CET 00:00:00 - 02/09/2010

مساحة رأي

بقلم: أنطوني ولسن- أستراليا
ثانيا: في أستراليا..6

ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وان اقتضي الأمر العودة الى قطار الحاضر.. سأفعل ذلك لإستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات العمر اللي فات..
دعونا الآن نكمل الحكاية..

بعدما وقعت على الموافقة على بتر ساقها رغما ومضطراً.. عدت إلى المنزل ولم اخبر الأولاد بشيء. هرب النوم مني.. بدأت صورتها تلاحقني بعدما سمعت من احدى الممرضات انها قد تفقد ساقها. ولحسن الحظ انها لم تفهم ما كانت تعنيه الممرضة. لقد حاولت المستحيل ان اتماسك امامها ولا انهار. يبدو انها كانت تحس بان شيئا ما قد يحدث لها. وان العملية التي ستجري لها في الصباح سيكون لها اثرها الخطير على ساقها. ومع ذلك عندما حان وقت انصرافي امسكت بكلتا يديها يدي وقالت:
- ارجوك يا ولسن ان تصلي والرب سوف يتدخل.
في الصباح الباكر بعد ان ذهب الأولاد الى مدارسهم، توجهت الى المستشفى لأواجه أصعب يوم في حياتنا.
عندما رأيت زوجتي وجدتها مبتسمة وبشاشة الفرح تملأ وجهها. وقبل أن اسألها نظرت إلي وابتسامة عريضة ملأت شفتيها وقالت لي:
- ولسن انت عارف مين اللي عمل العملية في رجلي؟

لم اتكلم فالعملية لم تجر بعد، بل انهم يحضرونها للعملية الأن، لكني سألتها مستغرباً.
- من؟
ضحكت وقالت:
- الرب يسوع نفسه هو اللي عمل العملية في رجلي امبارح بالليل. صحيت من النوم لقيته واقف قدام السرير والهالة النورانية حول وجهه وشعره الناعم الجميل وابتسامته اللي حسيت فيها بالأمان والراحة. مد ايده ومسك قدمي وبأيده الثانية راح ماسك ساقي، وشد الساق ثلاث مرات، واختفى بعد كده انا متأكدة ان العملية حتنجح.
طيبت خاطرها وربتُ على رأسها وابتسمت وقلت لها:
- فليكن لك حسب ايمانك.
شعرت بالأمان والاطمئنان. لم يخطر على بالي خاطر بتر ساقها، بل أكاد أجزم بأنني نسيته تماماً.

تمت اجراءات اعدادها للعملية وحان وقت ذهابها إلى غرفة العمليات، وحدثت المفاجئة امام باب غرفة العمليات خرج الطبيب المعالج والذي سيقوم باجراء العملية ومعه طبيب آخر مساعد وطبيب التخدير. سلم الجميع على زوجتي وعليّ، ابتسم الطبيب المعالج وقال لي:
- لقد قررنا اخذ صورة اخرى الآن قبل اجراء عملية البتر وبناء على هذه الصورة الحديثة سنقرر ما سنفعل.. صلِّ اذا كنت مؤمناً.
ابتسمت ولم أقل له ان العملية قد تمت مساء أمس. بل ذهبت الى زوجتي وامسكت بيدها وقلت لها:
- كل شيء تمام. رايحين يعملوا أشعة تاني دلوقتي قبل اجراء العملية.

اخذوها الى مكان الاشعة، وبقيت وحدي منتظراً، طال انتظاري، فقد مر على اخذها اكثر من ساعة ولم أرَ واحداً منهم، بعدها بدأت أرى الممرضات وهن يسحبن سريرها من داخل قسم الأشعة. رأيت دكتور كولينز الطبيب المعالج ممسكا بصور الأشعة مهرولا الي والفرحة على وجهه وهو يقول لي:
- مبروك.. لن نبتر الساق.. الحمد لله (الغرغرينة) لم تصل الى العظم كما تصورنا امس، العملية لن تكون سهلة. لكن قررنا عدم بتر الساق نهائياً.
ابتسمت في ذهول ولم اعرف ماذا اقول او اتحدث، نسيت تماما موضوع بتر ساقها، لم تعرف زوجتي هذه القصة إلا بعد ان تم شفاءها، تعجبت من الخبر ومجدت الرب يسوع وشكرته على تعطفه عليها ومساعدته لنا في حياتنا ان كان في مصر أو في أستراليا.

قرر الطبيب لها بعد التئام الجرح اجراء علاج طبيعي 3 مرات في الأسبوع بالقسم الخارجي للمستشفى. فكانت تأتي اليها عربة الاسعاف في الساعة الثامنة صباحا وتعود بها في الساعة الخامسة بعد الظهر.. والويل كل الويل لأي ممرضة كانت تتحنّن عليها وتقدم لها كوب شاي وبعض من (البسكويت). فقد دأبت الراهبة على مراقبة زوجتي حتى في القسم الخارجي للمستشفى.
ذات يوم جاءتها الممرضة وأخذت منها العصا التي تتكيء عليها وقالت لها في عنف وغلظة:
- أنت تتظاهرين باحتياجك الى هذه العصا.. وانت لست في حاجة اليها.

ردت عليها زوجتي قائلة:
- هذا ليس شأنك، بل هو شأن الطبيب المعالج.
فما كان من الممرضة إلا ان دفعتها بيدها فسقطت على الأرض، وفي حالة غضب شديد  اندفعت زوجتي اليها وشدتها من شعرها واخذت تضربها. التف الناس وخلصوا الممرضة من قبضة زوجتي.
وصلني تلغراف اخر من الطبيب يطلب مني الحضور سريعاً لرؤيته، وفي مكتبه اعطاني تقريراً يتحدث عن زوجتي انها مجنونة ويجب نقلها الى مستشفى العلاج النفسي، بعد ان قرأت التقرير نظر إلي وقال:
- أنا متأكد من ان زوجتك سليمة مائة في المائة. لكن لا أعرف سر معاملتهم لها هذه المعاملة السيئة. لذلك اقترح ان تذهب إلى مستشفى آخر لاجراء العلاج الطبيعي هناك. وأرى أن مستشفى ماركفيل أقرب مستشفى لكم.

فكرت في دراسة اللغة الأنجليزية فتقدمت والتحقت بـ:
Sydney Technical College - English Intensive Course
لدراسة مكثفة للغة الانجليزية.

كان هذا قبل الحادث الذي وقع لزوجتي بفترة وجيزة. وكنت ما زلت اعمل بمصنع الزجاج. بعد الأختبار الذي انجزته بجدارة في اللغة الانجليزية تقرر الحاقي باحد الفصول المتقدمة. بدأت الدراسة بالفعل وكانت امالي كبيرة في أن هذه الدراسة سوف تساعدني عند التقدم بطلب او طلبات العمل كمدرس.
أعمل في المصنع. وفي الوقت نفسه اتابع دراستي واجري اتصالات مع وزارة التعليم. في تلك الفترة كنا قد تعرفنا بمستر ديسكون راعي كنيسة المسيح بماركفيل ووجد ت فيه الأخ المفتقد في أستراليا.

بالنسبة لما حدث لزوجتي بالمستشفى قد يقول قائل لماذا لم تتقدم بشكوى ضد الراهبة والممرضات بالمستشفى؟
أقول اننا فكرنا في هذا بالفعل، مستر ديكسون وانا.. وحددنا موعدا مع مدير المستشفى للقائه، وعندما التقينا به واستمع الى شكوانا، رفض بكل أسف اتخاذ اي اجراء قانوني، كل الذي قاله:
- أسف لهذا الحظ السيء لما حدث ..

لم نفكر في اللجوء الى المحاكم، لأن في تلك الأيام كانت مهنة الطب وكل العاملين في هذه المهنة لهم حصانة تفوق حصانة رجال البرلمان.
بعدما وقع الحادث لزوجتي تقاعست عن الاهتمام بكل ما يدور حولي سوى اولادي وزوجتي. لم استطع الذهاب لحضور الفصول المسائية لدراسة اللغة الانجليزية، وأوقفت البحث عن اي عمل آخر، وكان كل اهتمامي بزوجتي المريضة غير القادرة على القيام بأي عمل في البيت. وشاركتني العبء ابنتي الكبرى ميرفت مع تعاون ابننا مجدي وابنتنا الصغيرة ماجدة.

كثر خروج زوجتي من المستشفى والعودة اليها، وكما قلت قبل ذلك حاول كثيرون مساعدتي على رعاية ابنائي، لكني رفضت واخص بالذكر المتنيح الأب القمص مينا نعمة الله وحاول كثيرا مستر ديكسون.. وايضا رفضت.

جاء مستر ديكسون في ذات يوم وقال لي:
- إسمع ايها الأخ العزيز ولسن، هذا كثير عليك وعلى الأولاد وقد وجدت لك حلا لمساعدتك مع الأولاد، لقد اتصلت باحدى المدراس الداخلية.. اي دراسة وإقامة في الوقت نفسه، وقد شرحت للمسؤولين الظروف التي تمر بها الاسرة، وأرجو ان تقبل هذا الحل لأنه في صالح الأولاد اولا.. وصالح الأسرة أخيراً.

وافقته على الرأي، واخذني والأولاد الثلاثة يوم احد بعد الانتهاء من الصلاة في الصباح الى المدرسة على الرغم من كثرة عمله في مثل هذا اليوم، تركني بتقديم نفسي للمديرة ووقف هو بعيدا عنا، لكنه كان يراقب الحوار الدائر بيننا.

ظنت المرأة انني اترك اولادي في المدرسة الداخلية لخلافات عائلية مع زوجتي، لذا كانت متذمرة في حديثها معي، مما حدا بمستر ديكسون بالتدخل في الوقت المناسب وتذكيرها بالحالة التي تمر بها الأسرة بسبب الحادث الذي وقع لزوجتي، تأسفت المرأة وقبلت الأولاد الثلاثة. ولم أكن اصدق نفسي انني سأعيش وحدي.. زوجتي في المستشفى بعد اجراء العملية الأخيرة لها بدلا من بتر ساقها. وها هم أولادي يؤخذون مني لفترة لا أعرف كم ستطول؟!

أسودت الدنيا امامي.. تمالكت نفسي امام الأولاد، شجعتهم وأخبرتهم بأنني سأقوم بزيارتهم كل يوم ان استطعت.. كيف هذا والمدرسة في  Frenchs Forest   وأنا في ماركفيل وليس عندي سيارة، زد على ذلك لا اعرف كيف أذهب اليها. وما زلت ..
وما ان عدنا إلى السيارة مستر ديسكون وانا، حتى انفجرت نفسي في بكاء حاد، وأخذت اجهش كطفل حرموه من أمه، أمسك مستر ديكسون برأسي ووضعه فوق كتفه، لاصق رأسه رأسي واخذ يبكي معي.

وجدت مشقات كثيرة في الذهاب الى الأولاد في نهاية الأسبوع ليقضوا معي عطلة نهاية الأسبوع، ساعدني جار اسباني وكان له شرط ان ادفع له ثمن البنزين. وافقت واحيانا كثيرة كان مستر ديسكون هو الذي يقوم بهذه المهمة.

تعافت زوجتي وخرجت من المستشفى بعد نجاح العملية على الرغم من الأثر الواضح الذي تركه الجرح الغائر في ركبتها وساقها حتى الآن، إلى جانب الجرح الجسدي. كان هناك جرح آخر أشد إيلاما منه.. لقد تحطمت أمالها.. وطارت احلامها، وبدأت تشعر بأنها عالة علينا ولم يغير من حالتها النفسية المتردية هذه غير قبول مستشفى Prince Alfred Hospital Royal    لها كحائكة بالمستشفى.
بعد 9 أشهر بمصنع الزجاج.. قررت العمل بهيئة الباصات كمحصل (كمساري اتوبيس).. وكان ذلك التغير ضمن خطة وضعتها لنفسي كأول احتكاك مباشر لي بالناس عامة وطلبة وطالبات المدارس لأنني أؤمن  بان اللغة هي الحبل السري الذي يربط التلميذ بالمدرس. وكلما كانت اللغة سليمة تكون العلاقة قوية ومتينة، ومجيئي إلى أستراليا ليس لجمع المال، بل لحياة افضل لأولادي وزوجتي وأنا. مهما كانت لغتي الانجليزية قوية في ذلك الوقت..

وعلى فكرة بعد انقطاعي عن متابعة دراسة اللغة الانجليزية كما سبق وكتبت.. ذهبت مرة فأخبرتني المديرة ان الامتحان في الأسبوع القادم.. وعندما حاولت الاعتذار لظروفي. أصرّت المديرة على حضور الامتحان وانها واثقة من نجاحي.
بالفعل امتحنت ونجحت وحصلت على 72%.

كان تركيزي على العمل كمدرس سواء في الحكومة او المدارس الكاثوليكية، تقدمت الى الهيئة المختصة بتحديد الوضع المهني للمتقدم الراغب العمل كمدرس في المدراس الكاثوليكية فجاءني ردهم كالآتي:
Classifications Committee of the Catholic building and finance commision
1 Aber Cromble St. Chippendale
Name: Ibrahim Mr. Wilson
You have classifield as conditionally classified four years trained and placed on the 3rd step of that scale with a 1972 salary of $ 4849 annum.
Date:15 /9 /72 قبل وبعد الحادث الذي وقع لزوجتي بدأت في البحث عن العمل كمدرس، أجريت لي عدة لقاءات مع المختصين من وزارة التعليم في نيو ساوث ويلز.
اتذكر اهم لقاء اجري معي كان في جامعة سيدني، وكان لقاء عمليا امام لجنة مختصة وطُلب مني ان اقف امام السبورة وأبدأ الحديث عن ثورة 1952.

بعد ان انتهيت من إلقاء كلمتي شارحا أسباب قيام الثورة، وما انجزته من انجازات نافعة لمصر والعالم العربي، نظر إليّ رئيس اللجنة وقال لي:
- مع الأسف لا نستطيع ان نقبلك لتعمل كمدرس دون حصولك على دبلوم في التربية. وظروفك الاجتماعية والمالية لا تسمح لك بالدراسة، وخاصة ان زوجتك مصابة ولا يمكنها العمل ومساعدتك. لذا نرى ان نتريث الى ان تتحسن ظروفك ثم تتقدم مرة اخرى بطلب دراسة دبلوم التربية.
صمت الرجل فترة وجيزة ثم اردف قائلاً:
- نستطيع ان نقدم لك فرصة العمل كمدرس الآن، فقط كمدرس بالمدارس الابتدائية، فما رأيك؟
لم اتردد.. ولم افكر.. بل نطقت وبكل تأكيد وقلت:
- لا.. إما مدرس ثانوي.. وإما الانتظار.
وهذا ما حدث.. لم اعد افكر في التدريس على الرغم من التقدم إلى هيئة التعليم الكاثوليكي، والأن احمد الله على أنني لم أعمل في حقل التدريس هنا في

أستراليا، وأنا اتحدث عن نفسي وليس عن التدريس بحد ذاته في أستراليا ونظام التعليم بها، لقد جنبني الله الكثير من متاعب مهنة التدريس وخاصة مع طلبة لغتهم الانجليزية.
وإلى لقاء.. مع ذكريات العمر اللي فات.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١١ صوت عدد التعليقات: ٥ تعليق