القمص اثناسيوس فهمي جورج
كان اوغسطينوس شقياً ميالاً للشهوات وملاهى الفجور والسقطات ، لكن امه مونيكا القديسة ترجت رجوعه ببكاء لعلها تراه مسيحياً قبل موتها ... لقد كانت حياته هزلية لاهيه تتمرغ فى وحل الخطية ، حتى تقابلت ارادته مع عمل النعمة الالهية فى قراءته لرسالة رومية ، وفى استماعه لعظات القديس امبرسيوس اسقف ميلان وتفسيراته للعهد القديم ، ثم اعجابه بسيرة القديس انطونيوس الكبير بقلم البابا اثناسيوس الرسولى .

صار مسيحياً ونال نعمة المعمودية على يد القديس امبرسيوس اسقف المدينة ، حيث اظهر بحياته المنظورة وبسلوكه النعمة غير المنظور التي غيرته وحولته . سلم نفسه لدموع التوبة الحلوة ذاكراً امه التى عومت فراشها كل ليلة بدموعها من اجل خلاصه ورجوعه ، واثقة في مراحم الرب ورأفاته التي لاتفرغ ، و ان ابن هذه الدموع لن يهلك ابدا ، عند من لايشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا .

سيم كاهناً ثم اسقفاً واهتم جداً بالمصالحات والمرضى والضعفاء والمضطهدين . علم باعماله وسلوكه كما علم بعظاته وكتاباته وتفاسيره لاسفار التكوين والمزامير والرسالة الاولى ليوحنا والموعظة على الجبل واتفاق الانجليين والرسالة الى اهل غلاطية ورومية وانجيل القديس يوحنا اللاهوتي ، كذا دفاعاته الجدلية والرد على الاكاديميين ، واعترافاته وخواطره الفلسفية ودحضه للبدع المانية والدوناتية والبلاجية . اذ اعتبر ان الكنيسة هي بيت الخلاص الوحيد القائم علي ذبيحة الصليب ، ولاتقبل اي عطية او نبوة او تعليم او صلاة او تسبيح الا بالايمان الصادق والتعليم النقي السليم .

لقد ذكر ان الرب ارسل يده من العلا ونجى نفسه من الهاوية السفلى ، فيما كانت امه باكية على فقده ، حتى استجاب لها العلي ، ولم يحتقر دموعها التى روت الارض ، وقد رفضت العيشة معه بسبب مسباته وعناده وتجاديف ضلاله الفاسدة ، لكن الله سمع انينها وامال اليها بأذنيه ، فأعتنى بابنها كأن لا يوجد غيره فى العالم ، ورده من لجة السقوط والعصيان حتي قبل التعليم ، ورجع عن النفخة الكاذبة والعبثية ، ليذوق عذوبة صلاح الله وحلاوته التي ادخرها للذين يخافونه ، ويقول بوسيديوس كاتب سيرته : ان اغسطينوس كتب مزامير التوبة السبعة ( ٦ ؛ ٣٢ ؛ ٣٨ ؛ ٥١ ؛ ١٠٢ ؛ ١٣٠ ؛ ١٤٣ ) ووضعها امامه بطريقة يمكنه بها ان يراها وهو علي فراشه في قلايته .. حيث كان يرتلها باكيا الي نفسه الاخير ، بعيون مثبتة لحين انتقاله الي راحته الابدية .

ان اغسطينوس ابن هذه الدموع لن يهلك ابداً ، والله الذى جبلنا هو الذى اراحه واصلحه وعلمه وهداه وأفهمه ودعاه وعرفه مقاصده ، ثم افاض عليه ورفعه وملء كيانه وطهره بصلاح واقتدار . وبدلاً من الموت والضرر والضلال والميول المظلمة صارت له الحياة النورانية والنفع والتوق للتعزية بالرحمة ، تاركاً المضاجع والعهر والسكر والبطر لابساً اسلحة النور . متوسلا لله كي يرجع ويكمل رجوعه لبلوغ النجاة من جحيم الشرور ، وقد اغرق بدموع توبته وبلل اعماق قلبه الداخلية . لقد تخطي ووثب علي الاشياء المائتة وترك مباهج الباطل ووطئ بقدميه سفسطة العقلانية المادية ، ليشبع بناموس انفاس الله ، متجولا في اعمال تدابيره الصادقة ، لكنه كان حذرا حافظا للاتضاع علي الدوام يخشي السقوط . مصليا للذي خلقه كي يجدد خلقته من جديد مفتخرا ومتقويا بالرب ، الذي حرره من ضعفاته وخطاياه قبل رحيله من العالم ، حتي لا يذهب باثامه وجحوده فيحرم من بركة المدينة السعيدة ، حيث القديسون شركاء الحق الذي لايتغير .

لقد سجل اغسطينوس خبرته الروحية فى كتاب( الاعترافات ) وفى ( خواطر حياته ) ، كتب عن سرقاته ودونيته الفاسدة وشقاوته وولعه بالتمثليات المسرحية وعن مخالطته للمجرمين والسحرة والعرافين ، كذلك كشف عن كيف اعترضته بعض المشاكل فى فهم الكتاب المقدس ، واقتباله لتصورات خاطئه عن الله .

هذا ويعتبر كتاب " اعترافات اغسطينوس " من اشهر كتب السير الذاتية فى الادب العالمى ، وكذلك كتابه " مدينه الله " من اهم الكتابات فى فلسفة التاريخ .

شهد عن تفوق المعرفة الالهية الحقة على كل الفلسفات الزمنية ، ورأي انها درب الخلاص الوحيد فى الذاكرة والزمن والتاريخ حسب رؤية واسعة للتراث والهوية ، بعد ان فهم نبوات العهد القديم كمسيرة نحو المسيح يسوع مشتهي الاجيال كلها ، وهكذا وجد المفتاح لفهم جمال وعمق وفلسفة الخلاص بفهم كامل لوحدة سر المسيح فى التاريخ وايضاْ التألف بين الفلسفة والايمان باللوغس الكلمة فى المسيح الكلمة الازلى المتجسد .ان اغسطينوس علم من اعلام الفكر المسبحي و رائد من رواد الفلسفة المسيحية ، الذي اشتهر بالبلاغة والفلسفة والاسلوبية العميقة فى تحليل النفس الانسانية ، لذلك ربط في كثير من الاحيان بين الايمان واليقين العقلى ، وقد صنف ضمن المحلليين والمفكريين الروحيين فى الكنيسة الكونية المسكونية كاحد القمم الروحية والنسكية . اما في فلسفته للتاريخ فقد اتخذ من العقيدة مصدر لتفسيره ، واتخذ من التاريخ دليل على صدق العقيدة وبرهان الايمان ، انطلاقاً من فهم التاريخ ظاهره وباطنه على اعتبار ان التاريخ الظاهر هو رمز للتاريخ الباطن ، اما التاريخ الباطن المقدس فهو الذى يفك رموز التاريخ الظاهرى ، فوظف التاريخ المقدس لفهم الايمان العقيدى ، معتبراً التاريخ الحاضر ابتداء لمدينة الله الابدية .

رأى ان فى الكنيسة تحقيق النبوات القديمة والكمال والمعجزات الواقعية والكرازة المنتشرة للامتداد ، فوجدها فلك وام وصورة المسيح وجسده السرى ، لذلك اعتبرها الفردوس الالهى وانهيارها فى الاناجيل الاربعة واشجارها هم القديسين وثمارهم متأصلة فى شجرة الحياة وقدس الاقداس .

وضع تصوراً رائعاً عن الطبيعة البشرية وعمل النعمة ، وكيف انها بعد السقوط صارت مريضة ومعلولة وفاقدة للتعقل والمعقولية ، ولا شفاء لها إلا بخلاص الطبيب يسوع المسيح وبنعمه بره المجانية ، التى بدونها لن يخلص احد ، نعمة لا توهب لاجل استحقاق منا ، لكنها ممنوحة مجانية من اله المراحم والرأفات لكل من يقبلها بلا اعوجاج او إحلال ، ولكل من يتجاوب معها ويقبلها سالكا بموجبها ، كذلك وضح الفرق بين الحكمة النازلة من فوق كونها طاهرة مسالمة مترفقة مثمرة روحانية ، وبين الحكمة الجسدية النفسانية المتغيرة ، لان الارادة الحرة افسد بها الانسان نفسه بزهو غطرسة الذات . لكن اغسطينوس وجد ان الالتحام بالحكمة الالهية يجعل النفس تنير بالاشتياق وبالاشراق الداخلي ، لمن يوجد في المسيح كل حين ، فتتحول عينيه لرؤية بهجة الخلاص في سباق الحكمة حسب الوعد المضمون ، للذين ينتظرونه بصبر .