بقلم – روماني صبري 
 
استقبلت البشرية اختراعات القرن التاسع عشر، بقلب ينبض سعادة، حيث ساعدتهم هذه الاختراعات على احترام أنفسهم بكيفية أفضل، كما كانت تعويضا غير مسبوق عن فترة حكم فرسان الظلام الذين وصلوا بأرواحهم إلى حد الخطر وأشد التعصب لاسيما في الشرق، فجعلوهم يجمعون أكوام الحطب ويتباركون منها أملا في الشفاء - على سبيل المثال والمزحة - ، ومن ابرز هذه الاختراعات : فرشاة الأسنان عام 1857 لهيرام نيكولز ، جهاز التبريد ( الثلاجة ) 1878 لكارل فون ليند، الصابون السائل عام 1865 ويليام شيبارد، فضلا ماكينات المصانع الضخمة، واختراع توماس أديسون للمصباح الكهربائي عام 1880، ولكن كيف أستقبل البشر اختراع الكاميرا الذي مكنهم من التقاط الصور الثابتة وتحريكها ليعرف العالم بعدها السينما ؟
 
نيبيسي .. وأول صورة فوتوغرافية 
 
 
 
نجح عالم الكيمياء "نيسيفور نيبيسي" في العام 1826من التقاط أول صورة فوتوغرافية لمباني العاصمة الفرنسية باريس وهو داخل معمله، بعدما خلص إلى أن مركبات الفضة تنتشر بعد تعرضها للضوء.. وبالفعل أستخدم في صورته عجينة وعرضها للضوء فترة طويلة وبهذا حصل على صورته ، لكن للأسف فشل في الاحتفاظ بالصورة ، لم يؤرقه ذلك ولم يطفح الفشل داخله إذ قال آنذاك "ربما" :" التقاط الصور ليس من اختصاصي سأترك هذه الأبحاث وأتفرغ لعملي .. على أي حال لقد اخترعت الكاميرا "، لكنة سرعان ما تراجع عن قراره عندما التقى ابن موطنه الرسام والعالم "داجير"، والذي كشف له اختراعه الجديد الذي يلتقط الصور فقط .. تعاون الاثنان معا وتوصلا لنتائج ايجابية ، لكن حصد الموت روح "نيبيسي"ليودع الحياة تاركا كل أبحاثه لصديقه الرسام  .
 
 "داجير" يفعلها
 
 
 
 في عام 1839 استكمل العالم الفرنسي " جاك داجير"، كل أبحاث "نيبيسي" حول الصور الفوتوغرافية لينجح في العام ذاته من التقاط مجموعة صور لشوارع وطرقات باريس، ويحتفظ بها، ونتيجة لجهوده هو ونيبيسي خصصت الحكومة الفرنسية معاشا شهريا له ولنجل نيبسي.. بعدها كشفت فرنسا عن اختراعها الجديد الذي سيغير العالم ويوثق جرائم البشر وتاريخهم المليء بالغموض والانتصارات الايجابيات والحضارات وما إلى آخره ، من خلال البروفيسور "أراجو" - رئيس أكاديمية العلوم الفرنسية- آنذاك ، والذي علق قائلا :" آه لو كان تمكن هذان العالمان من اختراع الكاميرا وقت الحملة الفرنسية على مصر ، وقتها فقط كان سيلتقط نابليون بونابرت البومات من الصور لمصر توثق فترة حكمه .. هذه الفترة الهامة وكيف كانت مصر قبل وبعد الحملة،.. لكن على أي حال لازلنا نستطيع التقاط الملايين من الصور للمعابد والأماكن التاريخية في مصر لاسيما المعابد المليئة بالحروف الهيروغليفية في طيبة .. والتي أرسلنا مئات الرسامين الفرنسيين طوال العشرين عاما لرسمها .. لكن يستطيع الآن رجل واحد أن يلتقط الملايين من الصور للمعابد الفرعونية في طيبة دون أن يستبد به التعب وتطفح به المعاناة كما يحدث دائما للرسامين بفضل الكاميرا ، فضلا عن رصد نهضة مصر في عهد محمد علي باشا .
 
هذا شيطان ! 
 
بعد مرور شهرين على إزالة النقاب عن اختراع داجير ، رحب محمد علي باشا - مؤسس مصر الحديثة- على مجيء الرسمان والمستشرقان الفرنسيان هوراس فيرنيه وفردريك نيسكيه بالكاميرا وكانا برعا وقتها في فن التصوير.. يوم السادس من نوفمبر عام 1839 وصل الرسمان إلى الإسكندرية حاملين كاميرا داجير، وبعد مرور يوم واحد، التقطا صورة أمام محمد علي باشا في قصر التين ، وكتب نيسكيه في مذكراته حول هذا الحدث :" وصلنا إلى قصر رأس التين في تمام الساعة السابعة صباحا .. كنا أعدنا كل شيء مسبقا مثل تجهيز اللوحة الفوتوغرافية بالكاميرا ، حتى لا يبقى سوى إدخال ( الكليشية) بالغرفة المظلمة وكشف الصورة في الزئبق .. يومها رأيت والي مصر ينظر ألينا ويرمقنا بشدة وراح يذرع المحيط جيئة وإيابا ذاهلا .. وضع يديه خلف ظهره كما كان يفعل نابليون ولم يترك سيفه واستبد به أشد الصمت .. بعدها نادى رجاله لمشاهدتنا .. وجهنا الكاميرا صوب الطبيعة فرأى الجميع الصورة المنعكسة على الزجاج المصنفر بالكاميرا ما جعلهم يذهلون كالوالي ، بعدها استبدلنا الزجاج نصف الشفاف وعندما حان الوقت للإظلام لوضع " الكليشيه" بالكاميرا لمعتا حدقتا الوالي ودارتا بكيفية غريبة في مداريهما ، أما الآخرين فوقفوا صامتين إزاء خوف قاس، لكن سرعان ما اختفى هذا الصمت بعد صوت اشتعال كبريتة كيمائية انعكس وميضها الفضي على الوجوه البرونزية .. كان الوالي واقفا على مقربة من الكاميرا فرأيته يقفز وراح يحرك حواجبه الكثيفة البيضاء وصرخ على مرأى من الجميع قائلا :" كيف ذلك .. ما هذا !؟ .. ما هذا الذي رأيته ! .. هذا بالتأكيد من عمل الشيطان!! انه تصوير للواقع دون ريشة .. نعم هذا شيطان." 
 
فردوس المصورين 
وقال الكاتب المصري عرفة عبده علي في مقدمة كتابه “سحر مصر.. صور من الزمن المفقود.. 1850-1900” إن أول صورة التقطت في مصر كانت في السابع من نوفمبر 1839 للمصور المستشرق الفرنسي هوراس فيرنيه الذي اشتهر برسم المعارك والحروب، وكانت الصورة تمثل مشهدا من جناح الحريم خلال استقبال محمد علي باشا والي مصر لفيرنيه في قصره بالإسكندرية والذي علق على تلك الصورة في دهشة ملحوظة بقوله: هذا من عمل الشيطان
 
موضحا:" إن طائفة من الرحالة الأوروبيين من فنانين وكتاب من أصحاب النزعة الرومانسية” جاؤوا إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر مزودين بخلفيات من كتابات المستشرقين ولكن الجانب الجمالي طغى على اهتمامهم،وأرجح أن الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 بقيادة نابليون بونابرت كانت النموذج الأكمل للمصادرة العلمية التي تمارسها ثقافة أقوى في إطار الاحتواء الاستشراقي الفرنسي لمصر وأن الاحتكاك الحضاري بين الشرق والغرب في القرن التاسع عشر أدى إلى إعادة النظر في المعرفة الغربية للشرق،وكشف إنه بسبب الولع الأوروبي نالت مصر اهتماما خاصا من المصورين الأوائل وأغلبهم من البريطانيين والفرنسيين والأرمن الذين قاموا بعملية التوثيق المرئي وإنه بنهاية القرن التاسع عشر أنتج المصورون المحترفون والهواة عشرات الألوف من الصور عن مصر التي لم يبق منها إلا القليل.
 
مستشهدا بكتاب "رحلة من كورن هيل إلى القاهرة الكبرى" للبريطاني "وليم ثاكري" إذ قال :" لي أن أصف شوارع القاهرة واختلاف مواقع الجمال المثيرة للخيال والتنوع الباهر في أساليب العمارة وطرز البيوت والمساجد وذلك التبادل الرهيف بين الأضواء والظلال فالقاهرة هي فردوس المصور تنتظره فيها ثروة هائلة يجنيها إذ تنبسط أمامه موضوعات يمكن أن تشغل أكاديمية فنون بأسرها، ومن هذه الصور منظر لمشربيات قصر المسافر خانة الذي بني في نهاية القرن الثامن عشر وسكنه ولاة وأمراء في القرن التاسع عشر ثم تحول في ستينات القرن العشرين إلى مركز ثقافي للأدباء والفنانين التشكيليين وتعرض لحريق عام 1998 ولم يبق منه شيء، ويحتوي الكتاب صورة لواجهة فندق شبرد القديم الذي شيد في أربعينات القرن التاسع عشر في حي الأزبكية بوسط القاهرة ثم أتى عليه حريق القاهرة الذي التهم يوم 26 يناير 1952 مئات المحال في العاصمة. 
 
ينتصر العلم 
كان من الطبيعي على محمد على باشا أن يغلبه الذهول وعدم التصديق انه من المستحيل تسجيل الواقع كما هو من خلال هذا الجهاز ودون الاستعانة بالريشة والألوان ، وربما قال ذلك وقتها تعبيرا عن إعجابه وانبهاره بكاميرا داجير فهول من الأمر بقوله أن ثمة قوى شيطانية وراء ما رأيت ، لكن على أي الحال طالما رحب مؤسس مصر الحديثة بالحداثة والعلم واستضافته للمستشرقان الفرنسيان يعكس ذلك بشدة .. ولكن كيف استقبل الباريسيين الصور الفوتوغرافية المتحركة ؟ 
 
أخوان لوميير - تحريك الصور الثابتة ( السينما توغراف)
 
 
شهد عام 1895 اختراع (السينما) -جهاز العرض السينمائي- من قبل الفرنسيان أخوان لوميير، عندما توصلا للحركة القريبة من الحركة الطبيعية فشرعوا على الفور في تصوير أفلامهم ، وذلك عن طريق تحريك 16 كادر من الصور الثابتة في الثانية الواحدة، لذلك كنا نشاهد الحركة في الأفلام الصامتة سريعة بعض الشيء ولا توافق حركة الإنسان والأشياء على أرض الواقع، قبل توصل السينمائيين بعد ذلك بسنوات من خلال التجارب والأبحاث للحركة المشابهة للواقع وهي تحريك 24 كادر من الصور الثابتة في الثانية الواحدة .. في نفس العام صور لوميير أول أفلامهم وكان بعنوان " خروج العمال من المصنع" ، أعقبه "وصول القطار إلى المحطة"، حيث قاما بتصوير القطار من زاوية قاما بدراستها جيدا قبل وضع الكاميرا التي أظهرت مقدمة القطار في خلفية الكادر أولا، ثم ظهرت باقي عربات القطار كلما اقترب من الكاميرا، وهو الأسلوب الأكثر استخداما حتى يومنا هذا في تصوير مشاهد القطارات في السينما، فولدت السينما التسجيلية التي رصدت حياة الناس على أيدي إخوان لومير، فحملها الإنسان الأدب ومشاكله، واستخدم الكاميرا السينمائية في تصوير مسرحيات شكسبير آنذاك.
 

 
قرر لوميير عرض أول شريط سينمائي بصالة - جراند كافيه - في باريس بواسطة اختراعهم اله العرض السينمائي ( البروجوكتور)، وأرجحوا وقتها أن المشاهدين سيحملونهم على الأكتاف مهللين :" لقد اخترع هذان العظيمان جهاز يمكنه رصد الواقع المتحرك، لكن بمجرد عرض الفيلم ، نزلت الوحشة والخوف بالحاضرين فهربوا من الصالة صارخين :" هذا الاختراع من صنع الشيطان" ذهل الباريسيين تماما من السينما، كما فعل محمد علي مع اختراع داجير، لكن من المؤكد أنهم أحسنوا الظن بعدها بأيام وأمنوا بالعلم وعبقرية الإنسان، وهو ما جعلهم يتسابقون لمشاهدة ثاني أفلام لوميير " وصول القطار إلى المحطة"، ولان الخوف قرين الإنسان منذ مولده فزعوا عندما رأوا القطار يأتي من عمق الكادر ليقترب منهم، يقول المؤرخين أن أحدى السيدات كانت تقف بجوار السطح الساقط عليه الضوء فارتعشت مغمضة عيناها عندما اقتربت مقدمة القطار من الكادر.

 بالطبع لم يكن للشيطان أي علاقة بالكاميرا ، فقط العلم نجح في تحريك الصور الفوتوغرافية الثابتة، لم يكن اختراع لوميير ليحقق أشد النجاح لو كانت العين البشرية ترى وتشعر، في هذه الحالة كنا سنرى الفاصل بين كل كادر يظهر على الشاشة، فحمدا للرب أن العين ترى ولا تشعر بل العقل.. هذا القصور العظيم.
 
 
لوميير .. مصر أولا
 
 في عام 1896اي بعد اختراع السينما بشهور، عرض لوميير أول أفلامهم في مصر بكافيه ( زواني) بالإسكندرية، ثم القاهرة في العام نفسه بسينما (ساتي)، أما عرضهم الثالث فكان في بورسعيد عام 1898، لتبصر مصر هذا الفن ويشرع عدد من أبناءها في السفر إلى فرنسا لتعلم أساسيات التصوير . بعث لوميير أحدى المصورين إلى مصر ومعه الكاميرا السينمائية لتسجيل عدة شرائط فيلمية ترصد جمال مصر وطبيعتها وانفتاحها على العالم بعد افتتاح (سينما توغرافي لوميير) بالإسكندرية في يناير 1897، وذهب حق الامتياز لهنري ديللو سترولوجو، الذي خصص مكان كبيرا لوضع الآلة وسط بورصة طوسونو تياتروا الهمبرا، وبالفعل وصل مصور لوميير " بروميو" إلى الإسكندرية وصور طبيعتها الساحرة ، ميدان محمد على وميدان القناصل، وكان لهذه الشرائط دورا كبيرا في توافد الأجانب إلى مصر، بعد عرضها في الخارج ،لينعجنوا بجمالها وما تبقى من حضارتها وسحرها ونهضتها في عهد محمد علي باشا، لتنفتح مصر أكثر على العالم والآخر .. نعم مصر آنذاك .