محمد أبو الغار
مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر وهى رائدة الفن والثقافة فى البلاد العربية، وقد تأصلت القيادة فى القرن العشرين بظهور عشرات من عظماء الأدباء الكبار، منهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وقادت مصر السينما فى المنطقة باكتساح شديد منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وأنتجت مصر نحو عشرة آلاف فيلم ناطق بين فيلم روائى طويل وأفلام قصيرة وأفلام تسجيلية، والفيلم المصرى كان هو المصدر الأساسى للسينما والتليفزيون لعشرات السنوات فى كل شاشات الشرق الأوسط، وكان كامل الكيلانى هو رائد كتاب الطفل فى المنطقة العربية. والسرديات الأدبية والنقد كان لهما باع كبير فى التراث المصرى الحديث، ومن كبار كتابها طه حسين ولويس عوض.
المسرح المصرى له تراث قديم، فقد بدأ فى عهد الخديو إسماعيل بمسرح يعقوب صنّوع. وفى القرن العشرين قاد توفيق الحكيم ونعمان عاشور وغيرهما نهضة مسرحية حديثة.
فى العقد الأخير بدأت المنافسة تشتد فى كل فروع الثقافة مع دول الخليج ودول شمال إفريقيا ودول الشرق العربى، حتى فلسطين بالرغم من ظروفها الغاية فى الصعوبة بدأت تنافس. ونظرًا للظروف الاقتصادية التى تمر بها مصر انخفضت نسبة الإنفاق فى الميزانية على التعليم والثقافة فى السنوات الأخيرة بنسبة كبيرة عما حدده النص الدستورى، وكان على القطاع الخاص أن يساهم فى دعم الثقافة.
احتفلت مؤسسة ساويرس الثقافية هذا الأسبوع بالدورة العشرين لجوائز سخية تقدم فى فروع الرواية والقصة القصيرة والمسرح والسيناريو، وجوائز أخرى للشباب تحت عمر ٤٠ عامًا. وهناك جوائز للسرديات الأدبية والنقد وكذلك لأدب الطفل. وتمول المؤسسة ترجمة الرواية الفائزة للشباب ونشرها فى إحدى دور النشر العالمية، حتى يصل الأدب المصرى الحديث للعالم. ومجموعة الجوائز بما فيها الترجمة تُقدر بثلاثة ملايين جنيه.
مؤسسة ساويرس الثقافية بدأت منذ ٢٠ عامًا فى عام ٢٠٠٥، وهذا الأسبوع هو العيد العشرون للجائزة، التى أصبحت سمعتها ممتازة، وهناك ثقة فيها من الجميع بسبب المستوى العالى من لجان التحكيم والعدالة وغياب الواسطة وأى تدخلات خارجية، والاحتفال السنوى هذا العام شمل فرقة المصريين لهانى شنودة الذى عزف بفرقته وأغانيه الجميلة فى حديقة الجامعة الأمريكية بالتحرير، وعزفت أمام مئات من الحضور أوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة المايسترو أحمد الصعيدى، وتم تسليم الجوائز لجميع الفائزين، وكانت ضيفة الشرف الفنانة ليلى علوى، وقدمت الفنانة التونسية العالمية آمال المثلوثى فقرة غنائية.
مما لاشك فيه أن هذا الاحتفال حدث ثقافى هام، وترجع أهميته إلى حجم الحراك الثقافى الذى يحدثه، فقد تقدم للجائزة ٢٨٢ رواية للكبار والشباب. هذا الكم الكبير يبشر بروائيين صاعدين ومستقبل للرواية المصرية، وليس بعيدًا أن يظهر بين المئات الذين يتقدمون نجيب محفوظ جديد. تقدم للقصة القصيرة ١٣٥ مجموعة قصصية وعبر سنوات ربما يظهر يوسف إدريس آخر.
تخيلوا أن هناك ١٤٤ سيناريو تقدمت للجائزة، لو ١٠٪ فقط تم إنتاجها لكانت الحصيلة ١٥ فيلمًا جديدًا تحرك اقتصاد السينما.
فى المسرح، تقدم المسرحيون بعدد ١٤٣ مسرحية. شىء مفرح، وربما يظهر توفيق الحكيم جديد أو نعمان عاشور آخر. وتقدم لجائزة السرديات الأدبية والنقد ٩٥ عملًا، فربما يظهر منهم لويس عوض جديد.
تقدم ٧٢ كتاب للأطفال تحت عمر ١٢ عامًا، وهذا كم ضخم يناسب الاهتمام الحالى بكتب الأطفال.
هذه المؤسسة الثقافية التى تؤدى إلى هذا النشاط الضخم هى سند كبير لوزارة الثقافة، وهى تضع لبنة فى زيادة نوعية الإنتاج المصرى من الفنون والآداب، وهو أمر هام لأن الإبداع لا يمكن أن يتقدم فى وجود رقابة شديدة ومحاذير كثيرة، وهذا يتطلب من الدولة أن تختار رقيبًا متفتحًا يتمتع بفهم معنى الحداثة ويكون متفهمًا للفنون العالمية وأهميتها. فحين أقرأ بعض أعمال يوسف إدريس أو إحسان عبدالقدوس أتوقع أن احتمال مصادرتها من الرقيب لو صدرت اليوم كبير، بينما رقيب الخمسينيات والستينيات لم يتعرض لها، ولم تكن مصر دولة ديمقراطية فى ذلك الوقت، ولكنها كانت متفتحة. وهناك العديد من الأعمال السينمائية الرائعة التى لو تم إنتاجها اليوم للاقت صعوبات كثيرة فى الرقابة، وفى الأغلب لن يتم إنتاجها. هذا أمر ليس له علاقة مباشرة بالديمقراطية والحرية وإنما له علاقة أكبر بالانغلاق الفكرى والخوف الشديد عند الرقباء لربما يتم محاسبتهم على إصدار هذا الكتاب أو ذلك الفيلم. حقًا كان الرقباء عندهم ثقافة عظيمة وإحساس بأهمية الفن وأن تقود مصر المسيرة، ولنتذكر أن نجيب محفوظ العظيم كان مديرًا للرقابة على السينما. وهذا شىء يجب أن تعيره مصر اهتمامًا.
الأمر الآخر، هناك رجال أعمال كثيرون من الكبار لا يساهمون فى الإنتاج الثقافى، وأنا أدعوهم جميعًا لبدء مشروعات ثقافية وفنية، والمجال مفتوح والأفكار كثيرة، سواء على المستوى العام أو تنشيط الثقافة والفن فى الجامعات والمدارس بمشروعات متعددة.
فى أمريكا لا توجد وزارة ثقافة، ولكن الشعب هو وزارة الثقافة، حجم تبرعات الأمريكان للخير عام ٢٠٢٣ بلغ ٥٥٧.١٦ مليار دولار، منها ٢٥.٦ مليار دولار للفن والثقافة بنسبة ٤٪ من إجمالى التبرعات.
الثقافة والفن هو خط الدفاع الأول ضد التطرف، والتعليم هو أساس رفعة أى وطن. فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة مطلوب من رجال الأعمال التبرع لمشروعات التعليم والثقافة والفن، وهذا واجب وطنى، والباب مفتوح على مصراعيه.
شىء هام كان ظاهرة فى حفل توزيع الجوائز، وهو أعداد ضخمة من الشباب فى الحضور وأعداد كبيرة من الفائزين من الشباب، وهذا يبشر بخير أن هناك شبابًا متفتحًا على الأدب والاستمتاع به، وهذا هو الشباب الواعد الذى سوف يخطو بمصر خطوة إلى الأمام، وهو يستحق الاهتمام.
المنافسة الحرة والمفتوحة ترفع المستوى وتبرز المواهب الجديدة، والاحتكار يقتل الفن ويمنع التقدم. مصر فى حاجة شديدة للعشرات من المنتجين والمبدعين يتنافسون لصالح ارتفاع المستوى والوصول إلى تواجد فى العالم. الحرية والمنافسة والتشجيع وعدم الخوف من الجديد ومن الابتكار هو الذى سوف ينهض بالسينما المصرية والمسرح المصرى.
هذه الخطوة لو تحققت لن نحتاج إلى مليارات ليكون لنا القدرة على منافسة الدعم الهائل للفن فى الخليج، وإنما الفن المصرى سوف يكتسح ويسود ولن يحتاج إلى دعم مادى من الدولة بل سوف يكون مصدر دخل لمصر يساعد فى حل مشاكلها الاقتصادية، وسوف يقوم بخلق وظائف جديدة للمصريين.
نجاح الفن والأدب بأيدينا، فليتكاتف القطاع الخاص والفنانون والمؤلفون والموسيقيون بإنتاجهم، ولتترك الدولة لهم الحرية ولا تجهض أفكارهم وإبداعهم، وتتوقف عن الاحتكار. حينئذ سوف تكسب الدولة وينهض الوطن.
قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك
نقلا عن المصري اليوم