القمص اثناسيوس فهمي جورج
بفعل الترابط الإلكتروني والفضائيات صار الإنسان الكوني يعيش في القرية العالمية، وصارت السبل بها ممكنة لربط الناس في جميع أنحاء العالم؛ في مجتمعات موزعة جغرافيًا؛ لتبث شعورًا جمعيًا في نفوس الناس المنفصلين جغرافيًا؛ حيث تتكثف العلاقات والرسائل عبر الحدود.. فهذه الرسائل البصرية جزء من لغة ورموز أصبحت صيغة يقرأها الذهن، وتستعاد بالتفكير مرارًا؛ بعد زوالها من شبكية العين (الصورة / الصوت/ الكلمة = الدال، المعنىَ = المدلول).. وتتضمن الصورة الفضائية ثلاث رسائل (رسالة لغوية/ رسالة دلالية/ رسالة تأويل).

ثقافة الفضائيات البصرية تبني واقعية الحياة اليومية، وتزيد الوعي بما يجري حولنا لاستقراء الغايات، وتبقىَ وثيقة هامة لتشكيل العقول والوجدان؛ لأن الصورة الذهنية البصرية تحتل حيزًا كبيرًا في حياتنا، خاصة في زمن الصورة، (زمن العين)؛ الذﻱ فيه صارت وثيقة هامة للرؤية بما نملكه من خبرة ومعرفة، تمكِّننا من تكوين الانطباعات؛ كل من زاويته... بصرنا يساهم في بصيرتنا وفي تكوين حجتنا واستبصارنا في الأشياء.. فهناك ارتباط شديد بين البصر والمعرفة. وقد حلت ثقافة الفضائيات مكان الكلمات كعامل مهم في الاتصال الإجتماعي؛ لان القراءة تخسر مواقعها أمام المشاهدة ، فالأفكار تصبح صورًا مؤثرة تؤسس للتيقن الذهني وتثقيف المتلقي إدراكيًا، وتحليل رسالة الصورة في نقل الواقع ومعرفة المعاني.

وفقًا لمنهج السميولوچيا (علم العلامات) تكون الصور هي مجموعة من العلامات تربطها المشاهد بطريقة ما؛ فتكون قابلة للتذكر وممكنة التعريف والتحديد؛ حيث يجلب المتلقي كمًا من المعلومات والافتراضات التي يستمدها بشكل إطرادي؛ مما جعل ماضينا وحاضرنا سجلاً بصريًا، ويجعل التقنيات ليست مجرد اخترعات يستخدمها الناس؛ بل هي وسائل يعاد اختراع الناس بها.. (مَنْ؟ المتصل) ، (ماذا يقول؟ الرسالة) ، (في القناة/ وسيلة الاتصال) ، (لمَنْ؟ المتلقي) ، (ماذاينتج عنها؟ / مؤثرات).

من هذا المنطلق لا بُد أن تكون الفضائيات المسيحية منارات إشعاع بالتكليف الإلهي للكنيسة عبر الفضاء الكوني لتأهيل شعبها للشهادة من دون انغلاق أو انكفاء؛ لمواجهة الاحتياجات المركبة للمسيحيين المصريين، سواء داخل مصر أو في كنائس المهجر، بتقديم شهادة مسيحية حية للعالم (كأن الله يعظ بنا)، على اعتبار أن فضائيات الكنيسة سفيرة؛ وضمير العالم وصوت الله فيه.الذي يحول الموت الي حياة ابدية بحفظ الاختيار الحر وقبول نعمة الخلاص العحيب ؛ وتمجيد الله في ليتوجيا الجسد والروح ( مجدوا الله في اجسادكم : وفي ارواحكم معا ) ١كو ٦: ٢٠.

في أحيان كثيرة تصير الفضائيات في غير صالح الكنيسة؛ لو اكتفى المؤمنين بالفرجة؛ وكأن الوجود أمام التلفزيون هو (عبادة)، فنعيش كمشاهدين مكتفين بمشاهدة الصلوات؛ بينما العبادة هي حياة وإنسكاب وشركة وارتباط ببيت الله.. فجيد أن نشاهد؛ لكن الأهم هو أن لا نكتفي بقداس وتسبحة وعبادة كنسية افتراضية؛ بينما المسيحية ليست أفكارًا ومناظر ومشاهد وتصورات، لكنها ملء الحياة والروح، فالفضائيات ليست بديلة عن السُكنىَ في بيت الله. لنكون مغروسين في ديار الهنا متذوقين اسرار خيراته غير الموصوفة ؛ بالخبرة الكنسية المستقيمة التي هي وحدها القاعدة الكيانية للبناء .

كذلك مساحة الوقت الكبير التي أحيانًا تقدم موادًا ليست على المستوي المناسب، تحتاج الي اعادة النظر في هيكلية وتهديف البرامج الفضائية المسيحية، لاحداث نقلة جوهرية في مسارها، كي تنطلق نحو الهدف وتصحيح الطريق لاغتنام المنجزات العصرية وتوظيفها لمجد الله وبنيان ملكوته . هذه التحويلة (U Turn) هي النقطة الفاصلة تجعلها أكثر دسامة وإبداعًا وإتقانًا مميزًا، بمراجعة ١- رؤيتها ٢- رسالتها ٣- أهدافها ٤- برامجها ٥- خطة عملها ٦- تحديات عملها. العبرة ليست في زيادة عدد الفضائيات؛ لكن في صياغة أهدافها الذكية لتكون أكثر مواكبة وفاعلية. ليس مجرد بث فضائي؛ لكن بمنهج الإدارة بالنتائج (بالثمر)؛ لأن من الثمرة تُعرف الشجرة (مت ١٢ : ٣٣).. أعتقد أنه لا بُد للفضائيات المسيحية أن تقوم بعمل تخطيط للأثمار ثلاثين وستين ومائة؛ لتتواصل بوجه عصرﻱ، تتابعه وتفوقه ؛ لتنقل مجمل العمل الحيوي لحضور المسيح الخلاصي وسط عالم مائت .

ولا بُد أن تفحص الفضائيات المسيحية إلتزاماتها المطلوبة؛ لتحفظ وتعمِّق دورها الكرازﻱ والرعوﻱ، فتخرج خارج المحلة حاملة عار المسيح، وتطرح شباكها لتجمع وتضم إلى الملكوت الأبدﻱ، وتساهم في قيادة العالم ليتجاوز نفسه، وترتفع به فوق ذاته ليبلغ إلى العالم الجديد (المدينة الباقية)، ليعلن المسيح ذاته للعالم من وراء كل قفزة وفقرة؛ وكل تغيير وتحديث يمُوج به، خاصة في هذه العقود الأخيرة.