العلمانية بين السؤال العبثي واليقين الجامد

سهيل أحمد بهجت

بقلم: سهيل أحمد بهجت
يواصل المسيري تفكيك "العلمانية" عبر الانتقال من الحديث عن سلسلة السلبيات التي أنتجتها العلمانية الغربية -من خلال استشهاده بنماذج من الأدب الغربي- لينتقل إلى نماذج من الفن، يقول الدكتور المسيري:

"من الطريف أن كثيرًا من دعاة التحديث يتحدثون بحماس شديد عن الاستنارة والعلمانية، وكيف أنهما يؤديان إلى تحرير الإنسان وسعادته في العصر الحديث، وفي الوقت ذاته يتحدثون بإعجاب شديد عن الأدب الحداثي الذي يعبر عن رؤية الإنسان الحديث لمجتمعه [نتاج فكر الاستنارة] ويبينون الضياع والخراب والاغتراب..إلخ، الذي يعاني منه الإنسان في العصر الحديث، ولا يربطون بين الواحد والآخر، أذكر أنني كنت أُدرّس فكر الاستنارة مع طلبتي في محاضرة الساعة التاسعة، وتحدثت بحماس شديد عنه، وكيف حرر الإنسان الغربي وأدى إلى تقدمه، ولذا أخذت أبشر به، وفي محاضرة الساعة العاشرة كنت أدرس معهم الأرض الخراب لإليوت وما حدث للإنسان الحديث من تفكيك وعقم، ففاجأتني المفارقة وبدأت في مراجعة كثير من أفكاري".. ثم يضيف المسيري:
ولا يختلف الأمر كثيرًا في عالم الفنون التشكيلية، فبعد لوحات وأيقونات العصور الوسطى المسيحية في الغرب المليئة بالتقوى والورع، تظهر رسوم عصر النهضة الدينية والعلمانية ذات الأبعاد الثلاثة التي ينبع منها الفن الرومانسي والفن الواقعي، ثم يظهر الفن الانطباعي وما بعد الانطباعي، ورغم كل التطورات يمكن القول: إن الفن الغربي منذ عصر النهضة ظل الشكل فيه متماسكًا يحاكي شيئًا ما في الطبيعة المادية أم الإنسانية، ولكن مع بداية القرن العشرين يحدث شيء ما فيتفكك الشكل، ويظهر الواقع الإنساني والطبيعي في لوحات الفنانين على هيئة مكعبات ومربعات ودوائر وألوان متداخلة (في أواخر عرض للوحات موندريان في التيت جاليري [1996] في لندن الذي كان يهدف إلى توضيح تطوره، تتضح هذه النقطة بشكل جلي، يبدأ المعرض بمنظر طبيعي فيه أشجار ومنازل، وينتهي بلوحة مكونة من أربع مربعات وخطين أحدهما أحمر والآخر أزرق، وهي لوحة في غاية الجمال، ولكننا هنا لا نتناولها من المنظور الجمالي، وإنما منظور التطور العام للحضارة الغربية الحديثة، تماما كما فعلنا مع الأعمال الأدبية الأخرى التي أشرنا إليها)" -العلمانية تحت المجهر- ص 39 ـ 40.

إن الفن هو كسائر الأمور الشخصية يمثل انعكاسًا لطبيعة ومزايا الشخصية، فالشخص الكئيب يعبر عن نفسه بالصور واللوحات الكئيبة بينما المتفائل والمرح ينتج صورًا مرحة، وهذه البصمات الشخصية التي تبصم على اللوحة كمزايا وخصوصيات لشخص الرسام لم تكن متوفرة في الفن الإيقوني الديني الذي يكرر في نمطية مفرطة صور المسيح والعذراء والملائكة، والفن الإسلامي -الذي هو تكعيبي وهندسي أكثر من أي فن آخر- يمثل نمطية وتكرارًا للأجسام إلى حد أن الإنسان يفقد شعوره بإنسانيته ويحس وكأن الموجودات تنحصر في المادة وتجلياتها الهندسية الجامدة، وإذا كان هناك فن يمثل "العبثية" في الغرب، فهو يمثل جزءًا من الفن وهو نوع من استكشاف الجديد، فطبيعي أن تنتج مجتمعات التدين التقليدي –التكرار- فنًا ولوحات مكررة هي أشبه بتكرار الأشخاص، فتجد مثلاً مجتمعنا المسلم ممتلئًا بأسماء "محمد"، "محمود"، "علي"، و"عمر" وغيرها من الأسماء وإنها أنماط مكررة، بينما في المجتمعات المسيحية نجد "بطرس"، "ميخائيل"، "بولس"، "يوحنا" و"مرقس" وغيرها من الأسماء التي يزخر بها التراث المسيحي، والأمر ذاته ينطبق على المجتمع اليهودي المتدين.
من هنا كان من الضروري أن ننتبه إلى أن للفنان -كما للأديب- عالمه ولغته الخاصة به للتعبير ولا يمكن لمقياس من المقاييس أن يحدد للفنان والأديب مفاهيم الخطأ والصواب، لأن الفنون -والأدب من ضمنها- هي مجال للتعبير والتعبير لغة سلمية لا يمكن لأي تبرير أن يمنعه من الظهور، إلا إذا كان هناك تعبير آخر يحتوي سلبيات التعبير في الأطر الفنية والجمالية والفكرية، إن سلبيات الحداثة -إن وجدت- لا يمكن أن تستخدم بهذا المنطق التبريري السطحي والذي يحاول عبره المسيري وغيره (كالكاتب مصطفى محمود) إظهار إيجابيات التخلف ليس عبر تزويق التخلف الذي لا يمتلك إلا كل الصفات القبيحة وذلك بذمّ نقيضه -الغرب العلماني المتطور-، وبالتالي تبقى هذه الشعوب الشرقية المسلمة أسيرة الجهل والخرافة والتخلف منتظرة على الدوام الإحسان من الآخرين سواء من الدول الغنية أو المنظمات التي تقدم بعض الأرزاق والأطعمة والملابس.

وهكذا يستمر المسيري في إيراد الأمثلة عن تفكك الأسرة والعلاقات الجنسية التي ليس لها حدود، وكأن بلداننا مليئة ومنذ مئات السنين بالملائكة والفضلاء والمستقيمين أخلاقيًا، مع أن الشرق المسلم يمتلك كمًا هائلاً من عمليات الاغتصاب والاعتداء الجنسي على الأطفال وقتل المرضى عبر الأدوات الملوثة وزنا المحارم والطبقية البشعة وتفشي العنوسة والعجز الجنسي والتعذيب الوحشي للسجناء السياسيين والجنائيين على حد سواء والإعدامات على الشبهة والاغتيالات وخطف المسؤولين لمواطنات وقتلهن بعد الإعتداء عليهن وتهريب المال العام والوساطة والمحسوبية والنهب العلني لأموال الشّعب، كل هذا -وهو قطرة من بحر- موجود في عالمنا الشرقي المسلم ولكنه مخفي عن الإعلام والأفواه مكممة بشأنه ويمنع الحديث عنها، وبالتالي فإنه لا مجتمع بشري من دون أمراض، فللتخلف مشاكله وهمومه وللتطور أيضًا مشاكل وهموم غير أن التطور يبحث لأمراضه عن علاج، أما التخلف فتبريره جاهز لأن "الله تعالى" أراد كل شيء وقدره وبالتالي نحمل القدر الإلهي كل الظلم الجاري على الأرض، ويستمر الحاكم آمنا في استبداده بعد أن ضمن له "الوعاظ" النجاة في الدنيا والآخرة.
يريد المسيري وسائر الإسلاميين أن يقنعونا بأن من الممكن أن نبني "مجتمع الملائكة" حيث لا يكون للجنس والغريزة أي قيمة أو يكون "مهمشًا" بقدر الإمكان وحيث يفرض الحجاب (قسرًا) على المرأة -أقترح أن نسميها كمسلمين بالـ"العورة" بدلاً من كلمة امرأة و"عورات" بدلاً من نساء- ويفرض على الرجال اتخاذ اللحى الطويلة وقضاء الأوقات في الصلاة والعبادات بدلاً من إنجاز إختراع أو عمل لأن الإختراعات تجذب المزيد من "الاستنارة الكافرة"!! أو "الحداثة الملحدة"!! كما يسميها هؤلاء الناقدون.

يبدأ المسيري بعدئذ بتتبع الجذور الفلسفية للعلمانية الغربية فيقول:
بدأت هذه الفلسفة في عصر النهضة الغربي بظهور الفلسفة الإنسانية الهيومانية Humanism التي همشت الإله، ووضعت الإنسان في مركز الكون، وجعلت منه المعيار الأوحد، مقياس كل شيء، مرجعية ذاته، ولكن في نفس المرحلة ظهر إسبينوزا الذي حول العالم إلى منظومة واحدية رياضية مصمتة، الإله فيها هو الطبيعة، وقوانينه هي قوانين الطبيعة والمادة، والإنسان فيها لا يختلف عن أي شيء في الكون، وقد كانت منظومة متفائلة للغاية، إذ يبدو أن إسبينوزا وجد أن هذه الحركة الرتيبة الآلية ذات المرجعية المادية التي تسم عالمه ستحقق السعادة للبشر بشكل ضمني عن طريق امتزاج الجزء الإنساني باللي الآلي المادي، وعن طريق ذوبانه فيه، ولكن ألا يشكل ذوبان الجزء الإنساني في الكلي المادي تفكيكًا للإنسان، لأن الإنسان بهذه الطريقة يُرد إلى ما هو دونه. ثم جاء نيتشة واكتشف أن العالم الذي يصبح الإله فيه قانونًا طبيعيًا، والذي تتحكم فيه حركة المادة هو عالم موت الإله، أي عالم مادي تمامًا لا قداسة ولا ضمان فيه لأي شيء عالم خال من المعنى، محايد، لا قيمة فيه ولا غاية ولا سبب ولا نتيجة، لا كليات فيه ولا مطلقات، ومن ثم لا يبقى سوى إرادة القوة وعالم داروين.." المصدر ـ ص 44

ينظر المسيري إلى القضية الدينية وكأنه ينظر إلى موضوع مصطنع يمكننا صنعه وخلقه كما نصنع أي جهاز أو أداة مثل هذه الأجهزة والأدوات التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية، دون أن يلتفت إلى القضية الإيمانية التي لا يمكن للإنسان إنتاجها بهذه الصيغة، فهو بمجرد تحوله إلى صانع للإيمان فهو يصبح إله نفسه وصانع الدين الذي يفقد قيمته التي تتجاوز الواقع المحدود، من هنا فإن الغربي يبحث عن الإيمان متجاوزًا قانون الطبيعة السطحي والظاهري، وقد كشف علم الجينات الحديث أن كل الناس أبناء امرأة واحدة وهو ما يتفق مع النظرية الدينية للأديان الإبراهيمية، ولكن المسيري يحدثنا هنا من خلال ثنائية حدية فنيتشة هو "ملحد - كافر" ولا يمكن إيجاد أي صيغة بديلة، رغم أن ماكس فيبر يرى أن نيتشة كان يعني أن الإله الأسطوري الخرافي الشبيه بالإنسان هو الذي مات وبالتالي يبدأ البحث عن الإله الحقيقي (راجع: في الفكر الغربي المعاصر ـ حسن حنفي)، فالفلسفة ذات مجال بحثي يختلف عن المجال الديني ظاهرًا ولكنه متطابق معه باطنًا، وهذه الفلسفة العميقة التي ترى في الدين نفسه نوعًا من أبعاد متعددة الأوجه هي التي أوحت للمتصوفين السنة والشيعة والمسيحيين واليهود أن يلتقوا في فضاءات واسعة ورحبة، بينما يريدنا المسيري وهويدي ومن ورائهم الإخوان المسلمون أن نجعل الدين أشبه بالثلاجة والسيارة وسائر الآلات أو جعله كحزب تستطيع الانضمام إليه بمجرد أن تسجل اسمك وتدفع اشتراكا.

و القرآن نفسه يورد عشرات الآيات عن "الخلاص الفردي" مما يعني أن الإيمان وكونه تجربة شخصية لا يمكن صناعته في معمل أو مختبر، بل إن المختبر نفسه يستخدم من قبل العلماء المؤمنين بالله وغير المؤمنين به، والذي أراه وأحسب أنه الصواب هو أن كلا الصنفين مؤمن ولكن الفارق فقط هو أن أحدهما يسمي الإله أو الإرادة السماوية بالطبيعة والقانون الكامن فيها وآخر يسمي القانون بالإرادة الإلهية أو الله، بالتالي فإنه لا إختلاف في أن لهذا العالم هدفا وغاية ولكن الاختلاف هنا حاول إله في العالم وإله مفارق للعالم، فلا توجد حدود واضحة حتى لدى المؤمنين بالدين في التفرقة بين الفعل الطبيعي والفعل الإلهي، ففي الماضي كان المطر والهواء والرزق والعمر وكل شيء يُنسب مباشرة إلى الله والقدر، بل كان -ولا زال في المجتمعات المتخلفة- يؤخذ المصابون بالصرع والشيزوفرينيا وغيرها من الأمراض إلى رجل دين أو واعظ ليرقيهم بالآيات والأدعية، بينما في الدول الحديثة هنالك مستشفيات خاصة لهؤلاء المرضى وكثير منهم يعود إلى الحياة الطبيعية، ولكن الفارق بين التخلف والتطور هنا هو أن المتخلف وهربًا من التفكير والبحث والوصول إلى الأسباب فهو ينسب كل شيء إلى الله والقدر، وهذا بالتأكيد واضح كون هذه المجتمعات تستمر في الإنهيار دون أن تعثر على علاجات وحلول لمشاكلها، وأثبتت معدلات الأعمار والصحة العامة أن بإمكان الإنسان أن يمد في عمره بشكل عام من خلال توفير أسباب الصحة والخدمات والراحة، وإذا ما حدث وتسبب شخص أو شركة أو مؤسسة في وفاة أو إصابة شخص ما بعاهة فهو ملزم قانونًا بدفع تعويض وأن يتحمل عقوبة تناسب حجم الجرم، وإذا كانت الحياة نفسها سلسلة من الأسباب والمسببات كان لزامًا على هؤلاء أن يضعوا لنا حدًا واضحًا بين الفعل الإلهي والفعل الطبيعي وهو أمرٌ غير ممكن حسب ما نراه الآن.

sohel_writer72@yahoo.com