الأقباط والدولة الأيوبية
فاروق عطية
٤٧:
٠٩
ص +02:00 EET
الخميس ٢٨ فبراير ٢٠١٩
كتب: فاروق عطية
كانت احوال الاقباط في ايام الدولة الايوبية رغم ما تخللها من صعوبات أفضل من غيرها، قاموا في هذه الفترة بخدمة الدولة بكل امانة أدّت إلى ان الحكام والامراء إئتمنوهم على خزائنهم واموالهم فحافظوا عليها، وتاكد للكل استحالة الاستغناء عنهم او عدم امكان تسيير الاعمال بدونهم.
ومع ذلك فقد وقع الأقباط خلال الحكم الأيوبي بين مطرقة الغزوات الصليبية وسندال الشكوك الإسلامية. كانت الحملات الصليبة على الشرق كارثة كبرى حلت على الجميع وإن كانت على المسيحيين اكثر من المسلمين، فالصلبيين القادمين نظروا لمسيحي الشرق بأنهم هراطقة باعتبار انهم يؤمنون بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح له المجد بينما الصليبيين من اتباع الطبيعتين، ومن ناحية اخرى نظر المسلمين لهم بانهم متواطئون مع الصليبيين ضدهم، فزادوا عليهم
بالضرائب والمكوس ولم يتم مساواتهم بجيرانهم المسلمين. ورأى أقباط مصر اليعاقبة في هزيمة الفرنج عقاباً جديداً أنزله الله على أنصار كنيسة روما.
رصد جاك تاجر في كتابه (اقباط ومسلمون منذ الفتح العربي حتى عام 1922) قول أحد المؤرخين الاقباط وهو يشكو من معاملة الصليبيين للأقباط اليعاقبة قائلا "لم يكن حزن اليعاقبة بأقل من المسلمين. ويتساءل بأي حق يمنع الاقباط من الحج الى القدس او الاقتراب من الأماكن المقدسة؟ ان الصليبيين يكرهوننا كما لو كنا ضللنا عن الايمان القويم".
حكم صلاح الدين في بداية ظهوره كمدبر لأمور عمه أسد الدين شيركوه وزير الخليفة الفاطمي وكان في نفس الوقت ممثلا للملك نور الدين محمود بن زنكي حاكم الشام الذي أرسل شيركوه على رأس قواته لإنقاذ مصر من غزو الفرنج بطلب من الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله نفسه، وظل كذلك لمدة شهرين، وعندما توفي أسد الدين شيركوه أسند الخليفة الفاطمي الوزارة لصلاح الدين 1161م. كان صلاح الدين مسلما سنيا متدينا، إلا أنه ضايق الأقباط كثيراَ، فأمر بطردهم من العمل في دواوين الحكومة وأمرهم بأن يعلقوا أجراسًا في أعناقهم ويتزيون بزي خاص بهم، ومنعهم من ركوب الخيل، كما أمر بنزع الصلبان الخشب من فوق قباب الكنائس.
وكان من عادة المسيحيين أن يزفوا الصليب في عيد أحد الشعانين في الشوارع في كل بلدة وكل مدينة فمنعهم من هذا، وأمر بأن تكون أصواتهم منخفضة في صلواتهم في الكنائس، وهذا أعطي الضوء الأخضر لبعضً المسلمين المتعصبين إلى معاملة المسيحيين معاملة سيئة والاعتداءعلى الكنائس. ولذلك تنازل الكثيرون عن اراضيهم لأصحاب النفوذ في الريف مقابل حمايتهم في حين ان البعض الآخر اعتنقوا الاسلام.
ولما تولى صلاح الدين السلطنة سنة 1171م، وفي أثناء انشغاله بالحروب الصليبية (حروب الفرنجة) في سوريا أناب عنه وزيره بهاء الدين أحد خصيانه السود، فرأى هذا الخصي أن يرمم أسوار المدينة فساق إليها المصريين مسلمين ومسيحيين معا ليقوموا بهذا العمل، فنقم عليه الجميع، وصار الأولاد يمثلونه في الشوارع ويلقبونه باسم قراقوش، ولا يزال هذا الاسم يستعمل للظالم حتى لآن.
أراد ملك النوبة أن ينتهز الفرصة ويستولى على مصر، فخرج من بلاده بجيش كبير، ولما وصل أسوان نهبها وأسر كثيرًا من سكانها المسلمين، فسير صلاح الدين إليه جيشًا بقيادة أخيه شمس الدولة الذي حاصر قلعة دير أبريم ثلاثة أيام وفتحها عنوه وخلص الأسرى المسلمين ونهب المدينة وقتل وأسر الكثير من سكانها المسيحيين، دمر دير القديس سمعان الحصين قرب اسوان ودير اخر عند ابريم، وأسر أسقفًها وطالبه بمال كثير ولما تحقق من عدم وجود أموال لديه لم يرد إخلاء سبيله وباعه في سوق النخاسة وقبض ثمنه.
تعمد هذا الوزير بهاء الدين قراقوش مضايقة الأقباط، وقام برفت كل الموظفين اللأقباط من دوائر الحكومة إلا من أسلم، ثم عاد فأرجعهم إلى أعمالهم عندما اضظرب دولاب العمل في الدواوين، ولما تحقق السلطان نفسه من أمانتهم اتخذ له منهم كاتبا خصوصيًا من عائلة قديمة شريفة تعرف بعائلة شرافي، كان أبوه من مشاهير رجال الحكومة أيام الخليفة العاضد الفاطمي، وكان يسمى بأبي المعالي، اتخذه صلاح الدين كاتبا له وأمّنه على كل أسراره، ومنحة لقب الشرف والرئاسة وسماه بالشيخ الرئيس صفى الدولة بن أبي المعالي، كان محبوبا لديه وظل في خدمته إلى أن مات.
وعندما ظهر رجل في مدينة قفط العامرة بالسكان المسيحيين وادّعي أنه إبن العاضد أخر سلاطين الفاطميين، ولبى دعوته الكثير من من سكان قفط وجاهروا بمعاداة حكومة صلاح الدين، جرد لهم صلاح الدين جيشا بقيادة أخيه شمس الدولة، الذي هاجم المدينة وخرّبها ونهبها وقبض علي ثلاثة آلاف رجل من سكانها وعلقهم من عمائمهم علي الأشجار التي كانت تحيط بالمدينة.
عندما هاجر الأرمن من مصر وسافر بطريركهم وأقام بمدينة القدس، وتركوا كنيسة لهم بالفسطاط يحيط بها بساتين واسعة وجميلة، أنعم صلاح الدين بها على فقيه أصله من دمشق يسمى بهاء الدين الدمشقي، فطلب الرئيس صفى الدولة من السلطان أن يهب الكنيسة للأقباط، فأجاب السلطان طلبه وأعطاه تصريحا بذلك، ولكن حدث أن إثنين من مشاهير الأقباط هما أبو سعيد بن أبي الفضل بن فهد النحال، وأبو اليمن بن الفرج من عائبة زنبور حضرا للكنيسة ليحتفلا بعيد الشعانين وكان مع خدامهما إناء مليئ بزيت الزيتون، وعندما فقد هذا الإناء اتهم الخُدام حُرّاس الكنيسة المسلمين بسرقته، وحدثت منازعة ومشاجرة بين الخُدام والحُراس أدت إلي ضرب الحُراس وإهانتهم، فشكي الحُراس للفقيه الدمشقي ما أصابهم من الخُدام المسيحيين، فذهب الدمشقي للسلطان وأخبره بما جرى، فعظم ذلك علي السلطان وطلب من الرئيس صفي الدولة التوقيع الذي منحه له بتسليم الكنيسة للأقباط، وطالبه بإخلاء الكنيسة منهم وغلق أبوابها، ولكن بعد فترة سُلمت لهم ثانيا بناء على التماس صفي الدولة.
بانتصارات صلاح الدين على الصليبيين وتعاون الأقباط معه في صنع هذا النصر، منهم عيسى الغواصي الذي كان يغوص بالقرب من سفن الصليبيين ويتعرف على أخبارهم ويبلغها إليه مما كان سببا مهما في النصر عليهم في موقعة حطين وعودة مدينة القدس في يد صلاح الدين صلحا عام 1187م. تغيرت نفسية الأيويين وأصبحوا أكثر تسامحًا مع الأقباط ومنحهم ديرا ملاصقا للقبر المقدس بالقدس هو المعروف باسم دير السلطان مكافأة لمواقفهم النبيلة معه ضد الصليبيين، وهذا الدير هو الدير الوحيد الذي لا يحمل اسم أحد القديسين كما هو معروف عن الأديرة القبطية (الآن تحت سيطرة الرهبان الأحباش)، كما أعاد صلاح الدين الكثير من الأقباط إلى وظائفهم العليا في الدولة، كما استرد أقباط آخرون أموالهم وممتلكاتهم التي كانوا قد فقدوها بطريقة أو بأخرى. وهناك موقف آخر لصلاح الدين مع نصارى القدس بعد أن فتحها وكان بها أسرى من الفرنجة، كان عليهم إن أرادوا فَكّ هذا الأَسْر أن يدفعوا الجزية الحربية، أما النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الفرنجة فقد طلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من الإقامة في مساكنهم على أن يدفعوا الجزية فأجابهم إلى طلبهم.
وعندما مات صلاح الدين وتولي إبنه الملك العزيز كان مخالفا لأبيه في تدبيره وسياسته فأعاد المكوس وزاد عليها إباحة شرب الخمر الحشيش وفرض عليها الضرائب، ومنع عادة المصريين النزهة في النيل والخلجان أيام الفيضان وشدد في إبطالها، فتضايق الناس وجاهروا بمخالفة أمره. كما توقفت زيادة النيل فارتفعت الأسعار وظل الحال كذلك إلى أن أنقذ الله المصريين بموت العزيز.
ولما مات الملك العزيز تولى بعده الملك العادل أخو صلاح الدين، فانصلحت الأحوال رغم انشغاله بحروب الصليبيين الذين أعادوا الهجوم علي مصر ووصلوا إلى دمياط وحاولوا فتحها. كانت كاتدرائية مار مرقص بالإسكندرية واسعة وعظيمة البناء كحصن منيع علي البحر، فخاف الملك العادل من استيلاء الصليبيين عليها والتحصن بها ويتعذر إخراجهم منها فأمر بهدمها.
عموما كانت فترة الدولة الايوبية فترة عصيبة مر بها الأقباط، وعندما هدأت الامور دبت الروح فيهم من جديد، وقاموا بدورهم الوطني خير قيام في مختلف المجالات، فبعد ان زالت الغمة الفرنجية اعيدت للأقباط مناصبهم وثرواتهم وشاركوا في الدفاع عن تراب الوطن ضد المعتدي في صف واحد مع اخوانهم المسلمين.
الكلمات المتعلقة