كثيرون يعرفون "شغل الثلاث ورقات" والذين لم يشاهدوها لاشك انهم سمعوا بها.. ومن لم يشاهدها ولم يسمع بها نقول له حكايتها.
شاب دائم العصبية والقلق خوفا من أن تمسك به الشرطة فجأة أو علي الأقل تطرده من حيث يقف.. وجهه مغبر أصفر ربما من الادمان.. وعيناه زائغتان أو جاحظتان خوفا من ان يخدعه واحد قبل ان يخدع هو ألف واحد.
انه يقف في الموالد وكنت أراه هو وأمثاله يقفون في باب الحديد "رمسيس حالياً" وفي العتبة التي لم تعد خضراء كما كانت قبل خمسين عاماً وحيث يكثر المارة خاصة القادمين من الأرياف.
يقف وأمامه طاولة صغيرة... وعدته ثلاثة من أوراق اللعب "الكوتشينة" فقط لا غير.
لعبته ان يضع الأوراق الثلاثة علي هذه الطاولة ويطلب منك ان تختار واحدة وتعرضها علي الآخرين الملتفين حول الطاولة.
يمسك الأوراق بين يديه ويعيد تفنيطها وتدويرها مرات عديدة بسرعة فائقة وخفة يد عجيبة ثم يضع الورقات الثلاث جنبا إلي جنب مقلوبة علي الوجه الذي لا يدل عليها.. ويقول له بلهجة استعراضية مدوية: تقدر تقول فين الورقة بتاعتك؟
وانت بالطبع لا تستطيع.. فينتهز لحظة صمتك ويقول بنفس اللهجة الاستعراضية: لكن أنا أقدر ويمد يده ويكشف عن الورقة التي اخترتها.. وتدفع له القرش حسب أصول اللعبة.
وقد يخسر هو مرة متعمدا وذلك بالاتفاق مع أحد أعوانه ليغري المشاهدين بأن يدخلوا اللعبة أي يقعوا في المصيدة.
لعبة الثلاث ورقات أو "نصب" الثلاث ورقات يجري سريعا والفلوس تدخل جيبه بنفس السرعة.
****
كيف يخدع عشرات الواقفين حوله.. لا أحد يعرف! وكل ما يقولونه "خفة يد" وأنا اسميها مهارة فائقة في النصب.
ربما يكون الممارسون لهذه "اللعبة" قد اندثروا لأنها كانت قديما تجري بقروش قليلة.. أما الآن فقد ظهرت ألاعيب جديدة من شغل "الثلاث ورقات" تأتي بالملايين وعيني عينك عبر الفضائيات وخلاف الفضائيات.
شغل "الثلاث ورقات" في ثوبه الرأسمالي الجديد هو دعوة رقيقة لك لتكسب ألف دولار أو خمسة آلاف جنيه بأن تقوم فقط بالاتصال برقم معين.
وأنت بالطبع لا تعرف من هو صاحب هذه الدعوة الكريمة.. لا يفصح عن اسمه أو عنوانه وقد تجد هذه الدعوة موجهة لك بواسطة فتاة فاتنة ترقص وهي تدعوك لأن تدير رقم التليفون أو المحمول.. وكثيرون لا يستطيعون المقاومة ولا يفكرون من تكون هذه الجميلة ومن هو صاحب الشغل أو ماذا سيفعلون به عندما يتصل بالرقم المعروض علي الشاشة!
هل يسألونك عدة أسئلة وإذا حصلت علي درجة عالية يرشحونك للقرعة.. إذا كانت هناك قرعة خاصة وان شروط الفوز غير معروفة!
هل يطلبون منك ان تقول "نكتة" جديدة وإذا أعجبتهم يضعونك علي قائمة أصحاب الحظ!
هل يكتشفون مثلا من خلال الأسئلة التي يوجهونها لك أنك صاحب موهبة فذة فتستحق الألف دولار؟
كثيرون مثلك ومثلي لا يعرفون اللغز!
وتسأل وما هو مكسبهم من هذه اللعبة.. هل هم يرقدون علي كنز يوزعون منه كما يشاءون؟
يقال انهم يجمعون مبالغ هائلة من حصيلة المكالمات التليفونية التي يتقاسمونها كما يقول المرجفون مع شركات الاتصالات أي هم حتة والآخرون حتة.. أي بيزنس بين الطرفين وفي عالم الرأسمالية أشكال عديدة من الصفقات.. أو بنظام المزارعة الذي يتم بين الفلاح ومالك الأرض!
****
هذا النوع من شغل الثلاث ورقات العصري يلعب علي قسوة الفقر وإلحاح الحاجة وقرص الجوع.. اي انه يتاجر بالحرمان الذي يعانيه الملايين وبالتالي لنا ان نتصور كم تكون اللهفة المحمومة للحصول علي خمسة آلاف جنيه؟!
وربما تجد من يدافعون عن هذه اللعبة ويصفونها بأنها مقبولة في ظل الاقتصاد الحر.. إذ ليس هناك قيود أخلاقية محددة في التعامل بالفلوس ولا يهم التلاعب بمشاعر الفقراء واشعال أحلام الحظ السعيد في داخلهم ثم حرق أحاسيسهم عندما تخيب أحلامهم.
ومثل هذا الكسب السهل إذا كان حقيقيا يفسد معني السعي الحلال من أجل الرزق.. ويشجع الناس علي اعتماد الفهلوة طريقا سهلا للحصول علي المال.. ويجعل الناس أكثر قبولا للتعامل بالرشوة لانه لا يصبح هناك فرق كبير بين ان تطلب رقما وتحصل علي مبلغ كبير وبين ان تفتح درج مكتبك لتحصل علي مبلغ أكبر لانه في كل من الحالتين يأتي المال سهلا بلا أي مجهود.
وقيمة العمل انه يفتح للإنسان مصدراً شريفاً لقوت يومه.. فكيف يكون الحال لو فضل كثيرون الطريق السهل للحصول علي المال.. طريق الأونطة والغش والخداع وكل ما يصفونه في خانة "شيلني وأشيلك"!
****
هذه "اللعبة" تجعل الفقراء عبيداً لرقم تليفون يستجدونه وهم منسرقين.. وبالتالي نقتل الكرامة لينام في هدوء جامعو الثراء.
بمثل هذه "اللعبة" تختفي من حياتنا شيئا فشيئا ثوابت جوهرية في شخصية المصري الصالح مثل "يأكل خبزه بعرق جبينه" ومثل "العمل شرف" و"حقي بمقدار جهدي".
ومثل هذه "اللعبة" تغري المرء بأن يتخلي عن حقه في الحصول علي حقه من الذين يستغلونه أو علي الأقل يسكت علي هذا الحق.. وها هو المبرر جاهز.. ما اسهل الحصول علي المال بالتليفون؟
وأيضا تضعف المقاومة ضد من يتلاعبون بالقوت اليومي وينهبون ثروات الوطن.. والذين يسرقون الأعضاء البشرية والذين يستولون سراً أو جهراً علي أراضي الدولة التي هي أرضك وأرضي.. والذين يبيعون أسئلة الامتحانات والذين يبيعون أدوية منتهية الصلاحية والذين يسلبون إرادتك بالكرباج أو الشعارات!
نحن نتحدث كثيرا عن تحديث مصر وتطويرها وان تبقي شامخة.. ولكن مثل هذه "اللعبة" تخنق قيمة الولاء الذي يقوم علي عطاء سخي بلا حدود من جانب المواطن مقابل حضن دافيء يحتوي فيه الوطن كل أبنائه.. لأن هذه "اللعبة" تقول للبسطاء الجوعي والمتعطلين والمقهورين: لا تعتمد علي الوطن بل اعتمد علي رقم التليفون بما يحمله ذلك من معان متعددة مخيفة ومفجعة!
فاذا كانت الفلوس تأتي من الهواء فليكن الانتماء للهواء.. أي للاشيء!
****
ومثل هذه المسابقات اذا جاز تسميتها كذلك تجعل الحياة عند كثيرين مجرد سباق تسول ومجهول ايضا للحصول علي الفلوس.. وهو سباق علي غير مبدأ أو قيم أو واجب أو عمل أو عطاء أو اختيار حر وبالتالي تسقط من حسابات المشاركين فيه ضرورة الترابط الاجتماعي وتصبح عبارة "الناس لبعضهم" مجرد لغو علما بأن هذه العبارة تلخص معني التلاحم المصري علي ضفتي النيل.. ونهبط اجتماعيا إلي حد ان يتحصن كل واحد بأنانيته وحبه لذاته.
وهل نستطيع ان نحشد الناس لمعركة تطوير أو انجاز كبير اذا غلب عليهم التعلق بلعبة حظ مجهول؟
المؤسف ان ظواهر خطيرة تحاول اصطياد المصريين بشباك غامضة الهدف ولا نجد من يتصدي لها بجدية لأن السوق الحرة كما يبدو أو كما يريدونها ساحة لحرية تمزيق الشخصية المصرية القوية المتوازنة المدربة علي المقاومة!
adly.barsoum@hotmail.com
نقلا عن الجمهورية |