CET 00:00:00 - 20/03/2009

مساحة رأي

بقلم / محمد عبد الفتاح السروري
لغوياً (التعصب) مصطلح إشتقاقي من لفظ (عصب) وقد درج الحس الشعبي على وصف الشخص الذي لا يستطيع التحكم في انفعالاته بأنه (عصبي) ومن الإشتقاقات اللغوية أيضاً لمصطلح (التعصب) لفظ (عُصبه) (بضم العين) هذا غير الكلمة المعروفة لدينا جميعاً وهى كلمة (عصابة) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى لا يغيب عن ذوى الألباب ويلاحظ أن غالبية الفروع اللغوية من هذا المصطلح لا تعطي انطباعاً إيجابياً بل أنها جميعاً تصب في قنوات سلبية من المشاعر والأفكار والأفعال.
وللتعصب ملامح وصفات كما أن له أسباب ودوافع (قد يكون بعضها مفهوماً وإن كان غير مقبول أو مُبرر) وللشخص المتعصب أيضاً صفات وملامح ذاتية ونفسية كما قد يكون التعصب في نطاقه الخاص وقد يغلب ويصبح في النطاق العام وقبل كل هذا التعصب في أحيان كثيرة يكون بمثابة رد فعل لتعصب مقابل، مما يجعل الجميع يدور في دائرة لا تنتهي من الفعل ورد الفعل المقابل ويصبح بعدها رد الفعل هو فعل يستلزم رد فعل وهكذا...

وللبحث في خصائص وصفات التعصب يدفعنا لبحث ملامح الأرضية الخصبة التي يستطيع أن ينمو التعصب فيها، والملاحظ أن التعصب لا ينمو ولا يستطيع أن يعيش إلا في بيئة ذات طبيعة عاطفية أكثر منها بيئة عقلانية.
فتغليب العاطفة على الفعل هى أول وأبرز ملامح صفات المجتمع المتعصب والعقلية المتعصبة... فعندما يغيب العقل تحل العاطفة مكانه على الفور والعاطفة بطبيعتها لا تخضع لعقال المنطق على عكس العقلانية التي تبحث في الأسباب كما تبحث في النتائج ولكن العقلية المتعصبة لا تتعامل إلا مع النتائج، ولو أنها (أي العقلية المتعصبة) أقول لو أنها أعملت العقل قليلاً فيما تتعصب له لوجدت في بعض الأحيان أنها يجب أن (تتعصب) للطرف المقابل فقد تكون النتيجة هي بمثابة رد فعل لفعل أوّلي كما ذكرنا من قبل.

وقد يخطئ الكثيرين في الظن بأن التعصب قاصر على فئة دون غيرها أو على أصحاب دين أكثر من غيره، بل الشاهد للعيان أن التعصب طالما وجد البيئة المناسبة لترعرعه فسوف ينمو ويزدهر زهره أياً كان دين أو مبادئ معتنقية، وليس هذا معناه أن الأديان شرط للتعصب أو أنها وبمعنى آخر هي السبب الوحيد له، هذا غير صحيح على الإطلاق فقد يكون التعصب هو أحد السمات الخاصة بأيدلوجية معينة يدور معها حيث تدور، فلقد قرأت مؤخراً لأحد الكتاب المرموقين في مصر أنه طوال حياته لم يجد أسوأ من الشيوعيين تعصباً وتشنجاً في حواراتهم.
ومما يلفت النظر أيضاً أنه قد يقع فريسة للتعصب أصحاب الدين الواحد فقد يتعصب أصحاب كل مذهب أو ملة لما يتذهبون به ضد المذهب الآخر رغم أنهم جميعاً ينتمون لنفس الديانة ويعبدون نفس الإله، ولكنه التعصب الذي لا يعرف للعقل أو لإعتبارات الإختلاف في الإنسان أي تقدير.

من قلة قراءتنا للتاريخ ومن الإنعدام التام لتعلمنا لدروسه قد لا يعرف الكثيرين أن أصحاب الديانة الواحدة عرفوا التقاتل والتناحر والحروب بينهم سنوات طوال، وأن أصحاب الدين الواحد قد قتل بعضهم البعض أعداد قد تتعدى أحياناً أعداد القتلى من حروبهم مع خصومهم، فالتعصب بطبيعته كما أنه لا يعترف بحق الإختلاف مع الآخر لا يعترف ولا يتصور حق الإختلاف مع الذات، ودون ذكر أو الدخول في أمور دينية لا محل لها في حديثنا نُذّكر أولى الألباب بالحروب الطاحنة التي دارت بين المسلمين السنة والشيعة وبالحروب التي دارت بين الكاثوليك والبروتستانت، وفي مقالة بديعة للمفكر الأستاذ/ مهدي بندق قارن فيها بين ما يحدث في منطقتنا الغارقة في بحور الكراهية والتعصب واللاعقلانية وبين دولة مثل أيرلندا التي أستطاعت إن تتجاوز خلافتها المذهبية والدينية وتتوحد حول قيم الوطن، ولأنها عرفت بعد طول التجارب أن الأصل هو الإختلاف وأن الفرع هو الإنطباق تجاوز الشعب الأيرلندي خلافاته المذهبية وما يستتبع ذلك من تناحر ونفور بين أهل الوطن الواحد إلى رحابه التعايش المشترك وآفاق التنمية والإزدهار، أما نحن فلا زلنا في طفولية التعصب نمرح.

التعصب لا يأتي إلا بالخراب والدمار، أما التعايش وتقبل الآخر يتيح الفرصة لقيم مثل المواطنة والتعاون والرفع من شأن تكافؤ الفرص، ليتقدم من هو أحق لا لمن له الغلبة والمنعة.
إن كنّا بصدد كشف عوار هذا المجتمع بغية إصلاحه، يجب أن نعترف أننا نسبح جميعاً في بحار من التعصب يتغذى على معين لا ينضب من خطاب إعلامي وفضائي لا هم له إلا غرس قيم الغرور بالمعتقدات (الموروثة في الأساس)، يتغذى التعصب من معين لا ينضب من خطاب إجتماعي يعلي من شأنه في جميع مناحي الحياة، فالتعصب أولاً للمذهب أو الملة ثم الدين في عمومه هذا غير التعصب الأول للأسرة ثم القبيلة ثم المحافظة، ولا زلنا حتى يومنا هذا ونحن في نهاية العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين لا يزال هناك من يزهو و يفخر بأنه من محافظة كذا ولا يزال بيننا من يتعالى على الآخرين بأنه من هذه الأسرة أو تلك رغم أنه لا يد له فيما هو عليه من هذا الإنتساب (بما فيه الإنتساب للدين الذي ولد فوجد نفسه معتنقه).
الحديث عن التعصب حديث لا ينتهى ولا يجب أن ينتهي إلا بعد أن نحاصر هذا الخلق الردئ في أضيق حدود، وحتى يشعر المتعصبون بأنهم هم (الأقلية) الحقيقية في مجتمع يعلو فيه شأن الإختلاف (الذي هو فطرة إنسانية في المقام الأول).

وفي ختام حديثنا نود أن نلفت النظر أن (التعصب) لا يمكن أن ينمو ويزدهر إلا في بيئة فكرية وثقافية عامة تتيح له هذا النمو الآمن، بمعنى أنه إذا لم تسمح المنظومة العامة للتعصب بأن يجد له مكان فلا يمكن أن يوجد فما بالنا بنموه؟!
إن التعصب الذي نعايشه جميعاً يعد جزء من المنظومة العامة التي نحيا جميعاً في ظلها والذي لم ينجُ منه أحد، فإن التعصب إن لم يجد (الآخر) ليطوله بالأذى والضرر فلسوف يضر أول من يعترض طريقه حتى لو كان من أولي القربى، ومن لا يصدق فليتأمل وقد لا يحتاج أساساً للتأمل أو البحث فالتعصب لا يستأذن أن يخترق الحياة الخاصة والخصوصية الذاتية دون أدب في الألفاظ والأفكار والأفعال، فالأدب صفة لا يتصف بها التعصب ولا المتعصبين من أي دين ومن أي مذهب أو ملة، فهم جميعاً يشتركون في نفس الخلق والمبادئ والأفكار وأيضاً الألفاظ أنهم جميعاً يمرحون في العاطفة المغيبة للعقل والغائبة عن الواقع والغير واعية بدروس التاريخ والجغرافيا.
تحياتى لك يا أيرلندا.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق