CET 00:00:00 - 06/09/2009

مساحة رأي

بقلم: سهيل أحمد بهجت
سبق لنا أن قمنا بمناقشة رؤية العلمانية من خلال خصومها وهذه الحلقة هي تكملة مفيدة لما ناقشناه إذ نجد المسيري يصر على سلبية العلمانية وأنها أدت إلى ظهور الإنسان النمطي المتكرر كشكل مادي، ولعمري لا أدري ما هو الإنسان الكامل أو النموذجي الذي يريد لنا المرحوم الدكتور المسيري أن نصل إليه؟ وكما قلنا فإنها مشكلة حقيقية فعلية في أن هناك جملة تعريفات "للإنسان" وتحديده ببعض الصفات كـ "الحيوان الناطق" أو "الحيوان العاقل" أو حتى "الحيوان الأسمى" في بعض التعريفات، فالجميع متفق على الجانب المادي للإنسان لكنهم مختلفون أشدّ الاختلاف في العالم الروحي، فالدين ليس عالمًا ماديًا جسمانيًا يمكننا أن نضع أيدينا فيه على التصنيفات فنقول أن الله هو كذا والملائكة والشياطين والأرواح كما يضع أحدنا يده على الأشياء المادية فيقول: عرش ـ فتاة ـ أثاث ـ سيارة..إلخ، ففي هذا الجانب لا يتجادل اثنان في ماهية جسم إنساني أو أي شيء ينتمي إلى هذا العالم لكنهم يتقاتلون في سبيل الحقيقة الدينية الروحية وفي سبيل الخلاص ومسائل ما بعد الموت.
وعن مجتمعات ما قبل العلمانية واختلافها عن المجتمعات العلمانية أود أن أنقل ما طرحه المرحوم "علي الوردي" بهذا الشأن حيث يقول، وحديثه هنا يتعلق بالمجتمع العراقي:

كان رجال الدين في العهد العثماني منسجمين مع الوضع الاجتماعي الذي يعيش فيه عامة الناس، فلا تناشز بينه وبينهم، وكان أكثر الناس يلجأون إلى رجال الدين في حل مشكلاتهم العائلية والاجتماعية وغيرها ولم يكن هناك أفضل وأقدر من رجال الدين في حل تلك المشكلات إذ هم كانوا يمثلون الفئة "المثقفة" في ذلك العهد علاوة على كونهم يمثلون الدين وتعاليمه المقدسة.
وحين جاءت الحضارة الحديثة إلى العراق ونشأ جيل جديد عليها ظهرت فجوة واسعة في العقلية والنظرة إلى الحياة بين رجال الدين والمتعلمين من الجيل الجديد. وهناك أسباب عديدة لهذه الفجوة.. إلى أن يقول: لا يزال رجال الدين يجرون في كتاباتهم وخُطبهم على قواعد المنطق الأرسطوطاليسي القديم، وهو منطق يصلح للجدال إنما لا يصلح لاكتشاف الحقائق أو التثبت منها. إنه منطق الأدلة المتكافئة حيث تستطيع أن تبرهن به على صحة أي رأي و على صحة نقيضه في آن واحد، يظهر هذا بوضوح في الجدال الطائفي..." (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج 1 ص 294 ـ 295) بتصرف.
فالدين كما هو واضح يصبح في حكم الخرافة حينما يبدأ في التغلغل في الدولة وبنيانها ومؤسساتها وهنا لا يمكن أن يكون هناك أي مقياس يحدد الحدود التي يقف فيها الدين فلا يتجاوز حدوده للتأثير في الدولة والسلطة، وحتى في أكثر الدول علمانية يبقى للدين دور وتأثير في الدولة والمجتمع (أمريكا وبريطانيا مثلاً) فمثلاً يمكن للكنائس أن تحض الناس على التصويت لأشخاص معينين أو الوقوف ضد بعض مشاريع القوانين مثال ذلك موقف الكنائس في رفض قانونية زواج المثليين و الإجهاض، فالعلمانية لا تعني موقفًا من الإيمان أو الإلحاد بقدر ما تعني إتاحة الفرصة لعمل العقل ككائن نسبي.

يشير النقد المسيري للعلمانية إلى ما يسميه بسلبيات الحداثة وهي نتاج العلمانية ويصنف السلبيات كنماذج في (أزمة الإنسان في العصر الحديث - ثمن التقدم - هيمنة النماذج المادية والكمّية والآلية - الاغتراب - أزمة المعنى - ضمور الحس الخلقي - هيمنة القيم النفعية - غياب المركز - تفشي النسبية المعرفية والأخلاقية - اللا معيارية [الأنومي] - هيمنة المؤسسات والبيروقراطيات - تآكل الأسرة - التفكك الإنساني - العدمية الفلسفية - الإحساس بالعبث - تراجع الفردية والخصوصية - أمركة العالم - التنميط - سيطرة أجهزة الإعلام على البشر - ظهور الحتميات المختلفة [البيولوجية، والبيئية، والوراثية، والتاريخية] - العالم الحديث كقفص حديدي (عبارة ماكس فيبر) - التسلع [أي تحول الإنسان إلى سلعة] - التشيؤ [أي تحول الإنسان إلى شيء]).." (العلمانية تحت المجهر ص 33).
فالملاحظ أن هذه النقاط هي مجموعة ظواهر من الممكن أن تجدها في أي مجتمع، فالإنسان الحديث وقع ضحية القلق وهذا أمر لا ينكره أحد و لكن هذا تجاوز لحقيقة أننا إذا بقينا على منهج المسيري في أن نتصور أن الإنسان كائن مثالي وأن بإمكاننا خلق هذا الإنسان على أرض الواقع وأن ننزع عنه صفة القلق هذه فهو مخطئ تمامًا فسنكون واهمين لأن الإنسان ومنذ وجوده على هذه الأرض كان يعيش القلق، فالإنسان يجهل المستقبل وهو يخشى الألم والمرض والفقر والموت بطرق بشعة أو يقلق خوفًا من أن لا ينال الخلاص الأبدي وأن لا تمحىَ ذنوبه أو هو قلق من سطوة حاكم ظالم قد ينتزع عنه الأمان والاستقرار، وطوال التاريخ كان الإنسان على الدوام يخشى من الطاعون والفيضانات والفوضى وكوارث الطبيعة التي كثيرًا ما نسبها إلى الغضب الإلهي.

وبعد أن استخلصنا من هذا البحث أن الإنسان هو كائن قلق وخائف على الدوام فإن القرآن ككتاب يشير دومًا إلى أن الإنسان هو أفضل المخلوقات وأحطها في الوقت نفسه، إذ أن الإنسان ولكونه كائنًا مخيرًا في أفعاله وقادرًا على الإبداع دون أن يكون لهذا الإبداع حدود فهو قادر على خلق المفيد والنافع والمدمر والضار في الوقت نفسه.
من هنا نجد أن ما يسميه المسيري سلبًا بـ "ثمن التقدم" هو في الحقيقة نقص يرافق كل الأعمال الإنسانية، بمعنى آخر فإن من أهم أساسيات وجود الإنسان هو كونه مخلوقًا يجهل أكثر مما يعلم وهذا ما يجعله يعاني في التخلف والتطور معًا، فمن هذه الناحية لا يختلف عن الحيوان إلا أنه أسرع إدراكًا لأخطائه وهفواته بينما الحيوان يحتاج الكثير من الوقت لتعلم القليل، كما أن التطور العلمي لم يكن محصورًا بالعالم الرأسمالي الديمقراطي مثالاً على ذلك الباكستان الدولة ذات الطابع الديني المتخلفة "اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا" بينما هي تملك القنابل الذرية بمعنى أنها متطورة في الجانب السلبي من العلم بينما الإنسان في هذه الدولة يعاني في كل الجوانب بينما دولته تمتلك أكثر أسلحة العالم فتكًا وتدميرًا.

وحالة الاغتراب التي يعانيها الإنسان الغربي الآن لا تعني بالضرورة أن الإنسان المشرقي والمسلم على وجه الخصوص هو في منئى عن هذه الحالة، فالغربي بدأ يحس بالاغتراب في هذا العالم لكونه متفرغًا للتفكير و البحث و الدراسة، بينما المسلم غارق في هموم ومشاكل الحياة اليومية فلا كهرباء أو ماء نظيف ولا سكن ولا رواتب مجزية -هذا إن كان يعمل أصلاً- وعدا ذلك فهو يعاني ليل نهار قلقًا من المرض والتعرض للاعتقال والتحقير والإهانة إما من المجتمع أو السلطة.
من هنا لا يكشف الشرقي في شخصه عن أي استقرار وتوازن بقدر ما يكشف عن انشغال وغرق في هموم حياة مريعة وبشعة مليئة بالنفاق والكذب على كافة الأصعدة الدينية والسياسية والاجتماعية والطبقية البشعة والتراحم الشكلي النفاقي الذي لا يلغي الألم والمعاناة بل يزيدها مرارة، ولا يخفي غمز ولمز المسيري للغرب من تضمين "مديح" ضمني للشرق المتخلف والدكتاتوري اللا متسامح.

أزمة المعنى هي الأخرى تكرار أو تكملة لنفس المفهوم والمعنى الأول "الاغتراب" الذي هو في حقيقته بداية المشروع الإنساني في البحث الإنساني عن الله والعلة الأولى للكون وهذا المشروع يتم بناءه بعيدًا عن التحديد المسبق لخطوط البحث وقوام الإيمان، فبدون العلمانية الكاملة -الحرية المطلقة- يبدأ الآخرون في وضع القيود على مجالات النقد وتحليل وتركيب القضايا والمشاكل المحيطة بالعقل، فطبيعي أن تنطلق مقومات العقل الغربي في مشروع البحث اللا نهائي إذ لا علاج لأزمات الاغتراب والمعنى إلا عبر فهمها والبحث عن جذورها وبالتالي لا مفر للإنسان من طرح كل النظريات أمام البحث للوصول إلى الحقيقة، والاغتراب وأزمة المعنى لا وجود لهما في العالم الإسلامي "الظلامي" بسبب هيمنة العقل الخرافي والإيمان بأن كل ما نعانيه هو مقدر و قضاء مبرم، بالتالي لا داعي للعقل لأن يتساءل لأن اليقينيات هيمنت على كل شيء فلا مجال لطرح الأسئلة، فأن ينسب الإنسان الظلم والطبقية والشقاء إلى المجتمع وأدواته السياسية أفضل من أن ينسبها إلى الله والقضاء والقدر "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ" سورة النساء 79 إذا فما نراه ونعتبره "أزمة" هو في حقيقته تباشير بحث عن الجديد، فقد كانت المجتمعات التقليدية الظالمة تنعت الأنبياء على الدوام بأنهم يهددون الاستقرار -عقيدة الآباء والأجداد- وبالتالي فإن المجتمع الذي لا يعاني من هذه الأزمات العقلية والمنطقية هي مجتمعات ميتة محكوم عليها بالفشل.

وأما حديثه عن "ضمور الحس الخلقي" و "هيمنة القيم النفعية" فلا يعدو كونه تجاوزًا لنسبية الأخلاق ومطاطيتها، فالأخلاق في المجتمعات الدينية نفسها ليست واحدة المصدر إنما هي تنطلق من منطلقات مختلفة وتكون نتائجها مختلفة، ففي المجتمعات الإسلامية السنية تقوم غالبية الأخلاق على الترهيب والترغيب والتهديد بعذاب الآخرة أو عذاب القبر!! لمن لا يلتزم بالقيود الدينية والطمع في الجنة والحور العين لمن يطيع وتختلط هذه الدوافع بقيم العشيرة وثقافة العار والسمعة والوجاهة في المجتمع، كما أن الغرب رغم ثقافته "اللا دينية" ظاهرًا إلا أنها في الباطن قائمة على المسيحية البسيطة واللا مركّبة.
أما المنفعة فهي أساس كل مجتمع سليم قائم على الحقوق، ففي المجتمعات التزاحمية -والتي يصفها المسيري بالتراحمية وهي ليست كذلك- تقوم العلاقات الاجتماعية على المستوى الأفقي للعلاقات، فمثلاً يرتبط وجود الفرد بالعائلة أو الأب أو الأم والأخت بالأخ مما يجعل نظام المجتمع هشًّا وعرضة للانهيار بسبب سيادة المظاهر والمجاملات والتراحم (الظاهري) لكن في المجتمعات العصرية العلمانية يرتبط الفرد بنظام الحقوق العمودي المرتبط بالمؤسسات، بالتالي لا يرتبط الحق -مفرد حقوق- بالآخرين بقدر ما يرتبط بذات الفرد الذي يمتلك حقوقًا، من هنا لا يعكس المسيري نظرة واقعية بقدر ما يعكس عواطفه تجاه الآخر –الغرب- وتحميله مسئولية تخلفنا وفشلنا.

Email: sohel_writer72@yahoo.com

Web: www.sohel-writer.i8.com

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق