بقلم: كمال زاخر موسى
لعل أهم السمات المرتبطة بمصر ـ الناس والتاريخ والثقافة ـ هى سمة التعددية والإعتدال، وعندما كانت تنتبه لهما وتفعلهما حياتياً كانت تخطو خطوات واسعة باتجاه الإستقرار والتقدم والتنمية، ولعل الحراك الشعبى الذى انتج ثورة 19 يعطينا نموذجاً عملياً لهذا، فعلى الرغم من ان سعد زغلول كان رمزها وزعيمها إلا أن اصحابها الحقيقيين كانوا جموع الشعب المصرى، الفلاح والعامل والبرجوازى والنخبة والمسجد والكنيسة، وعندما توقف الزعيم الهندى المهاتما غاندى أمامها قال بأن معجزة هذه الثورة قدرتها على صنع سبيكة قوية من الشعب المصرى على تعدد توجهاته حتى التباين، بينما كانت هى نتاج المعجزة المصرية، التى يراها الاستاذ الدكتور المفكر ميلاد حنا أنها لوحة من الفسيفساء دقيقة الصنع والمكونة من قطع صغيرة لا يمكن رؤيتها أو فهمها منفصلة، بل يرى كثيرون من البحاث الثقاة أن التفاعل المصرى مع الأديان عمق وأبرز صفة الإعتدال فيها وأعطى لها مذاقاً وسطياً خاصاً، حدث هذا مع المسيحية وكانت الرموز المصرية القبطية هى حائط الصد امام البدع والهرطقات، وحدث هذا مع الإسلام وكانت الرموز المصرية الفقهية هى العاصم فى مواجهة التطرف.
ربما كان للجغرافيا الدور والأثر الأكبر هنا بحسب الدوائر التى تنتمى لها مصر بدءاً من انتمائها للنيل شريان الحياة الذى يجرى عبر آلاف السنين وواديه الأخضر الذى طبع المصرى بالصبر والمثابرة وأضفى عليه بعض من طيف النسك والإيمان التلقائى بما وراء الطبيعة وهو يرى يد الخالق والرازق تتعهد بذرته التى يلقيها فى ارضه السمراء ويرقب مراحل نموها لتتحول الى خير وفير، جعل من ارتباطه بالأرض والوطن فعلاً يومياً ترجم معانى الإنتماء بشكل حياتى بعيداً عن التنظير وحسابات الأيديولوجيين.
وتمتد دوائر الإنتماء لتقف على شواطئ المتوسط حتى صارت الأسكندرية عالماً مصغراً تلتقى فيه حضارات العالم وتلقب بالمتروبوليتان المدينة العالمية وتقدم للعالم مدرسة الأسكندرية ومنها تخرج ابداعات الفلاسفة والعلماء فى الفلك والطب والهندسة، وبحكم الموقع تمد جذورها للقارة السمراء بل وتمد سلطانها حتى منابع النيل، وبحكم الجوار تجد نفسها القلب من العالم العربى يتطلع اليها ويحذو حذوها ينكسر بانكساراتها ويتيه زهواً بانتصاراتها.
ولم يكن التاريخ بعيداً عن تلك الانتماءات ولعل آثار اجدادنا المصريون القدماء تقدم للعالم بطاقة التعارف الأولى والعظيمة وتفتخر جامعات العالم العريقة بأنها تضم أكبر وأهم اقسام دراسات المصريات Egyptology، لا فرق بين سوربون باريس وكمبردج لندن ومثيلاتهما فى امريكا وايطاليا والمانيا وربوع اوروبا، ويشهد على ذلك هذا الولع بالحضارة المصرية ومعاهد الأثار المتخصصة والتى يرصد لها المليارات، سعيا لكشف اسرار الفراعنة لحساب التطور العلمى بل والإنسانى.
ولعل هذا يفسر لنا الإختلال المجتمعى الذى يغشانا اليوم وينتج لنا غالبية، أن لم يكن كل، اشكالياتنا الآنية والناتج عن الدعوات الأحادية والإقصائية التى تحاول أن تأسر مصر فى واحدة من تلك الدوائر الإنتمائية، وهى دعوات فى أغلبها توقفت عند مرحلة تاريخية بعينها ولم تستطع أن تستوعب الحراك التاريخى وتكامل حلقاته، وتمادت بأن أوصدت ابواب الحوار والتداول الفكرى، وراح بعضها يدعم موقفه الأحادى بغطاء دينى أو قومى كارثى، فى قراءة مبتسرة ومتعسفة للدين والقومية، يحاولون أن يستنطقوهما بما يريدونه ويحسبونه حقائق وثوابت، ويأتى الظرف التاريخى المحمل بتراجع تنويرى وثقافى والواقع تحت ضغط التراجع الإقتصادى الضاغط على الحاجيات الضرورية للفرد والجماعة، يأتى هذا الظرف التاريخى ليدعم هذه التوجهات الأحادية والإقصائية.
فالبعض يرى أننا أحفاد الفراعنة وحسب بينما يرى فريق ثان أننا عرب وكفى، وكلاهما يرى أن من يقول بغير ذلك ضالع فى مؤامرة تستهدف اضعافنا وتهميشنا، بل ذهب غلاتهم إلى ان المخالفين لهم يقعون بين الملحدين وبين أعداء الدين فى ربط قسرى ومغلوط بين الحقائق التاريخية وبين الدين، أى دين، وتطل علينا مجدداً رباعية الإتهامات سابقة التجهيز والمعلبة بل والمغرضة (التخوين والتكفير والتشكيك والمؤامرة) .
بينما نرى على مدد الشوف على الضفة المقابلة من العالم من استطاعوا أن يحولو التعددية اللغوية الى حد التباين، والخلافات التاريخية المتجذرة حتى الحروب، والصراعات العرقية الدموية والإختلافات الإقتصادية حتى التضاد، والعوائق الجيوجغرافية والطبيعية الشاهقة والعميقة، استطاعوا ان يحولو هذا كله الى تكامل تنامى حتى خلق اتحاداً أوروبياً طرح للعالم كياناً سياسياً واقتصادياً قوياً وثابتاً، تنازل اطرافه طوعاً عن عملتهم المحلية لحساب العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) بل وراية واحدة تحولت فيها دولهم كل واحدة الى نجمة تدعم بقية النجوم.
فى ظنى أننا بحاجة الى قراءة تلك التجربة بعيون مفتوحة وموضوعية، وكفانا ما ارقناه ـ فى سخف ـ من جهد فى الدعوات الاحادية الاقصائية التى اسلمتنا الى ما نحن فيه، وحتى يتحول هذا المطلب الى واقع لابد من خطوات على الأرض تبدأ بتصحيح المفاهيم فى الذهنية الجمعية، فى رهان على الاجيال الجديدة التى اخترقت طائفياً فى اغلبها، ويكفى للتدليل على الخطر المحيق بهم ومن ثم بمصر ـ الوطن والناس والمستقبل ـ يكفى أن نرصد ردود افعالهم تجاه القضايا الخلافية وبخاصة قضية الانتماء والمتراوحة بين اللامبالاة وبين التعصب المنحاز للرؤى الإقصائية، ولنأخذ نموذجنا من تعليقاتهم على شبكة الانترنت والـ facebook حتى تخال انك أمام معارك جهادية عند بعضهم واستدعاء لعصر الشهداء عند بعض أخر، وهنا تكمن الخطورة فى ذهنية ستؤول اليها مقاليد الأمور يوماً .
وأتصور ان عملية التصحيح تبدأ حتماً بمراجعة آليات ومؤسسات وانساق التعليم والإعلام والثقافة والمؤسسات الدينية باعتبارهم المشكلون للذهنية الفردية والعامة كل فى اطار عمله ومجاله، وهو أمر يتجاوز قدرات حزب بعينه أو جماعة بمفردها أو فصيل وطنى دون اخر، وهى دعوة لم تأت من فراغ بل سبقتنا إليها العديد من منظمات وجمعيات المجتمع المدنى بل ونجدها فى ادبيات غالبية الأحزاب، وقد تطرق اليها المؤتمر العام للحزب الوطنى (2008 ـ 2009)، وتقارير المجلس القومى لحقوق الإنسان، وهو كلام جميل ورائع لكنه يحتاج الى تفعيل على ارض الواقع عبر عمل قومى يضم كل الأطياف السياسية والاجتماعية، بغير انتقاء أو مفاضلة أو استبعاد، على ارضية المواطنة كخطوة علمية وعملية على طريق المصالحة الفكرية، وفى استثمار ايجابى لنعمة التعددية المصرية.
..... ويبقى السؤال : من يبادر ويعلق الجرس ؟
Kamal_zakher@yahoo.com