بقلم: فرانسوا باسيلي
يوم 21 من يونيه هو "يوم الأب" في الولايات المتحدة، وهي مناسبة لكي أكتب عن والدي القمص بولس باسيلي وعمّا تعلمت منه من دروس يمكن أن تفيد الآخرين، فهو رجل فذ بغير شك، وأعرف أن الكتابة عن الوالد –لأي شخص– لن تكون كتابة موضوعية أبدًا، فالوالدين تأثيرهما على كل إنسان سواء وعي الأبناء بذلك التأثير أم لم يعوا.
وفي كتابتي عن والدي هنا لابد سأكون متأثرًا بالعلاقة الشخصية الحميمة ولكن ما يشجعني على الكتابة عن والدي كتابة عامة سيقرئها الجميع هو أن والدي شخصية مصرية عامة. إذ هو رجل دين قبطي، ورجس سياسة كان عضوًا منتخبًا في مجلس الشعب المصري عن دائرة شبرا في السبعينات من القرن الماضي، ورجل خدمات عامة أنشأ وأدار عددًا من مؤسسات الخدمات الاجتماعية الضخمة للمكفوفين والمسنين والمغتربين من الرجال والنساء في حي شبرا تخدم كافة مدن مصر.
كما أنه كاتب ومؤلف أصدر أربعين كتابًا في موضوعات دينية واجتماعية وثقافية، كما أصدر ورأس تحرير مجلة مسيحية شهرية لمدة ثلاثة وثلاثين عاما بلا انقطاع حتى أوقف نظام السادات نشرها عندما ألقوا القبض على والدي مع عدد كبير من رموز مصر السياسية والدينية والثقافية في سبتمبر عام 1981 مما أدى إلى اغتيال السادات على أيدي الجماعات الإسلامية بعد شهر واحد من أوامر الاعتقال هذه.
والدي إذًا شخصية مصرية عامة لها تجربة فريدة ودور فعال في حياة مصر السياسية والدينية والاجتماعية طوال النصف الثاني من القرن العشرين والكتابة عنه تعني بالضرورة الكتابة عن تلك الفترة الهائلة الحافلة بالانتصارات والانكسارات من تاريخ مصر المعاصر هي إذًا كتابة شخصية وعامة في نفس الوقت إنسانية واجتماعية، سياسية ودينية، آمل أن يجد فيها القراء دروسًا وإضاءات تفيد الحاضر وتنير بعض زواياه المظلمة، وأحب أن أقوم بكتابتها بواجب الوفاء والمحبة من ابن نحو والده الشيخ الذي احتفلنا في مايو 2009 بعيد ميلاده الثالث والتسعين، راجين أن يمنحه الله الشفاء وأن يديم عليه صفاء نفسه وابتسامة وجهه وعذوبة روحه السمحة المحبة للجميع، وخاصة للفقراء والمعدمين والمكفوفين والمغتربين الذين أفنىَ عمره في خدمتهم بلا كلل.
*حرب فلسطين:
أقدم ما اختزنته في أعماق الذاكرة هو مشهد والدي –فؤاد أفندي– كما كانوا ينادونه في ذلك الوقت، وهو يدخل علينا –أمي الشابة وأنا الطفل الذي لم يبلغ الخامسة من عمره بعد، في شقتنا المتواضعة في حي شبرا بالقاهرة والدم ينزف من كفه، فتهرع إليه والدتي في هلع وهي تحمل شمعة صغيرة في يدها وقد انقطع النور الكهربائي عن الحي بأكمله، فيجلس أبي متعبًا مسلمًا كفه لوالدتي تلفها بالقماط لإيقاف نزيف الدم، وكنت قبلها بدقائق مختبئًا أنا ووالدتي تحت مائدة جرتني تحتها ونحن نسمع صفارات الإنذار تدوي في أنحاء الحي والناس تتعالى صيحاتهم في الشوارع على إثر غارة جوية عرفت فيما بعد (missing one line here) بالنكبة، وكان والدي ليلتها في وسط البلد حينما دوت صفارات الإنذار وانقطعت الكهرباء فسارع بالعودة ليكون مع زوجته وطفله، وحكى لنا بعدها بسنوات أنه وفي ظلام الشارع وحالة الهلع في تلك الليلة أصابت كفه قطعة زجاج انكسرت من إحدى العربات على ما يبدو.
وما زلت إلى اليوم أتذكر مشاعري كطفل يختبئ في ظلام الحجرة تحت المائدة –مستشعرًا خوف والدتي معي– والأرض تموج بصفارات مدوية مفزعة، ولابد أن مشاعر الخوف الطفولي تلك كانت هي البذرة التي أورقت بعد ذلك في نفسي كراهيتي للحرب وللعنف بكل أشكاله، معلنة عن نفسها في موقفي الرافض للغزو الأمريكي للعراق عام 2003 رغم أنني اليوم أمريكي الجنسية، لأنني رأيتها حربًا غير شرعية وغير مبررة رغم أن الكثيرين ممن يحملون مثلي أفكارًا ليبرالية في العالم العربي كانوا يهللون لهذه الحرب ويبشرون بافتتاحها عهدًا جديدًا من الديمقراطية والحرية بالمنطقة وهي سذاجة ومراهقة فكرية فادحة.
كما لابد أن تجربتي المبكرة هذه كطفل يرى والده يدخل البيت جريحًا في ليلة كان جنود وطنه يحاربون فيها على أرض فلسطين مساندة لشعب نهبت منه أرضه تحت دعوى دينية باطلة لـ "شعب الله المختار" جعلتني بعد ذلك من أشد المعادين لاستغلال الدين مطية لأغراض دنيوية عدوانية، مما جعلني إنساني النزعة أتعاطف مع المظلومين بغض النظر عن اسم دينهم ولون جلدتهم، مدافعًا عن حقوق الفلسطينيين بنفس حماسي في الدفاع عن حقوق الأقباط، وحينما كبرت قليلاً وكلما تذكرت هذه الواقعة كنت أمزح مع والدي وأقول له أنه "جرح في حرب فلسطين"!
*لاهوت التحرير:
من المدهش حقًا أنني حين أتمعن في تاريخ والدي الديني والسياسي معًا أكتشف أنه يمكن أن نقول عنه أنا كان يمارس "لاهوت التحرير" قبل نصف قرن من شيوع هذا التعبير الذي أطلق مؤخرًا على نشاطات رجال الدين الكاثوليك المنخرطين في تأييد ومساندة المعدمين والمسحوقين تحت نير جنرالات أمريكا اللاتينية، فقد كان فؤاد أفندي –رسم كاهنًا باسم بولس باسيلي بعد ذلك بسنوات– كان منذ شبابه المبكر منخرطًا في العمل السياسي جنبًا إلى جنب نشاطه الديني، وقد تأثر والدي في شبابه المبكر بثلاثة رجال هم القمص سرجيوس، القسيس القبطي والخطيب الوطني الثائر الشهير الذي كان يلقي بالخطب النارية ضد الاحتلال الإنجليزي في الكنائس والجوامع على السواء، وفي نفس الوقت أصدر سلسلة من الكتب يدافع فيها عن العقيدة المسيحية ضد مَن كانوا يكتبون ويخطبون ضدها في الأربعينات.
وقد سار والدي في مسار يكاد أن يطابق مسار القمص سرجيوس فكان مثله خطيبًا وطنيًا ودينيًا مفوهًا وحاكاه في عاطفته الوطنية القوية وعدم تفرقته بين الأقباط والمسلمين في كل علاقاته وأنشطته. وأيضًا في تصديه لمن ظهروا في السبعينيات يهاجمون المسيحية ويتهمونها بالتحريف، مثل الشيخ الشعراوي في برنامجه التليفزيوني الشهير، وعندما رفض التليفزيون إعطاء فرصة لأبونا بولس باسيلي للرد على هذه الاتهامات وضع ردوده على ثلاثة شرائط كاسيت كانت هي ذريعة نظام السادات في القبض عليه بعد ذلك.
*مصر الفتاة:
أما الرجل الثاني الذي تأثر به والدي في شبابه فكان هو الزعيم الوطني "أحمد حسين" مؤسس حركة "مصر الفتاة الوطنية" التي كانت تنادي بالاستقلال وباعتماد المصريين على أنفسهم، وانضم فؤاد باسيلي إلى هذه الجماعة وأصبح لشدة حماسة الساعد الأيمن لأحمد حسين، وكان يشاركه في إلقاء الخطب السياسية في التجمعات المسيحية والإسلامية، وكان لمصر الفتاة نشاط ومشروعات طموحة من أشهرها مشروع القرش الذي دعا إلى أن يتبرع كل مصري بقرش واحد لبناء صناعة مصرية وطنية تغني مصر عن استيراد بعض الملابس من الخارج مثل الطربوش الأحمر الذي كان يرتديه الجميع بما فيهم طلبة المدارس الثانوية. وفعلاً نجح المشروع وأقاموا مصنعًا لصنع الطرابيش في مصر.
وكان لسرجيوس من ناحية ولأحمد حسين من ناحية أخرى أكبر الأثر في والدي الشاب الذي رأى تعانقًا طبيعيًا بين مشاعره الوطنية الجياشة الطامحة لاستقلال وطنه واعتماد المصريين على أنفسهم في كل شيء مع الوحدة الوطنية والمساواة الكاملة بين "عنصري الأمة" أي المسلمين والأقباط بلغة ذلك الزمان، وبين مشاعره الدينية الجياشة أيضًا ولكن في تفتح واعتدال وقبول للآخر واحترام لعقائد الآخرين مع الاعتزاز بالإيمان المسيحي والدفاع الجريء عنه عند الضرورة، وتحويل العاطفة الدينية إلى مسارها الأصيل النبيل في خدمة الفقراء والضعفاء وإنشاء المؤسسات الاجتماعية والابتعاد بالعاطفة الدينية عن النظرة الأصولية المتشددة الكارهة للآخر من ناحية والمستغرقة في العبادات الشكلية من ناحية أخرى.
*الإصلاح الديني:
أما الرجل الثالث الذي كان له تأثير كبير على والدي فهو المصلح القبطي الكبير وأستاذ الحداثة القبطية في مصر المعاصرة بلا منازع الأستاذ "حبيب جرجس". ومع الوقت اعتبر والدي أن حبيب جرجس هو أبوه الروحي وبكاه عند موته أشد مما بكى أبيه الجسدي. وكان حبيب جرجس رجلاً سابقًا لعصره في فكره ورؤيته وتعدد أنشطته، وهو مؤسس الكلية الإكليريكية بمصر وهي المعادلة للأزهر الشريف لدى الأقباط، فهي كلية الدراسات الدينية اللاهوتية الجامعية والعليا التي صارت تُخرّج أفواجًا من رجال الدين المتعلمين المستنيرين المتحدثين بلغة العصر بعد أن كان رجال الدين المسيحي يختارون لتقواهم واهتمامهم الديني فقط وكانوا يأتون من القرى بلا تعليم يذكر. وهي الكلية التي تخرج منها بعد ذلك بابا الأقباط الحالي الأنبا شنوده الثالث بعد أن درس فيها باسم نظير جيد.
كما كان حبيب جرجس أول من طالب بتدريس الدين المسيحي للطلبة المسيحيين في مدارس مصر، كما كان الدين الإسلامي يدرس للمسلمين، وحينما احتجت وزارة المعارف وقتها -في العهد الملكي– بعدم توفر الموارد والمدرسين عرض حبيب جرجس أن يدبر هو هذا الأمر وقام بدعوة المدرسين الأقباط في شتى العلوم بالتطوع لتدريس الدين المسيحي للمسيحيين في المدارس بلا مقابل، وهذا ما حدث فعلا.
وحينما كنت طالبًا في المدارس الإعدادية والثانوية بالقاهرة في الخمسينيات، كان الطلبة المسيحيون يخرجون من فصولهم في حصة الدين الإسلامي ويجتمعون معًا في فصل خاص يقوم فيه أحد الأساتذة المسيحيين بإلقاء درس الدين عليهم.
وكان لحبيب جرجس أيضًا الفضل في تأسيس "مدارس الأحد" التي تقوم بتدريس الدين والأخلاق بشكل عام للصغار والشباب مساء يوم الأحد، وقبل ذلك كان نشاط الكنائس يقتصر على إقامة شعائر القداس التقليدي صياح الأحد والجمعة بلا اهتمام خاص بالأطفال والشباب.
كما كان حبيب جرجس مؤلفًا وباحثًا قديرًا أصدر مجلة "الكرمة" وقام بتأليف عدة كتب أهمها "الصخرة الأرثوذكسية"، وقد تتلمذ فؤاد باسيلي على يد معلمه حبيب جرجس الذي احتضنه واهتم بتنميته وتشجيعه وكان والدي لحبه للغة العربية وتفوقه فيها –يقوم بتصحيح بروفات مجلة الكرمة كل شهر- وهكذا تعلم فن الكتابة الصحفية من صغره، مما دفعه إلى إصدار مجلته الخاصة به بعد ذلك، وهي مجلة "مار جرجس". كما أصدر عشرات الكتب مقتفيًا أثر أستاذه حبيب جرجس.
*الفكر المستنير:
وإذا كان حبيب جرجس هو الأب الروحي لوالدي، فإن الأب الفكري له كان هو المفكر المصري القبطي الشهير "سلامة موسى" الذي رغم فكره اليساري الاشتراكي المعروف، كان أحد الكتاب الدائمين في مجلة مار جرجس لسنوات عديدة وحتى وفاته وكانت مقالاته الاجتماعية والثقافية المستنيرة السابقة لعصرها تتوج كل عدد من أعداد مجلة "مار جرجس" وهو أمر مدهش حقًا أن يكتب هذا الكاتب العلماني اليساري الذي يعد أب اليسار المصري في مجلة دينية يصدرها واعظ مسيحي أصبح بعد ذلك قسيسًا، هو والدي.
ولكن تفسير ذلك أن والدي كان متدينًا بالفطرة المصرية وليس بالتعصب العقيدي والشطط الديني، وكان مع تدينه بالغ الاهتمام بالثقافة والأدب العربي، يقرأ في كل المجالات ويستشهد في وعظه الديني على خلاف كافة الوعاظ الذين أعرفهم، ليس فقط بآيات الكتاب المقدس ولكن أيضًا بأقوال الفلاسفة والزعماء والمفكرين وبأشعار الشعراء المصريين والعرب القدامى والمحدثين، وكان التدين لديه سليقة طبيعية تتجلىَ فيها عبقرية الشخصية المصرية التي احتضنت واستوعبت كل ما جاءها من حضارات وثقافات أجنبية، من إغريقية إلى رومانية إلى مسيحية شرقية إلى إسلامية سنية وشيعية ولكن دائمًا وسطية معتدلة متسامحة محبة للجميع شديدة التعلق بالحياة وبالفرح والبهجة والنكتة والمزاح والدفء الإنساني الحميم.
إلى أن وصلنا إلى أيامنا الكالحة الحالية التي كادت أن تضيع منها كل هذا.
فكل عام وأنت بخير يا أبي الحبيب
وكل سنة وأنت طيب ومصر طيبة.
وللحديث بقية... |