بقلم: فرانسوا باسيلي *رجل الدين: *الوعظ والخطابة: وكان فؤاد باسيلي يصحبني معه في الكثير من سفرياته حيث ذاع صيته كواعظ مؤثر فكان يدعى من الكنائس والجمعيات في كافة أنحاء مصر، وكانت عظاته مزيجًا مدهشًا من القصص الدينية والعبر الأخلاقية والاستشهادات الأدبية والفلسفية والأشعار العربية والنوادر والطرائف بل وحتى "النكت" المصرية واصطحبني معه مرة أخرى لحضور واعظ قديم يكبره سنا هو الأستاذ عياد عياد، وكان هو أيضًا ذائع الصيت كواعظ متمكن، ومرة ثالثة أذكر أنه أخذني معه لحضور اجتماع في قاعة للإخوة البروتستانت، وفي وسط الاجتماع إذا ببعض الحاضرين ينتفض من على كراسيهم ليرطنوا بكلمات غريبة لا تعني شيئًا ولا تمت لأية لغة، وسمعت والدي بعدها في جلسة مع آخرين يبدي اعتراضه على هذه التصرفات وعدم اعترافه بها، وعرفت بعد ذلك أن بعض الجماعات البروتستانتية تؤمن بظاهرة "التكلم بالألسن". وتكونت في ذهني منذ ذلك الوقت حساسية شديدة ضد كافة مظاهر الخرافة التي يقوم البعض –بحسن نية كاملة– بإقحامها على العبادات الدينية والإيمان الديني –وهي ظاهرة موجودة لدى بعض المؤمنين في كافة المذاهب والأديان، إذ هي ظاهرة إنسانية في المقام الأول لها علاقة بمستوى التعليم –أو مستوى الجهل– السائد في المجتمع. وبعد سنوات من الوعظ الديني كواعظ ثابت في كنيسة مار جرجس بالجيوشي بشبرا، قام البابا كيرلس السادس برسامة فؤاد باسيلي كاهنًا على نفس الكنيسة باسم القس بولس باسيلي عام 1966 فبدأ بذلك مرحلة جديدة من الخدمة الدينية والرعاية الكهنوتية، تنقل فيها أبونا بولس من كنيسة مار جرجس إلى كنيسة العذراء بمسرة ثم إلى كنيسة العذراء بالوجوه وأخيرًا إلى كنيسة الأنبا انطونيوس أيضًا بشبرا. ومن إنجازاته كرجل دين إصداره لأول مؤلفاته كتاب "حياة موسى" عام 1939 وكان عمره ستة وعشرون عامًا –وهو كتاب قال عنه حبيب جرجس: "هذا ليس كتابًا يا فؤاد، هذه رسالة دكتوراة"!. وأسس دار النشر القبطية عام 1948، وفي عام 1954 أسس الإتحاد الإكليريكي العام الذي تطور فيما بعد إلى "رابطة خريجي الإكليريكية"، وفي عام 1969 عين مشرفًا عامًا لإذاعة صوت الإنجيل اللبنانية بالقاهرة، وفي نفس العام أوفده البابا كيرلس السادس مع وفد من الكهنة إلى روما لاستلام رفات القديس مار مرقس وإعادتها لمصر، كما أن مؤلفاته تتضمن سلسلة كاملة باسم "المواعظ النموذجية" هي مرجع فريد يتضمن عظات كاملة متنوعة لكل يوم صلاة من أيام السنة، ولكل مناسبة دينية. وهو مرجع ما يزال الوعاظ والكهنة ينهلون من نبعه إلى اليوم ومازال مرجعًا بلا مثيل حتى اليوم. وفي عام 1971 منحه بابا روما ميدالية القديس بطرس التذكارية، وفي نفس العام انتخب عضوا بمجلس الشعب المصري كأول (وآخر) كاهن قبطي يدخل البرلمان بالانتخاب الحر. ولا شك أن الامتحان الأعظم الذي واجه أبونا بولس كرجل دين كان ذلك الموقف الذي أودى به إلى سجن طره عام 1981 ليقضي به حوالي تسعة أشهر، ففي نهايات السبعينيات كان الشيخ الشعراوي في بعض حلقاته التلفزيونية يتعرض بتهكم للكتاب المقدس والمؤمنين به، متهما الإنجيل بالتحريف والمسيحيين الذين يؤمنون به بالكفر، وكانت الجماعات الإسلامية التي أطلقها نظام الرئيس السادات على المجتمع المصري قد بدأت تبذر بذور الكراهية والتكفير وهدر الدم ضد الأقباط، بغطاء كامل من نظام السادات الذي مكنها من السيطرة على الجامعات والنقابات والوزارات والأحياء الشعبية والوجدان الشعبي المصري لدى المسلمين سيطرة مازلنا نعاني من آثارها المدمرة حتى اليوم. وكان يمكن لأبونا بولس ألا يرد على الشيخ الشعراوي وكان يمكنه ألا يعرض مكانته لأي ضرر، وكان وقتها قد دخل وخرج من مجلس الشعب كعضو منتخب عن دائرة شبرا (من 1971 – 1975) وكان حائزًا على عدة جوائز وأوسمة منها قلادة من سيدة مصر الأولى جيهان السادات لإنجازاته الاجتماعية كما كان يتقلد عددا من المناصب الشرفية والقيادية لمصر والتي لاشك كان يعرف أنه يمكن أن تهتز أو تضيع كلها إذا ما فتح فمه وتكلم. ولكن هذه هي الأوقات التي تظهر فيها معادن الرجال الحقيقية، ونجد أن أبونا بولس باسيلي بعد أن رُفض طلبه للرد على الشعراوي في التلفزيون قام بتسجيل رده كاملاً على ثلاث شرائط كاسيت راح الآلاف يتلهفون عليها بعد ذلك وما تزال موجودة لدى الكثيرين، كما قامت بعض مواقع الانترنت بوضعها عليها. واللافت في رد أبونا بولس على الشيخ الشعراوي هو أن ردوده كانت كاملة تفند اتهامات وتهجمات الشعراوي ضد المسيحية وضد الإنجيل كلمة كلمة، وأنها كانت ردودا قوية واضحة شجاعة بصوته الجهوري، ولكنها في نفس الوقت كانت ردودًا مهذبة، لا تنزلق إلى مستنقع رد الإهانة بمثلها ولم تنزلق إلى التهجم أو التهكم على الدين الإسلامي أو مقدساته أو رسوله، وإنما كان الرد عقلانيًا موضوعيًا محافظًا على أدب الحوار وعلى وحدة مصر الوطنية التي لم يهتم بها الشيخ الشعراوي في تهجمه على معتقدات الأقباط وكتابهم المقدس، فجاء الرد قوياً دون أن تفقده القوة أدبه، ومؤدبًا دون أن ينتقص الأدب من قوته وجرأته. ولعل هذا يكون مثالاً للكثيرين في يومنا هذا الذي نرى ونسمع فيه على صفحات الانترنت تبادلاً مهينًا للشتائم والإهانات لمعتقدات ومقدسات الآخرين مسلمين ومسيحيين، في سقوط مؤسف للعلاقة بين أبناء الوطن الواحد، في عصر صار المجتمع المصري فيه مجتمعًا دينيًا متطرفًا ومتهوسًا. وفي المقال القادم أتحدث عن بولس باسيلي رجل الوطن، ورجل الفكر ورجل الإنسانية. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٤ صوت | عدد التعليقات: ٩ تعليق |