صيفية علي شاطيء الحيرة‏!‏

بقلم: مفيد فوزي

كلما أعددت حقيبتي وهممت في السفر‏,‏ اكتشفت أنني أحمل معي همومي حيثما ذهبت‏,‏ علي شاطيء الجونة أو شاطيء كابري أو مصيف جمصة‏,‏ وليس معقولا أن أترك قلبي في القاهرة وأتحرر من عقلي لأبدو خفيفا رشيقا‏,‏ الواقع أننا مهما ارتحلنا‏..‏ تسافر معنا همومنا علي نفس ذات الطائرة وتقيم في نفس ذات الفندق وتنام وتصحو معنا‏..

‏ ويتبلور في الذهن معني‏(‏ الاجازة‏)‏ إنه مجرد تغيير في الوجوه وكسر لنمط التعود علي عادات بعينها‏,‏ تري العين صورا أخري وتسمع الأذن أصواتا أخري ويستنشق الإنسان هواء آخر‏,‏ لكن ذلك لا يمنع إقامة الهموم في فندق الذاكرة‏,‏ حيث تعرض لي شاشة الذات صورا ومشاهد بعيدة وكنت أظن أنها سقطت من ذاكرتي لكنها باقية ويدهشني استدعاؤها‏,‏ أنا من ذلك النوع من البشر الذي لا يكف عن‏(‏ المنولوج‏)‏ مع نفسي و‏(‏الديالوج‏)‏ مع الآخرين‏,‏ هناك تراكمات ألم تنغص علي متعة السفر كأن أتذكر حالات غدر أو حالات تحول وهنا أطفئ هذا الحريق بالعقل‏..‏

مدركا أن لوحة الحياة لا تخلو من خطوط عبثية بريشة النفس البشرية‏,‏ انهمك مع الأصدقاء والصديقات رفقاء السفر ولكن ذلك لم يمنع الجدل الذهني بيني وبين عقلي‏,‏ لقد كان الايطالي مورافيا يقول‏(‏ الرحيل يلهيني ويحررني‏)‏ فهل الرحيل يلهي ويحرر أم أنه يلقي بي علي شاطئ الحيرة؟

شاطئ ليس له عنوان وليس له بحر ورمل ترسو عليه قوارب ويخوت‏,‏ شاطئ الحيرة ممتد بسعة الأفق وربما ضيق كثقب ابرة ومن خصائص شاطئ الحيرة أن السباحة فيه مع التيار أو ضده‏,‏ هاجت الأمواج أو كانت خافتة‏,‏ لا راية سوداء في هذا الشاطئ تحذر من العوم‏‏ أتمدد علي شاطئ الحيرة في هذه الصيفية وأقيم حوارا جدليا ذهنيا‏,‏ فربما كان الجدل الذهني من شروط المعرفة‏,‏ ولكن هل هذا الجدل فيه متعة؟ إن لذة‏(‏ المقامر‏)‏ أكثر متعة‏,‏ ولذة‏(‏ السباحة‏)‏ أكثر متعة‏:‏ ولكني أجد المتعة في الفرجة علي أحواض السمك وكأني أشاهد لوحة الحياة لهذه الكائنات‏,‏ أجد المتعة في مشاهدة فيلم بوليسي يسمرني في مقعدي ويشركني في الاحتمالات‏,‏ ساعتها يكف ذهني عن الجدل‏,‏ غريبة‏,‏ ألا نعرف في حياتنا ألف باء ثقافة الفرح‏..‏؟ هل صار الضحك شحيحا في الأسواق؟ واذا تحررت قليلا من همومي الخاصة الساكنة القلب ولعقل‏,‏ فلا أستطيع التحرر من الهموم‏(‏ العامة‏)‏ لوطن أسكنه ولا أملك أن‏(‏ اشتري دماغي‏)‏ وأجلس في مقاعد المتفرجين أو انسحب‏.‏

أتمدد علي شاطئ الحيرة وقت الأصيل‏,‏ أجمل ساعات النهار عندي‏,‏ واتساءل في جدل ذهني‏,‏ عند نقاشنا‏,‏ ماذا يجري في المجتمع؟ هل نتمسك بوثنية الماضي؟ هل يأتينا البصر حادا بينما نفقد البصيرة أمام الجديد والحديث؟

أسمع أصواتا ـ عبر الجدل الذهني ـ تقول‏:‏ عندما يئن الجهاز الهضمي من الجوع‏,‏ فلا مجال لعقل أن يفكر ولا مجال لمخاطبة جائع بقيمة الانتماء والمشاركة‏,‏ إن الضغوط تحاصر إنسان هذا العصر‏,‏ فأنا لا أستطيع‏(‏ أن أنام مطرح ما يجيني النوم‏)‏ وليس صحيحا‏(‏ محلاها عيشة الفلاحة‏)‏ ولا عادت الحبيبة تقول‏(‏ يامسافر وحدك وفايتني لمين؟‏)‏ فالنوم أمل لمعظم الناس في زمن الأرق‏,‏ وعيشة الفلاحة هباب بعد أن دخل الدش وهاجرت للبندر‏,‏ والحبيب اينما سافر يدركه الموبايل الذي ذبح الأشواق‏.‏

أتمدد علي شاطئ الحيرة وأفكر‏:‏ هل بالفعل للحرية مساوئ أقل بكثير من كبحها؟ وهل نهوي تفريغ أحزاننا في الآخرين وتمزيق ثيابهم لنستريح؟

أتمدد علي شاطئ الحيرة وأفكر في المرأة‏..‏ رهينة مزاجها‏,‏ فبعد قليل هي امرأة أخري وبعد كل قيد تكسره هي امرأة ثالثة‏,‏ وفي أعقاب أي جرح‏,‏ هي امرأة رابعة‏,‏ ولكن من هي بالتحديد؟ هل كل هؤلاء النساء في واحدة؟ هل هناك مسميات أخري في التعامل معها؟ الاجابة‏:‏ نعم‏,‏ نحن الرجال نقول علينا باحتوائها والصحيح هو علينا بترويضها‏.‏

أتمدد في الصيفية علي شاطئ الحيرة‏,‏ وأفكر في‏(‏ أحوال‏)‏ البلد‏,‏ أفسر‏(‏ الصخب‏)‏ المتعالي هنا وهناك‏,‏ سبب الصخب عندي اننا ـ كعرب ـ ظواهر صوتية‏,‏ أتساءل‏:‏ هل نحن قادرون علي‏(‏ الهمس‏)‏ حين نفسر أنفسنا؟ الإجابة‏:‏ لا‏,‏ لان الهمس لغة للنطق‏,‏ وليس المنطق في قاموس حياتنا‏,‏ وأتساءل‏:‏ هل المغامرات الفكرية والأدبية التي تتعرض للثوابت الدينية الوجدانية‏..‏ تحسب للابداع أم تنتقص من رصيد الثوابت؟ وهل‏(‏ القبلية‏)‏ جزء من نمط أفكارنا أم هي من أخلاق العصر الزراعي؟ ولماذا نحن‏(‏ مفتونون‏)‏ بحضارة الماضي وآثار الماضي وتاريخ الماضي وفن الماضي‏,‏ أليس لنا‏(‏ حاضر‏)‏ يفتننا؟ وماذا بعد الفتنة؟ هكذا تساءلت وأنا وحدي بعيدا عن أرض الوطن‏,‏ الشهرة والمجد والثروة والسلطة‏,‏ نتطاحن من أجلها ولا ندري أنها‏(‏ تطحننا‏)‏ ولا يبقي منا سوي هياكل آدمية‏.‏

أتمدد علي شاطئ الحيرة‏,‏ أسبح بعقلي في بحار الفهم‏,‏ أنزل أعماقا ولا أغرق وأنا الذي لم أتعلم السباحة‏,‏ تصادفني أسماك القرش من البني آدمين‏,‏ أرتمي ـ بإيمان بلا حدود ـ بين يدي الخالق أطلب منه الصفح والصلح والتصالح مع النفس‏..‏ لأتصالح مع العالم‏!‏

*نقلاً عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع