أو عدم قبولنا - لآخرين يمارسونه على نسق سكب الماء ورشه؟
وفى "سر التوبة" تؤسس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الممارسة التعبدية للاعتراف بالخطايا والتوبة عنها أمام الكاهن ليحصل منه التائب المعترف على حِلّ من خطاياه بالسلطان الذى تعتقد القبطية الأرثوذكسية أنه معطى للكاهن من الرب يسوع..
ولكن رغم هذا الاعتقاد القبطى الأرثوذكسى بأنه "هكذا بواسطة الكاهن ينال التائب الغفران بنعمة المسيح" (أثناسيوس الرسولى) حدث فى أحد عصور الانحطاط أن انقلب الكهنة على السر "المقدس" فصار لهم تجارة دنسة، وراحوا يبتزون أفراد الشعب ويهددونهم بفضح خطاياهم إن لم يؤدوا لهم ما يطلبونه منهم مهما بلغ.. ومهما كان!!! فما كان من البطريرك المبارك المملوء بروح اللـه حينها إلا أن يأمر بمنع الاعتراف بالخطايا على الكهنة، ومنع نوال أى حِلٍ بالمغفرة منهم "بحسب الاعتقاد الكنسى السائد".. وقدم بديلاً يحمى الناس من ابتزاز الكهنة الفاسدين بأن يطرح كلٌ منهم اعترافه بخطاياه أمام اللـه فى صلاة القداس وقت أن يبخر الكاهن بالشورية، وينال توبته من اللـه رأساً بعد اعترافه بخطاياه الذى اشتهر تاريخياً حينها بـ "اعتراف الشورية"..
لقد استطاع هذا البابا المبارك أن يُبَدِّل الممارسة التعبدية ويغيرها لأجل سمو الروح ضارباً بعرض الحائط ما يعتقده الناس مقدساً.. وما تفرضه الكنيسة كأحد الأسرار التى لا تُكْسَر مادام قد صار آلة للخسة والابتزاز والحقارة..
وراح البابا المبارك يعظم فى الناس لتعبداتهم الخاصة إرشاد الإنجيل وتوجيهه أن "اِعْتَرِفُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ بِالزَّلاَتِ، وَصَلُّوا بَعْضُكُمْ لأَجْلِ بَعْضٍ" (يع 5: 14- 16)، و"إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يو1: 9)، لأنه هو الذى يدعو مختاريه: "ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ" (يوء 2: 12)، فيرفعون قلوبهم للـه طالبين رحمته: "أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ"(لو 15: 18 و19).
وهكذا.. فالنسبية حاضرة فى العبادات كلها على نحو ظاهر كالشمس.. وهى خاصة لصيقة بكل عبادة.. وأى عبادة.. مهما كانت علاماتها ثابتة فى الممارسات.
لعل الأمر قد صار أكثر وضوحاً الآن.. فالمتحول التعبدى يختلف من كنيسة لأخرى، ويختلف فى الكنيسة الواحدة بين عصر وعصر وبين جيل وجيل، لأنه يرتبط بأحوال الناس وظروف عصرهم، والبيئة الجغرافية والطبيعية التى يعيشون فيها، والمخزون الثقافى والحضارى لديهم، فضلاً عن مسيرة التاريخ السياسى والإنسانى والكنسى لأفواجهم المتعاقبة جيلاً بعد جيل.
ما نتشاجر عليه بين الطوائف حتى التراشق بالاتهامات كانت له فى الواقع استثناءات مقبولة..
لماذا يتعارك الأقباط الأرثوذكس مع البروتستانت لخلاف تعبدى فى مسألة الأفخارستيا؟
ولماذا يتعارك الأقباط الأرثوذكس مع الكاثوليك لخلاف تعبدى فى مسألة العماد؟
طالما اقتضت الضرورة يوماً أن يتم العماد بالدم فقط؟!!
قبول هذا العماد على خلاف ما تتبعه القبطية الأرثوذكسية فى طقوس تعبدها هو مقدمة لقبول الاختلاف ذاته.. فلا غرو أن تبقى الممارسة التعبدية للعماد فى كل كنيسة دون تأثيم من كنيسة أخرى فلا يتهدم مسار الاتحاد..
كل طرف له منطقه الخاص.. وكل منطق بيِّن بذاته.. والمنطق الأكثر التصاقاً بالكتاب المقدس هو الذى ستزكيه ضمائر الناس فى مستقبل الأيام.
أولئك الذين يتدافعون بقولهم: "الإيمان المُسَلَّم مرة للقديسين" عليهم أن يدركوا أن ذلك الإيمان المسلم مرة للقديسين هو ثوابت الإيمان التى أثبتناها فى صدر المقال.. وما عداها كله هو ممارسات تعبدية تختلف أو تفترق دون أن تنقض هذا الإيمان الثابت عينه.
لا يحتمل الأمر بطولات عنترية خرقاء بدعوى الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسى.. فذلك هو جوهر الإيمان.
أما أن تدور خمس مرات فى الهيكل.. أو تردد هذا اللحن هكذا.. أو تصوم بالفجل والجرجير فقط.. أو تصلى واقفاً أو راكعاً.. أو تعترف على ذاك أو تعترف للـه.. فذلك كله لا شأن له بالإيمان، وكفى عنتريات ممجوجة.
لقد عاشت أجيال متعاقبة من الشباب القبطى الأرثوذكسى تتجرع الكأس المسمومة التى تغذى الكراهية والفرقة بين الطوائف المسيحية.. وتحت شعارات براقة "كتثبيت العقيدة" راحت تُعْقَد مؤتمرات وندوات وعظات ولقاءات ومواسم تُلْقَى فيها بذار هذه الكراهية والفرقة بشراسة لا يحسدون عليها.. حتى إننى سمعت بأم أذنَّى أحد أكبر الأساقفة الزاعمين للتطرف الطائفى يلقى على الشباب فى اجتماع ذهبت إليه خصيصاً لأستمع عن قرب - لأننى لم أكن قد استمعت إليه البتة قبل ذلك.. وحين أتى فى حديثه إلى هذه العبارة الشاذة: "غير المسيحيين والوثنيين وأصحاب الديانات الأرضية كلها أقرب للأرثوذكس الأقباط من الكاثوليك والبروتستانت".. قمت واقفاً لتوى وتركت القاعة طارداً السم الزعاف من أذنى!!!
نعم.. فيما كان يسمى لقاءات أو اجتماعات "تثبيت العقيدة".. قال الأسقف الكبير فى السلطان والتحكم: "إن الوثنيين أقرب إلينا – يقصد الأقباط الأرثوذكس المصريين على الخصوص – من البروتستانت والكاثوليك".. نعم هكذا.. وزاد فأكد إن أصحاب الديانات الأخرى الأرضية جميعاً أقرب إلى الأقباط الأرثوذكس من البروتستانت والكاثوليك"، معمقاً الخلاف والفرقة على نحو أبدى رغم عضويته البارزة التى كانت على رأس فريق حوارات التقريب بين الكنائس!!
فبأى رؤية تحدث هكذا؟
وعلى أى نحو كتابى أو عقيدى أو حتى تفكيرى ورؤيوى راح يؤكد ذلك؟
يتعبد الناس للـه فى مصر بالكنائس الأرثوذكسية القبطية وقوفاً وجلوساً أو إنحناء بتراتيل أو بنصوص مقروءة على نحو مباشر أو بألحان..
بينما يعبد الناس اللـه فى مناطق عديدة بأفريقيا بالطبل والرقص الإيقاعى والغناء..
فيكون ذلك كله مقبولاً للمسامع السماوية.. وقد عبد بنو إسرائيل اللـه فى القديم بالدفوف والصفوف والأوتار والأرغن..
بل ورقص داود – وهو نبى اللـه – أمام تابوت العهد إبتهاجاً بالعبادة.
ويتمايل المتعبدون فى كثير من الكنائس البروتستانتية تمايلاً منتظماً مع موسيقى روحية على أوتار البيانو أو غيره من الآلات وهم ينشدون ويصرخون من أعماق قلوبهم للـه..
فهل يلام أولئك أو هؤلاء لأنهم لا يعبدون اللـه مثلنا؟
هذا تراثهم الإنسانى وثقافتهم وفولكلورهم وهويتم وذلك شكل تعبداتهم..
العبادة جزء من مكونات الشعوب ولكل أسلوبه وطريقته..
لكن اللـه يتقبل من الجميع لأنه – جَلَّ جلاله – لم يطلب سوى القلب والضمير: "يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ، وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي"(أم 23 : 26).
نحن نصنع صنماً لإله غير اللـه الحقيقى.. إلها على قدر عقولنا الصغيرة وبصائرنا المكدودة وأحلامنا الترابية الجهول فنتصور أنه – سبحانه – لن يقبل فى نعمته ورضاه سوى "الأقباط الأرثوذكس" على طول الدهور.. فإذا جاء مسيحيون آخرون فى كل بقاع الأرض من عهد المسيح حتى اليوم يتعبدون على نحو يخالف أسرار الأقباط السبعة – فى تصورنا الكليل – فلابد أن توصد أبواب الملكوت أمام الجميع ما عدا الأقباط الأرثوذكس بمصر؟؟؟
فهل يحاكم اللـه بجلاله وعلوه واتساع إرادته ورحمته للبشر المؤمنين به جميعاً بعقلية الأقباط الأرثوذكس واعتقاداتهم الفِجَّة؟
لا يظنن أحد أننى أنعى على الأرثوذكس ضعفاتهم هذه لأننى بعيد عنهم..
أقول ذلك وأنا أرثوذكسى غيور على كنيسته المقدسة من الضعف والشطط والخذلان!!!
وهل لأجل الاختلاف فى العبادة المعبر عنها "بالأسرار المقدسة" يُقْصِى اللـه عن نعمته كل من يتعبد إليه على نحو مختلف؟ حاشا.. فاللـه الذى يغضب للظلم لن يتحول مطلقاً إلى ظالم.
لأنه لو لم يَقْبَل فى رحمته - من جميع الذين دعاهم وقبلوه على مر العصور وحتى نهاية العالم - سوى الأقباط الأرثوذكس.. لأنهم يمارسون وحدهم الأسرار السبعة على نحوها لديهم.. فإن تجسده لأجل الجميع يصير أكذوبة.. وحاشا للـه أن يصطنع كذباً.
الثابت وحده هو معيار القبول أمام الأعتاب السماوية..
بينما المتحول التعبدى يتخذ لذاته ما شاء من صور وممارسات وفقاً لثقافة كل شعب وفهمه للتعبدات.
فالاختلافات التعبدية لا يمكن أن تكون حائط صد للمؤمنين عن بلوغهم مراتب السماء.. واللـه سيغربل هذه الاختلافات وفق ضمائر من يمارسونها.
اللـه – جَلَّ جلاله – الذى قال: "أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً"(هو 6: 6) يعرف جيداً كيف يرحم المختلفين.
الثابت فى الإيمان هو مناط الدفاع فقط لأنه الفارق بين أن تكون مسيحياً أو لا تكون..
وهذا هو الذى دافع عنه أثناسيوس أيها المتعنترون..
أما المتحول من العبادات فليس مناطاً للدفاع ولا يحزنون..
لأن ديانة الحب المؤسسة على الثوابت الكبرى لن تتصاغر لتحاسب على عبادات مفترقة يبلغ الجميع من خلالها.. كل بطريقته.. عتبات السماء.
الإيمان مطلق والعبادات نسبية.. والجوهر فى الوحدة هو المطلق.. ولكل شأنه فيما يرتاح إليه من العبادات..
كل كنيسة لها أن تختار كيف تتعبد وكيف تتقرب إلى اللـه وكيف تخلص القلب له..
وهذه التعبدات هى مزيج من الاعتقاد والثقافة والهوية القومية والفولكلور.. وتختلف بالضرورة باختلاف الشعوب والأجناس والأمكنة.
أما الجوهر الإيمانى فهو الجذع الأصلى الذى يتوحد حوله الجميع..
فهل نعترف بالحق فى الاختلاف فيما هو نسبى.. ونُبْقِى على المطلق الإيمانى الذى يتحد فيه وبه الجميع؟
فى هذا الإطار.. وبهذا الفهم.. فإن سؤالاً غبياً من قبيل: "هل نقبل معمودية الكاثوليك أم نرفضها؟" لن يعود أحدٌ أبداً ليثيره ثانيةً!!
لأن ديانة الحب ترفض هذا السؤال من أساسه.
ألم يحن الوقت بعد لتجلس الكنائس جميعها معاً.. الكنائس الثلاث الكبرى.. الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية لتقر بوحدتها الإيمانية وتتقبل اختلافاتها الثقافية كأمر واقع لن يمكن تغييره؟
ألم يتضح بما فيه الكفاية أن كل كنيسة تتمسك بما درجت عليه فى تعبداتها الممتزجة بثقافتها الخاصة.. ولن تحيد عنه.. بما يشير إلى ضرورة الاعتراف المتبادل بالخصوصية الثقافية.. حتى فى تجسد العبادات المختلفة كممارسات روحية تتخذ أشكالاً مختلفة لكنها نبعت أصلاً من الثابت الإيمانى الواحد؟
أينقلب دين الحب إلى دين البغضاء؟
ودين السلام إلى دين التقاتل؟
أينقلب دين الوحدة الإنسانية الشاملة إلى دين الافتراق لمجرد أن لكل كنيسة أسلوبها الخاص للعبادة؟
فأين المخرج إذن؟
يكمن المخرج أولاً فى الفصل غير المختلط أو الملتبس بين الثابت الإيمانى والمتحول التعبدى.
هذه الخلافات التعبدية كلها إجرائية أو عبادية.. لا تصيب بأى حال الثابت الإيمانى الموحد بين الجميع..
فالمتغير التعبدى فى الممارسات الدينية كافة يمكن الاعتراف المتبادل بحق كل كنيسة فى التمسك به وممارسته كيفما تشاء.. لكنه على أى حال لا يمس من قريب أو بعيد الثابت الإيمانى المتحد بين الجميع.
فليقبل الجميع الاتحاد فيما بينهم تأسيساً على الإيمان الواحد..
وليكن لكل كنيسة عوائدها التى صارت تشكل هويتها.. وطقوسها التى تطبع عبادتها.. وممارساتها الروحية التى اعتادت عليها..
وليكن الجميع تحت هذا الإيمان الثابت كنيسة واحدة جامعة رسولية لها جذع واحد ثابت وفروع ثلاثة نمت عليها متغيراتها بحسب الشخصية الذاتية لكل فرع.. ووفقاً لهيكله التنظيمى وطقوسه المعتادة ونموذج عباداته الملتصق بثقافته المهيمنة وطرائق عيشه..
فلن يتنازل بابا عن سلطانه الروحى فى كنيسته إلى بابا آخر أو رئيس كنيسة أخرى..
ولن يسلم أساقفة إرثهم التاريخى وواقعهم الحاضر فى كنيستهم إلى أساقفة آخرين..
ولن يدخل شعب ينتمى إلى كنيسة معينة أفواجاً فى كنيسة أخرى.. أبداً بل سيبقى الجميع فى نسق تعبداتهم الخاصة رغم الإيمان الواحد والمتحد..
هذا هو الواقع الحى الذى يجب أن يسود الاعتراف به التعامل مع قضية الوحدة.
ولتكن الوحدة هى وحدة الواحدية الإيمانية الثابتة والتعددية التنوعية المتعبدة..
وليؤكد الجميع فى الكنائس كلها هذه الوحدة بتعظيم رموزها الحية فى كل مجال:
فلتتوحد الاحتفالات الدينية التعبدية بقدر المستطاع ليكون العيد للجميع عيداً واحداً فى كل دورة..
وليتوحد الجميع فى قبولهم الانتقال من كنيسة لأخرى بسهولة ويسر كلٌ بحسب إرادته الحرة.. وكلٌ مسئول عن نفسه بالتأكيد أمام خياراته..
وليتوحد الجميع فى قبول الزواج من أفراد ينتمون للكنائس المختلفة دون تأثيم ودون إنكار ودون تراجع..
وليتوحد الجميع فى قبول اختلافات التعبدات المتحولة طالما الجذع الثابت واحداً باتحاد الجميع.
لِتَسُدْ تجليات الوحدة
ولتنحسر تشددات الخصام
فليبق السلطان إذن فى حوزة كل كنيسة، ولكن تحت وحدة تشمل المسيحيين بمفهوم "الواحدة الجامعة الرسولية".. وترتبط العبادة فيها بالتنوع الروحى والثقافى حتماً..
فليكن لكل كنيسة نمط عبادتها وثقافتها.. لكن لتكن الوحدة جامعة للمصلين بين الكنائس جميعاً.. لأنه بمقتضى هذه الوحدة عينها يصير للشعب الحق فى الصلاة فى أى كنيسة دون تأثيم..
وبمقتضى هذه الوحدة عينها يكون الانتقال بين الكنائس ميسوراً للجميع..
وتحت لواء هذه الوحدة عينها تنهار الخلافات العقيمة ليقترب الكل فى واحد.
وفى النهاية سيبقى بكل كنيسة من تسمو روحه بالعبادة فيها وفقاً لثقافته واختياره.. دون خشية مطلقاً من فَرِيَّة تحكمت كثيراً.. وخوف استحكم طويلاً.. أن إحدى الكنائس قد تختطف المصلين بالكنائس الأخرى..
هذا التخوف الساذج يجب أن تمحوه حرية العبادة التى فيها يرى كل مسيحى أنها تسمو بروحه.