الاثنين ٢٧ اغسطس ٢٠١٢ -
٤٨:
٠٣ م +02:00 EET
بقلم- منير بشاي
إلصاق تهمة العنف بمسيحيي مصر كذبة أطلقها النظام السابق ورددها وصدقها، ثم أصبحت من ثوابت السياسة المصرية، ولا يؤثر في هذا قيام ثورة. قد تغير أشياء كثيرة فى مصر، إلا هذه الظاهرة تظل ثابتة لا تتغير. فأيام حكم مبارك كنا نسمعه يردد المقولة الشهيرة "سنضرب بيد من حديد على مرتكبي العنف من الطرفين (يقصد المسيحي والإسلامي)". وكان هذا القول يحيرني؛ لأني لم أسمع في حياتي عن حادثة عنف واحدة قام بها الطرف المسيحي. ويبدو لي أن التعبير كان طريقة النظام في موازنة الأمور. فلئلا يُلام من الإسلاميين إذا وصفهم وحدهم بالعنف، كان يوازن الأمور بإضافة تعبير "من الطرفين". ومن المؤكد أيضًا أنها كانت وسيلة النظام لإسكات شكوى الأقباط وقمع غضبهم باتهامهم أنهم طرف في العنف مثلما هم ضحاياه، وبالتالي فالأفضل لهم أن يتحملوا ويسكتوا.
مضى نظام مبارك، وجاء بعده نظام يتشدق بأن "الحرية والعدالة" هي اسمه وسمته. ولكن المُلاحَظ أن الاعتداءات على الأقباط تضاعفت، ومع ذلك لم نر العدالة تأخذ مجراها.. عشرات الاعتداءات من حرق الكنائس وتدمير البيوت والمتاجر وتهجير السكان من منازلهم بعد نهب ممتلكاتهم. وعوضًا عن القبض على الجناة وعقابهم، رأينا اللوم يُوجَّه للضحايا فيقبضوا عليهم، وكأنهم هم من اعتدوا على أنفسهم، ويتم التحقيق معهم، وأحيانًا يتعرضون للتعذيب للاعتراف بجرائم لم يرتكبوها، بينما الجناة الفعليون يظلون أحرارًا طلقاء، ربما ليخططوا لاعتداء جديد.
أحدث هذه الاتهامات التي أُلصقت بالأقباط هو إدعاء الشيخ "خالد عبد الله" على قناة "الناس" الإسلامية أن الأقباط ينوون حرق مقار الإخوان بنزولهم يوم 24 أغسطس للإضراب. ويضيف الشيخ أن "النصارى" مسلحون للقيام بهذا الغرض. وإدعاء التسليح يؤيد مزاعم الدكتور "محمد سليم العوا" في حواره مع قناة "الجزيرة"، حيث قال إن الكنائس والأديرة تحتوى على مخازن للسلاح الذي سيستخدموه ضد المسلمين، ثم عاد واعتذر عن هذا الكلام. وحل يوم 24 ومر ولم نر شيئًا من العنف القبطى المزعوم، بل كان العنف من شباب الإخوان الذين استخدموا السلاح الأبيض والخرطوش ضد المتظاهرين في ميدان التحرير، وأطلقوا بلطجيتهم على المتظاهرين في "الإسكندرية"، فأصابوا 22. بل ولم يكن الأقباط سوى جزء من المتظاهرين الذين كانوا يمثلون مصر كلها، والتي يبدو أنها الشرارة الأولى نحو ثورة شعبية ضد أخونة مصر.
وإن نسينا لن ننسى ما حدث يوم مذبحة ماسبيرو. وما تزال كلمات المذيعة "رشا مجدي" من التليفزيون الرسمي ترن في أذاننا، وهي تصرخ موجهة لومها للأقباط: "اتقوا الله في مصر! إيه اللي بيحصل لمصر؟ لمصلحة من؟ هذا الجيش الذي يضرب هو الذى حمى الثورة، ورفض أن يضرب رصاصة واحدة على أبناء وطنه، واليوم يضرب من أبناء وطنه." والمذيعة شرحت بعد ذلك أنها كانت تقرأ خبرًا أُعطي لها، وبذلك قد تكون هي والأقباط ضحية لمؤامرة دبرها آخرون، ومع ذلك لم يقدم أحد للتحقيق والعقاب، رغم أن ما كان يُذاع هو عكس الحقيقة تمامًا، فالقتلى والجرحى لم يكونوا من الجنود بل من الأقباط، وقد ماتوا تحت عجلات عربات الجيش المصفحة وبواسطة قوات الجيش. واستكمالًا للمؤامرة، تقبض النيابة على الأقباط وتقدمهم للمحاكمة، ولا أحد يعرف حتى الآن من هو (اللهو الخفى) المسئول عن المذبحة.
وما دمنا بصدد الاتهامات التي توصم الأقباط بالعنف، فقد استمعت مؤخرًا إلى فيديو لمداخلة بقناة "الناس" الإسلامية قام بها رجل اسمه "محمد عثمان"، وكان يتكلم من خارج مصر، والموضوع هو تطرف الأقباط! وكان يدّعي أن هناك كتيبة اسمها "الكتيبة الطيبية"، وأن لها جريدة تهاجم الإسلام. وأنا شخصيًا أعرف هذه الجريدة وأكتب فيها من وقت لآخر، وهي لا تتعرض للدين الإسلامي من قريب أو بعيد، ولكنها تدافع عن الحقوق المدنية للأقباط. أما الكلام عن وجود كتيبة قبطية (تشبها بالمليشيات الإسلامية) فهذا إدعاء مضحك ينم عن الجهل.
"الكتيبة الطيبية" التي سُميت بها الجريدة المذكورة لا وجود لها في عالم اليوم، وهي تعود للوراء إلى زمن الإمبراطور الروماني دقلديانوس (284- 305 م)، أي قبل ظهور الإسلام بحوالي أربعة قرون. وكانت الكتيبة قد شكلت من الأقباط بأمر الرومان، وخرجت من مدينة طيبة (الأقصر حاليًا)، وكان تعدادها 6600 جندي، ويقودها قبطي اسمه "موريس". سافرت الكتيبة إلى أوروبا، وانضمت إلى بقية الجيش الروماني. وكان المتبع أن الجيش يقدم البخور للإمبراطور قبل البدء في المعارك، ولكن الكتيبة الطيبية رفضت هذا التقليد على أنها تبخير للأوثان، وهذا الرفض كلفها ثمنًا باهظًا. في البداية أمروا الكتيبة أن تنتظم في طابور، وتم العد من واحد إلى تسعة، والعاشر أخذوه وجلدوه ليعدل عن موقفه، وعندما رفض أعدموه. استمرت هذه العملية، ولكن تبين أنها لن تغير من موقف الكتيبة. وفي النهاية صدر الأمر باعدام الكتيبة كلها بما فيها قائدها "موريس". وفي أوروبا ما تزال توجد كنائس باسم القديس "موريس".
وهكذا يتضح لنا أن هذه الكتيبة التي يتخذونها دليلًا على عنف الأقباط، لا وجود لها حاليًا في الوقت الحاضر، إذ أن عمرها 18 قرنًا. وكانت عبارة عن مجموعة من المجندين الأقباط في الجيش الروماني، وما نعرفه عنهم ليس قتل الناس، بل العكس، فهم جميعًا قد قُتلوا لرفضهم التبخير للأصنام. فهي كتيبة لم تستخدم العنف، بل كانت هي نفسها ضحية العنف..
مجمل القول أن الأقباط قد يكونوا أكفاء في أشياء كثيرة، ولكن ليس في مجال العنف. ومع كل ما يُوجَّه لهم من عنف لم نسمع مرة عن عنف مقابل قام به الأقباط، ولو لمجرد تبرير حوزتهم على الأسلحة المزعومة. هل هذا لأنهم تشبعوا بتعاليم السيد المسيح التي تحثهم على عدم رد الإساءة؟ بالتأكيد. ولكن مع ذلك فالقبطى، مثل كل مسيحي، له حربه الروحية، وله أيضًا سلاحه "احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير، وبعد أن تتمموا كل شىء أن تثبتوا. فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق. ولابسين درع البر، وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام. حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة. وخذوا خوذة الخلاص، وسيف الروح الذى هو كلمة الله." (أفسس 6: 13- 17).
الغريب أن هذا السلاح الذى قد ثبت فاعليته ضد الشيطان، هو مع ذلك لا يؤثر في بعض الناس. فمن البشر من هم أكثر شرًا وعنفًا من الشيطان ذاته.