بقلم : القس نصرالله زكريا
 
هل يحق للمسيحي أن يتمرد على السلطة الحاكمة؟ (1/3) القس نصرالله زكريا ما أشبه الليلة بالبارحة، لأننا ونحن مقبلون على 30 يونيو، نعيش ذات الأجواء التي عشناها قبيل انطلاق الثورة المصرية في 25 يناير 2011م، حيث انتشرت الدعوات لتظاهرات شبابية ضخمة تنطلق في عدة مدن، تعبيراً عن ضيقها ذرعاً بالنظام الحاكم، وبما قد رأته من أوجه الفساد والقصور السياسي، ناهيك عن الغلاء وازدياد الفقر والبطالة والظلم الاجتماعي، وهكذا هو الحال اليوم
 
. وكما تعالت الأصوات –وقتها- عبر المؤسسة الدينية –رغم تباينها واختلافها الأيديولوجي والسياسي والديني- لتؤكد بأن الخروج على الحاكم فتنة، وأنه يجب الخضوع للسلطات والرياسات، كل تلك الأصوات تضامنت معاً واجتمعت على قول واحد هو ملخصه أن التظاهر أو الثورة هو خروج على إرادة الله وتعدٍ على القيادات والسلاطين التي اختارها –عز وجل- لتقود البلاد في تلك الفترة
 
. ذات الخطاب يكاد يتطابق ويتكرر اليوم، ويستخدم بعض القيادات المسيحية بعضاً من نصوص الكتاب المقدس التي تؤكد على أهمية الخضوع للحكام والسلاطين، وخاصة ما كتبه الرسول بولس في رسالته إلى أهل كنيسة رومية قائلاً: \"لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ. حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ. لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً بِسَبَبِ الضَّمِيرِ. فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هَذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أَيْضاً إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ. فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ\". (رومية 13: 1-7).
 
وأمام هذا النص نجد العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها بحثاً عن إجابات محددة، فمثلاً: ماذا يقصد هنا الرسول بولس بالخضوع للسلطات الفائقة أو الحاكمة؟ وهل هذا الخضوع يجب أن يكون خضوعاً مطلقاً، أم محدداً بشروط؟ هل على السلطات الحاكمة واجبات محددة تؤديها وتوفرها لمواطنيها؟ ماذا لو حادت أو فشلت السلطات في تأديتها لواجباتها؟ هل من مبادئ حاكمة تنظم علاقة المسيحي بالسلطات الحاكمة؟ وهل اكتفى الكتاب المقدس بتقديم نموذج الخضوع كنموذج واحد ووحيد لعلاقة المسيحي بالسلطات الحاكمة؟ كيف يفهم الإنسان المسيحي مواقف بعض الأنبياء والرسل والسيد المسيح نفسه، التي تبدو في ظاهرها متناقضة مع مبدأ الخضوع للحاكم والسلطات الحاكمة؟ ويبقى السؤال مطروحاً: هل على الإنسان أن يركن إلى الرضوخ والخنوع للحاكم الظالم؟ أم أن يثور على الظلم ويساعد في تحقيق العدل ورفع الظلم والقهر عن الإنسان الذي خلقه الله على صورته كشبهه، الإنسان الذي تضمن له المواثيق والعهود الدولية حقوقاً يجب على أي حاكم أن يحترمها؟ هل على المسيحي طاعة بعض الأصوات التي تخرج من المؤسسة الدينية، كمُعبَّر عن صوت الله ومُفسِراً لكلمته، أم ينتصر للإنسان المظلوم والمقهور، وهذه أيضاً وصايا الله؟ بادئ ذي بدء، علينا أن نؤكد على بعض المبادئ الكتابية التي يقدمها الكتاب المقدس والتي سوف تساعدنا كثيراً على فهم الصورة الكاملة لعلاقة المسيحي بالسلطة الحاكمة والدولة والحكومات
 
. المبدأ الأول: هناك قواعد لتفسير الكتاب المقدس إن الكتاب المقدس هو كتاب موحى به، فلقد أوحى به الله وكتبه أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس (2بطرس 1: 21)، ولم يقصد الله مطلقاً أن يكون الكتاب المقدس في قراءته وتفسيره وقفاً على فئة من البشر دون أخرى، فهو مُتاح للجميع، لكن فهم وتفسير الكتاب المقدس واستخراج المبادئ التي يعيش وفقها البشر يتطلب وعياً وإدراكاً ببعض الأساسيات والقواعد، منها: قراءة النص المراد فهمه وتفسيره ودراسته في ضوء القرينة والسياق العام والخاص، كذلك دراسة الخلفية الحضارية والتاريخية للنص الكتابي، الإلمام باللغات الأصلية التي كُتب فيها النص، محاولة فهم الهدف والمبادئ التي قدمها النص وقت كتابته، وما الذي يمكن أن يقدمه في ذات السياق لوقتنا الحاضر
 
. المبدأ الثاني: الإنسان هو تاج وهدف خليقة الله. يُطالعنا سفر التكوين، وهو أول أسفار الكتاب المقدس، برسم لوحة فنيّة بديعة لعمل الله في الخليقة، فنقرأ كيف خلق الله السماوات والأرض وملئها، وكان الله يرى كل ما صنعه أنه \"حسن\"، لكن بعدما انتهى الله من خلق كل ما يلزم تلك اللوحة الفنيّة البديعة والجميلة، قَالَ اللهُ: \"نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ\". فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: \"أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ\" (تكوين 1: 26- 28). وبعد أن خلق الله الإنسان رأى \"كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً\" (تكوين 1: 31). إن الإنسان في المسيحيّة هو هدف الله وغايته، وهكذا كان خلق الله للإنسان فيضاً من حبه ونعمته وعطائه، ولقد خلق جميع البشر متساوين، ومدعوّين إلى تحقيق الوحدة البشريّة، ولا يمكن أن يحب إنساناً الله وهو يبغض أو لا يحب أخاه، إن محبة الإنسان لأخيه الإنسان تعادل محبة الإنسان لله
 
. المبدأ الثالث: الخطيئة سبب كل المشكلات التي يعاني منها البشر. خلق الله الإنسان في جنة وفرَّ له فيها كل ما يحتاجه العيش الكريم، وقد أوصاه وصية واحدة، ألا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، لكن الإنسان سقط في فخ التجربة الشيطانية ولم يستطع أن يحفظ وصية الله، وآكل من الشجرة المُنهى عنها، وعرف الإنسان الخير والشر، وهكذا بخطيئة الإنسان الأول عرف التاريخ الإنساني جملة من الشرور وسلسلة من المشكلات الروحية والاجتماعية والإنسانية التي عانى ويعاني منها الإنسان وحتى الآن، ولأن الخطية ظاهرة واضحة وجليَّة في تاريخ البشر والبشريَّة، فلا يوجد إنسان لا يقرّ بوجود الخطية والشر في العالم، وهكذا تعترف غالبية الأديان بأنّ الإنسان خاطئ ويحتاج للتوبة وغفران خطاياه، يقول الوحي المقدس أن تصوُّر أفكار قلب الإِنسان إنما هو شرير كل يوم (تكوين 6: 5) ، وأن قلبه أخدع من كل شيء وهو نجيس (إرميا 17: 9)، وإن من القلب تخرج أفكار شريرة: زنا، فسق، قتل، سرقة.. تجديف (مرقس 7: 21 -22)، إن الخطية هي حالة، يتبعها كل ما ينتج عنها من فعل أو قول أو انتهاك ضد الله أو الإنسان أو الطبيعة، وتظهر في ضلال الإنسان وجهله بحقيقة الأشياء أو الاعوجاج عن الحق، وفي انتهاكه للقوانين والقواعد الأخلاقية، أو حتى معارضة الله أو قوانينه. المبدأ الرابع: الله يسعى دائماً لخلاص الإنسان ورفع الظلم وتحقيق العدل
. إنَّ الله الذي خلق وصوَّر الإنسان في أحسن صورة ومثال، لم يقف مكتوفاً أمام خطأ الإنسان وتعديه على مخلوقات الله الأخرى، وظلمه لأخيه الإنسان، فجاءت شرائع الله عبر أنبيائه ورسله لتنظم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة، وتنظم علاقة الإنسان بالطبيعة من جهة أخرى، كما شجع ورتب السلاطين والرياسات والحكومات لتكون خادمة لشعوبها تسوسهم بالعدل وتوفر لهم متطلباتهم الاجتماعية والمعيشية، ولقد أوصى الشعوب أن تخضع للرياسات والسلاطين لأنه هو الذي رتَّب وجودها، لكن هذا لا يعني أن تلك الحكومات والسلاطين دائماً تأتي وفق إرادته، أو أن تكون خيّره تخدم شعوبها، ولأن الله عادل لا يرضى بالظلم والجور، فهو يهتم دائماً بتحقيق العدالة الشاملة لكل أمة وشعب، كما يهتم بتحقيق العدالة على المستوى الفردي والشخصي، يذكر الكتاب المقدس أن الله هو: \"الْمُجْرِي حُكْماً لِلْمَظْلُومِينَ الْمُعْطِي خُبْزاً لِلْجِيَاعِ. الرَّبُّ يُطْلِقُ الأَسْرَى. الرَّبُّ يَفْتَحُ أَعْيُنَ الْعُمْيِ. الرَّبُّ يُقَوِّمُ الْمُنْحَنِينَ. الرَّبُّ يُحِبُّ الصِّدِّيقِينَ. الرَّبُّ يَحْفَظُ الْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ. أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ\" (مزمور 146: 7-9). ولقد ذكر الكتاب المقدس مراراً توبيخ الله عبر أنبيائه للأمم التي ظلمت وسحقت المساكين والفقراء ولم تقم العدل ولم تنتصر للمظلومين، ومن هذه الأمم –على سبيل المثال- إسرائيل، سوريا، فلسطين، صور، آدوم، موآب، العراق، (راجع عاموس 1: 3 - 2: 8، ناحوم 1: 9- 3: 19). المبدأ الخامس: الإنسان المسيحي مدعو لأن يحقق إرادة الله. إنَّ الإنسان المسيحي مدعو لأن يكون ملِحاً للأرض ونوراً للعالم، وهكذا علّمنا السيد المسيح حين قال لتلاميذه: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ ... أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ\" (متى 5: 13، 14)، فكيف يُملِح الملح الطعام ما لم يذب فيه، وكيف يُضئ النور العالم ما لم يوضع وسط الظلمة فينيرها ويقشعها، ولقد اتسقت حياة المسيح دائماً بما علَّمه، فلم يكن يوماً صاحب نظريات أو واضع تعاليم لا يحياها، بل عاش ما علَّم به، كان مواطناً صالحاً يُشارك هموم مجتمعه، يُعبر عن رأيه، يدفع ما عليه من استحقاقات للدولة، لقد كانت حياة المسيح نموذجاً يُحتذى به، ليس لكل مسيحي فحسب، بل لكل إنسان يريد أن يحيا .
 
المواطنة والالتزام المجتمعي نحو مجتمعه ووطنه، على أن الإنسان المسيحي ليس عليه الالتزام والمشاركة السياسية فقط، بل عليه –طبقاً لتعاليم وحياة المسيح- أن يقوم بالتزامه السياسي ومشاركته المجتمعية من خلال القيم الإنجيلية المسيحية، ليقدم النموذج الإنجيلي في المسؤولية الوطنية والسياسية. إن الإنسان المسيحي كمواطن عليه أن يدرك أنه مسؤول أمام الله وضميره وأمام التاريخ عن أنظمة الحكم في الدولة، وذلك يعني أهمية مشاركة المسيحي في الحياة الاجتماعية والسياسية في مجتمعه، ومتابعة ما يجرى من تطورات متابعة واعية على أساس عقلاني لفهم الأوضاع السياسية والاجتماعية حتى يستطيع أن يُخرج حكمًا سليمًا ناضجًا غير مُتحيز دون أن يُقحم الدين أو الكنيسة أو مصالحه الشخصية في حُكمه؛ وأن يشارك ويتفاعل مع ظروف وطنه دون قيود من رئاسة الكنيسة في تأييد لنظام الحكم أو رفضه؛ ليضمن له ولجيله مستقبلاً أفضل مستنيراً قائماً على الديمقراطية الحقة التى أساسها الحرية المسئولية عن نفسه وعن وطنه.إن المشاركة واجب والتزام على كل مواطن تجاه مجتمعه، تعبيراً عن رأيه، ورغبة في المشاركة في تطوير مجتمعه، وتعزيزاً لشعوره بالانتماء لوطنه، والعمل الإيجابي في رفعة الوطن وحرية المواطنين