عندما قال الأميركان أنهم يدركون جيدا طبيعة تفكير تيارات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، لم أشك للحظة فيما يقولون. فالعلاقة بينهما ـ الأميركان وتيارات الإسلام السياسي ـ علاقة قديمة ترسخت عبر سنوات طوال من الاتصال والحوار والنقاش سواء قبل ثورة 1952 وبعدها في حكم الرؤساء محمد نجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك. وكانت السفارة الأميركية بالقاهرة تمثل مائدة للقاء برموز وقادة هذه التيارات، ولم تخلُ حفلة من حفلاتها من توجيه الدعوة لهم وقد كانت جميع الدعوات تلبى حتى في أوقات الأزمات بين القاهرة وأميركا.
والسؤال: إذا كانت أميركا تعرف هذه التيارات جيدا وتتابع ما خرج من عباءتها من جهاديين يقاتلون ضدها في العديد من البلدان، وأن الرجل الأول الآن في تنظيم القاعدة د.أيمن الظواهري تتلمذ على يد بعض من شيوخ هذه التيارات، وتدرك حتما حجم علاقاتها داخليا وخارجيا، وحجم كراهيتها لها، وإن أبدت غير ذلك، وأنها قد تتحول بين يوم وليلة إلى شوكة في حلقها هنا أو هناك في عقر دارها، فلماذا قررت دعمها في الوصول للسلطة في كل من مصر وليبيا وتونس وتدعمها للوصول للسلطة في سوريا؟.
الإجابة ترمي في هدفين. الأول كان سهلا الإطاحة بحكم العسكر وتصفية جيل حربي 1967 و1973 وإنهاء عقيدة الجيش الخاصة بأن العدو هو إسرائيل، وتحجيم دور المؤسسة العسكرية وتقزيمه. وهذا ما نجح فيه الإخوان المسلمون في مصر على مدار ما يزيد عن عام ونصف العام. بدأوا بتشويه المؤسسة العسكرية ورموزها وقياداتها وبث روح الكراهية في الشارع ضدها وأيضا ضد مؤسستي المخابرات العامة والحربية ومخابرات أمن الدولة، ليطيحوا بالجميع على مراحل آخرها المجلس العسكري وفي مقدمته وزير الدفاع ورئيس الأركان.
الهدف الثاني يتشكل فيما يجري الآن من أحداث في مصر وليبيا وتونس والجزائر وغيرها، اختبار، أو بالونة اختبار، تتمثل في السماح بإنتاج فيلم غير ذي قيمة يتم صنعه عمدا مع سبق الإصرار والترصد، لا يستبعد معه تسخير وتشجيع استخباراتي، أو أن يكون فكرة استخباراتية بالأساس، يسيء إلى رسول الإسلام العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليظهر الوجه الآخر لهذه التيارات، هذا الوجه الذي كشر عن أنيابه للسيطرة على مقدرات ومقاليد الأمور في البلدان التي وصلوا فيها لسدة الحكم، دفع بأنصاره لاقتحام سفاراتها وقتل موظفيها.
وهكذا تتكشف الأمور، دعمت وساندت أميركا ظهور تيارات الإسلام السياسي لتتخلص من العسكر، وتعري هذه التيارات التي تتلون كالحرباء، لتبدو ظاهرة للعيان: أنيابا مهيأة للقتل والذبح والسحل وأصواتا منادية بالفتنة وتعدادا وقدرة تنظيمية وخريطة لحجم تواجدها في المدن والقرى والحواري وغيرها.
أميركا التي ـ كما تقول ـ تعرف جيدا طبيعة هذه التيارات ـ هل قامت بما قامت به من دعم ومساندة لكي تكرر مأساتها في أفغانستان، حيث دعمت وساندت بالمال والعتاد وأجهزة الاتصالات والاستخبارات كافة الجماعات والتنظيمات لطرد الروس، وحين آن أوان سيطرتها عليهم تحولوا إلى عدو، بل العدو رقم واحد في العالم، وليميد ذراع هذا التنظيمات والجماعات إلى خارج أفغانستان، بل يطالها في عقر دارها وتكون أحداث الحادي من سبتمبر 2001؟
الإجابة أيضا بالطبع لا؟ إذن لماذا تركت قنصليتها تقتحم في مصر وليبيا وسفيرها في ليبيا وثلاثة من رجالها يقتلون. برأيي أنها أرادت ذلك، أرادت أن تعري هذه التيارات وتبرئ نفسها من مسئولية وصولها للحكم، خاصة بعد أن رفعت النخب الليبرالية والعلمانية واليسارية أصابع الاتهام ضدها، وتتخلى عن الدعم المالي لها ولحلفائها عربيا وغربيا لهذه التيارات، وتحمي دعمها المستقبلي لتوجه الشارع العربي الرافض لحكم أحزابها، لتستطيع حين يخرج هذا الشارع مطالبا بسقوط حكمها ورحيلها ومحاكمة رموزها وقياداتها أن تنقض عليها وتطيح بها دون أن تترك لهم أثرا إلا واجهة حزبية ضعيفة مكروهة إن كانت أنشأت أحزابا.
يأتي ذلك في إطار سيناريو تلوح علاماته بالأفق منذ زمن يتجلى في مصر بشكل خاص، وتتجنب خطواته تكرار سيناريو الجزائر، السيناريو يستهدف الإطاحة تماما بالقوتين المنظمتين الأساسيتين الأولى العسكر والثانية تيارات الإسلام السياسي، وقد تم الإطاحة بالأول عن طريق الثاني، وهذا الثاني لا تصلح معه القوة أو التدخل المباشر وإلا لسمح للأول الإطاحة به، ولكن المطلوب في الإطاحة به: فضحه وتعرية فقر حيلته ورؤيته وقبح تصرفه وسلوكه وتردي أخلاقه وجهله وكذبه ودمويته أمام الشعب، وهذا ما يتم الآن على قدم وساق سواء في مصر أو تونس أو ليبيا.
إذن وفقا لمعرفة أميركا العميقة ـ على ما يبدو ـ بطبيعة فكر تيارات الإسلام السياسي سوف تتصاعد الأمور، فما عليها إلا أن تواصل وحلفائها إلقاء بعض الحجارة الغليظة في ماء تلك التيارات لتثير حفيظتها وتدفعها للهمجية الدموية مثل تلك التي حدثت في ليبيا، ولسوف تستجيب هذه التيارات قياداتها وأنصارها المغموسين بالجهل والأمية والاندفاع الأهوج للمزيد، وتنجر مستسلمة نحو الوجه الهمجي القبيح لها، وهذا ما تعمد إليه أميركا العارفة جيدا ـ أيضا ـ بتردى الأوضاع الاقتصادية وتزايد الضغوط الشعبية احتجاجا وتظاهرا ومواجهة، ليأتي اليوم الذي يتم فيه تتويج ثورة شعبية تقضي نهائيا على أي طموح مستقبلي لهذه التيارات في الوصول للحكم مرة أخرى.