CET 00:00:00 - 25/06/2009

مساحة رأي

بقلم: محمد عبد الفتاح السروري
في زمن الإغتراب وأثناء حرب التكفير الموجه ضده كتب "الدكتور/ نصر حامد أبو زيد" كتابه (الخطاب والتأويل) وركز بحثه لما يقول على منهج جديد بمكن أن يعمق علم (تحليل الخطاب) وما أحوجنا بالفعل لهذا الأمر (تحليل الخطاب) على أن يكون تحليل هذا الخطاب نظريًا وتطبيقيًا.
ويبدو أننا جميعًا أصبحنا نعيش عصر الصراع والصدام سواء كان هذا الصدام بين حضارات مختلفة أو صدام داخل نسق الحضارة الواحدة، ويتجلى هذا الصدام في الصدام بين الخطابات المختلفة داخل نفس المنظومة العامة حيث أنه تتبادل الخطابات من خلال (تصارعها مع بعضها البعض وإستعارة العناصر التى تساعدها على إعادة تكييف بنيتها وتنشيط خصائصها وتجديد بعض منطلقاتها لكي تستطيع مواجهة نقيضها والإستمرار في تحدي مشروعه)، ولكن يبدو أن الدكتور أبو زيد كان حالمًا إلى حد بعيد، فما أن خرج عن السرب إلا وقد حدث له ما نعرفه جميعًا ولقد كان محقًا حينما قال (تحاول معظم الخطابات وبكل السبل أن تستخدم ضد بعضها البعض أشد أسلحة الإستبعاد والإقتصاد بل والتدمير الشامل).

القسم الأول:-
المثقف العربي والسلطة
بهذا الطرح الأزلي يفتتح أبو زيد بحثه عن إشكالية الخطاب والتأويل في الضمير العربي والإسلامي، ووصفي لهذا الأطروحة بأنها (أزلية) لم يأتِ من فراغ بل جاء نتيجة المتابعة الدؤوب لإنتاج الكثير من قريحة المفكرين العرب، حيث أن هذا السؤال هو المطروح دائمًا (علاقة المثقف بالسلطة) ومدى تداخلها معًا وأيهما يستغل الآخر وأيهما يعمل من خلال الآخر ضمنيًا؟ ولقد كان الدكتور أبو زيد موفقًا إلى حد كبير حينما ذكر في أول كلامه سقراط كمثال على علاقة المثقف بالسلطة، فما أن تعارضا حتى كانت الغلبة لصالح السلطة كما هو معروف ومتوقع دائمًا، ولأن سقراط رفض (الإنقياد – الهرب) كان جزاؤه الإقصاء البدني الكامل.
ويُعرّف أبو زيد (المثقف) بطريقته وهو في نظره الإنسان المنخرط بطريقة أو بأخرى في إنتاج الوعى، وهنا تكمن المأساة لأن إنتاج الوعي الآن ليس نتيجة عمل المثقف ونتاج مشروعه بل أن الوعي الآن يخضع كمنتج إلى آليات إنتاجية بعيدة كل البعد عن فعل المثقف كما عرفه نصر حامد أبو زيد، وليس هذا فحسب بل أن المأساة تكمن أيضًا أن هذا الحال أصبح ينتج مثقفين الذين يقومون بدورهم بإنتاج مثقفين بثقافة هي في جوهرها أكثر المنتجات الذهنية بعدًا عن الثقافة المتعارف عليها والراسخ مفهومها في الضمير الإنسانى في العام.

ويسرد الدكتور نصر حامد أبو زيد الإختلاف بين مفهوم الحقيقة عند المثقف ومفهومها عند رجل السلطة، فالحقيقة عند رجل السلطة هي حقيقة بقدر ما تكون نافعة ومؤثرة وقادرة على تحقيق أهداف الإستقرار والثبات أما عند المثقف فهي حقيقة لأنها نافعة وليس لأيه غايات نفعية مباشرة ترجى من ورائها، إذًا فهي تتخطى الحدود البرجماتية عند رجل السلطة ويكمن الفرق بين خطاب المثقف المنتج للوعي وخطاب مثقف السلطة المنتج لخطابها السلطوي في أن خطاب المثقف الحقيقي خطاب مفتوح غير دوغمائى، أي أنه لا يرى أنه يمثل سلطة إطلاقية نهائية على عكس مثقف السلطة فهو خطاب مطلق دوغمائى إطلاقي يتضمن مفهوم الدفاع عن حقيقة مطلقة في كليتها وشموليتها.

مركزية الغزالي وهامشية ابن رشد

خطاب التنوير بين حق المعرفة وضغوط الخطاب النقيض بالغزالي وابن رشد، بهذه المداخلة يستهل نصر حامد أبو زيد دراسته عن آليات الخطاب والتأويل، ويتصدر العنوان السابق الفصل الأول من الكتاب وفي الحقيقة لقد وفق الدكتور نصر حامد أبو زيد كل التوفيق في إستدعاء هذه المقارنة بين العالمين الغزالي وابن رشد، فلقد أصبح لكل منهما في الفكر الإسلامي مدرسة خاصة به وإن كان للغزالي الحظ الأوفر من التلاميذ والمريدين بالتعبير الصوفي، وهما بالفعل يمثلان طرفي نقيض، فالغزالي هو رائد مدرسة السلف وابن رشد رائد مدرسة التجديد وهذه الحقيقة الجلية تستحضرها الذهنية الإسلامية حينما يذكر أمامها الإسمين، فعند ذكر الغزالي يستدعي الوعي الإسلامي مصطلح (التفسير) وعند ذكر ابن رشد يستدعي مصطلح (التأويل)، والفرق بين التفسير والتأويل هو لب الخلاف وجوهر الدراسة القيمة التي طرحها الباحث والتي نحن بصدد عرض أهم خطوطها العريضة بقدر ما يسمح به المقام.

من الأقوال المأثورة عن الشيخ أمين الخولي رحمه الله أن الأفكار حين تجد في العقل خواء وتصادف في الدماغ خلاء تعشش وتستقر حتى ليصعب إخراجها وإنتزاعها من العقل مهما كانت درجة زيفها.
وتزداد حدة إستقرار الأفكار في العقول والأدمغة عن طريق التكرار المستمر لها والترديد الدائم الذي يحول موضوع الفكرة إلى ما يشبه العقيدة الثابتة التي لا يجوز مناقشتها أو الإقتراب بمنهج التحليل النقدي من حدودها، وكثيرة في تاريخ ثقافتنا العربية الإسلامية هي الأفكار التي أنتجتها عقول بشرية ولكنها تحولت بفضل التكرار والترديد الذي من شأنه أن يخفي غيرها من الأفكار ولو بالتشويه إلى عقائد لا يمكن المساس بها.

وفي هذه المقدمة البليغة يكمن أحد أسرار نكوص العقل الإسلامي عن ملاحقة التطور الإنساني العام وخاصة في مجال العلوم الإنسانية وخاصة الفلسفية منها، حيث تحولت بالفعل الثوابت البشرية إلى ثوابت سماوية لا فائدة من التحاور مع معتنقيها حول (إنعدام قداستها) وفي هذا الأمر يا طالما كتب الكاتبون، ويكفي أن نسوق هنا مثالاً لهذا الأمر ألا وهى قاعدة أن (العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب) وهذه القاعدة على سبيل المثال ليست آية قرآنية ولا هي حديثًا نبويًا ولا هي حتى من أقوال التابعين بل هي مقولة محدثة نسبيًا تحولت بحكم الأيام إلى ثابت من الثوابت يصعب الآن تجاوزه إلا بشق الأنفس، ويطرح الباحث المقارنة الهامة بين الغزالي وابن رشد في أن ابن رشد قد وُلد في بيئة الأندلس ملتقى الثقافات والأديان، فابن رشد الذي وجد في هذه البيئة يمثل نسقًا عقليًا طردته الثقافة العربية الإسلامية وتحت ضغط مركز الخلافة الإسلامية وسيطرة الخطاب الغزالي والأشعري إلى تقديم كثير من التنازلات، وذلك على عكس الغزالي الذي ساعدته ظروف هجمات المغول والتتار إلى أن تجعل من العقلية الإسلامية لا تجد أمامها إلا التحصين بمتاريس (السلفية) دفاعًا عن الدين والعقيدة.

وقبل أن نرحل عن هذه الجزئية وجب علينا أن نسوق ما سطره الباحث عندما تحدث عن اللغة الدينية السائدة بحيث يقول ما نصه وما أبلغ ما قال، البداية في تنشيط الإسلامي هي خلق فكر نقدي حر من ناحية وإعادة التاريخية إلى قلب المجتمعات الإسلامية من ناحية أخرى ولا يمكن إحداث هذا التنشيط إلا بالخروج عن المنهج الكلاسيكي المدرّس وتبني الأفاق المعرفية والمنهجية الجديدة حتى على الوعي الأوروبي عينه، ولكن تطبيق هذه المنهجيات يطرح رفضها من جانب الخطاب الديني والهيئة الإجتماعية الخاضعين لأفق أبستيمي راكد ومتخلف، ويحتاج إلى جهود كثيفة ينقلب إلى أفق أبستيمي آخر، والباحث مهما بلغت موضوعية كائن إجتماعي تاريخي لا ينتج خطابه في فراغ بل يسعى دائمًا ليموضع خطابه في قلب وعي أمته أن له من حيث هو كائن إجتماعي تاريخي قدرته على تجاوز الوعي السائد والمسيطر، لكن خطابه تتحكم فيه خطابات أخرى تمارس عليه من الداخل دور الرقيب المسيطر.

التراث والتأويل
سقط العقل العربي بين شقي الرحى بين مطرقة السلطة السياسية وسندان السلطة الدينية سلطة النص الدينى وسلطة السياسة الحاكمة، ويذكر الباحث أنه إذا توحدت السلطتان كان التأويل شأنًا من شئون الدولة وفي هذا السياق نفهم لماذا حرص عثمان بن عفان على القضاء على تعددية قراءة النص وحصرها لصالح لغة قريش وحدها، وحصر العقل بين السلطتين الدينية والسياسية يؤدي لإماتته العقل وجعله هامشيًا في بنيته غير منتج، والأسوأ أنه يجعل منه عقلاً تبريرًا وقد يمتد الوضع ويصبح بعد أن يكون تبريريًا يصير بعدها متواطئًا في صناعة وخلق نفس النسق الذي هو أساسًا من صنعه مسبقًا، ويضرب الباحث مثالاً لذلك بما حدث في حرب الخليج والتي كان من شأنها أن جعلت كل طرف من الأطراف يتوشح بوشاح دينى تبريرًا لدوافعه، والسؤال.. كيف يمكن الفكاك من إسار البنية العقلية التي أنتجت الواقع الأميل إلى المحافظة على الموروث وعلى الخطاب السلفي كيف يمكن الخلاص من هذا الوضع لصالح بنية عقلية تعلي من شأن (التأويل) والتجرأ على النص ومحاولة فهمه في سياق آخر غير السياق العام الذي لا يخرج عن قاعدة العبرة (بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب)، يجيب الباحث الدكتور أبو زيد عن هذا السؤال في بحثه حينما يقول ما نصه (لا خلاص من تلك الوضعية إلا بتحرير العقل من سلطة النصوص الدينية وإطلاقه حرًا يتجادل مع الطبيعة والواقع الإجتماعى والإنسانى, كما يتجادل مع الغيب والمستور، فينتج المعرفة التى يصل بها إلى مزيد من التحرر فيصقل أدواته ويطور آلياته، ولا بد له بالمثل من التحرر من السجن الآخر، سجن الدوران في فلك السلطة السياسية وأيدلوجياتها تأييدًا أو معارضة وذلك للخروج من أسر إنتاج الأيدولوجيا إلى فضاء إنتاج المعرفة العلمية باالواقع والتراث، ثم يفعل مستطردًا ومتساءلاً.. وهل يتم ذلك كله إلا بتحرير العقل من سلطتي النصوص الدينية والسلطة السياسية وبتجريد الذاكرة من عمليات المحو والإثبات الإيدولوجية أى بتحرير الثقافة من عوائق النمو أي بتنميتها).

إشكالية (التراث) في الوعى المعاصر
لا أدري.. لقد كان أحرى بالباحث الدكتور نصر حامد أبو زيد أن يضع هذا الجزء في أول دراسة عن إشكاليات الخطاب والتأويل نظرًا لما يمثله هذا الجزء تحديدًا من إيضاح لمعاني وردت في أول بحثه، فكان من الأفضل أن يكون معها المتلقي من أول الأمر، وحجتي هنا أن الباحث في هذا الجزء تعرض للفرق بين مصطلحي التفسير والتأويل وهذين المصطلحين يمثلان لب الخلاف بين كثير من المشتغلين بالفكر الإسلامي، حيث أن التفسير والتأويل قد أصبحا وكأنهما مدرستان مختلفتان لكل منهما أهداف ومنهاج مختلف، فالتأويلية ظهرت أول ما ظهرت كانت تحت مسمى (الهرمنيوطيقا) Hermeneutics حيث كان هذا المصطلح يشير إلى مجموعة القواعد والمعايير النظرية التي يجب على المفسر أن يتبعها لفهم النص الديني أما مصطلح التفسير Exegesis فكان يشير إلى عملية التأويل ذاتها، هذا هو الفرق بين المصطلحين في الفكر الأوروبي أما في التراث العربي والإسلامي فلقد نشأ الخلاف في ظل ظروف مغايرة حيث نشأ الخلاف بين المصطلحين في حقبة (الفتنة) ومحاولة كل فرقة بلورة الفرق في الإستخدام، المفارقة هنا أن الباحث يذكر أن مصطلح التأويل كان هو المصطلح المستخدم دون حساسية للدلالة على شرح القرآن الكريم في حين أن المصطلح التفسير كان هو الإقل تداولاً.

ويسوق هنا المقولة التي قالها علي بن أبى طالب حينما رفع الأمويون المصاحف على أسنة الرماح حين قال "بالأمس حاربناهم على تنزيله واليوم نحاربهم على تأويله"، والمفارقة الثانية أن كلمة التفسير لم ترد في القرآن كله سوى مرة واحدة على عكس كلمة التأويل حيث وردت أكثر من عشر مرات.
ولكن رغم أسبقية مصطلح التأويل عن التفسير درج العلماء منذ القرن الرابع الهجري –العاشر الميلادي– على تفضيل مصطلح التفسير عن مصطلح التأويل حيث أصبح التأويل مقرونًا بالجنوح عن المقاصد والدلالات إلى أفكار أخرى من خلال تحريف عمدي لدلالات ومعاني المفردات.

ويختتم الباحث بحثه في إشكالية التراث في الوعي المعاصر بعرض لثلاث تيارات تمثل تجسيدًا لهذه الإشكالية ونعنى إشكالية (التراث).
التيار الأول:- هو التيار الذي يتبنى أصحابه فكرة أننا نعيش عصرًا لا يمت بأي صلة للماضي ومصطلحاته، وأن التراث وأيًا كانت عناصر التقدم والإستناره فيه إنما هي تنتمي إلى الماضي وتعجز عن مخاطبة هموم ومشكلات الحاضر.

التيار الثاني:- هو المضاد للتيار الأول وهم أصحاب مقولة (الإسلام هو الحل) حيث أنهم يتعاملون مع (التراث) بوصفه إنجازًا مقدسًا لا يجب المساس به وأن العودة لهذا التراث إنما يمثل بالتبعية العودة إلى الإنجاز الذي تحققت أثناءه.

التيار الثالث:- هو تيار (التوفيق) ويقصد به مشروع التيار الإسلامي ولكن مشكلة هذه التيارات أنه تلفيقي لا يفضي إلى شيء، حيث ينتهى به المقام إلى إقتباس فكرة من هنا ومن هناك بحيث يصبح في النهاية شكلاً بلا مضمون.
وينهى الدكتور حامد أبو زيد (سفره) القيم عن الخطاب والتأويل بطرحه لوجهة نظره في الإشكاليات المطروحة حاليًا وبخاصة مشكلة التراث ومصطلح التأويل بأته قد آن الآوان للعب على المكشوف لحسم القضايا على أرض الفكر، آن الآوان لإنتاج فكر علمي معرفي قادر على الفهم والتدبر.. تدبر النصوص.. والتاريخ.. الماضى والحاضر.. الدنيوي والمقدس.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٥ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق