القس نصرالله زكريا

يحوي الكتاب المقدس الكثير من قصص الشخصيات الثورية والتي رفضت الظلم وتميزت بوعي ثوري وقدمت حياتها وأفكارها نموذجاً حياً وفعالاً لقيادة مجتمعاتها نحو الثورة على الأوضاع المتردية والفساد المستشري في المجتمع، والتي أصبحت نموذجاً يحتذى به عبر العصور المختلفة، لقد كانوا في غالبيتهم إما أنبياء أو رسلاً لله، وعلينا أن ندرك أن الأنبياء والرسل –سواء في العهد القديم أو العهد الجديد- كانوا يمثلون قناة الاتصال والتواصل بين الله وشعبه، فهم من هذه الناحية رجال ملهمون ومدعوون لإعلان قصد الله لشعبه وللعالم، ومفسرون لشرائع الله، ومن جهة أخرى نرى في هؤلاء الرجال كتيبة من المدافعين عن مصالح شعوبهم ضد كافة الأخطار التي تهددهم سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فكم من مرة نجد في الأنبياء والرسل رجالاً مدافعين عن الفقراء والمرذولين، والمضطهدين والمستغلين اجتماعياً أو دينياً أو سياسياً.

 فلم يكن الأنبياء أو الرسل مفكرين منعزلين عن مجتمعاتهم، أو منحصرين في رسالتهم الروحية وحسب، بل كانوا كأعضاء في مجتمعاتهم يدركون التحديات التي تواجههم، فمن جهة هم خدَّام الله وصوته للعالم، ومن جهة أخرى هم خدَّام للبشرية والإنسانية، لذلك ليس غريباً أن نجد النبي يعلن وصايا الله ورسالة الله الروحية، وفي ذات الوقت يؤكد على المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والإنسانية، ونبذ كل أشكال العنف والتميز الديني أو العرقي، أو الطبقي والاجتماعي، أو السياسي، وكثيراً ما كانت الرسالة النبوية تتخذ من القادة هدفاً لها كالملوك والوزراء والكهنة والأنبياء ، وفي بعض الأسفار تتوجه الكلمة النبوية أيضاً لكبار المُلاك والإقطاعيين
 . ويؤثم النبي إشعياء ما كان يفعله الإقطاعيون ومالكو الأراضي بالقوة والأساليب الفاسدة، وينادي بالويل لهم، قائلاً: \"وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَصِلُونَ بَيْتاً بِبَيْتٍ وَيَقْرِنُونَ حَقْلاً بِحَقْلٍ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ. فَصِرْتُمْ تَسْكُنُونَ وَحْدَكُمْ فِي وَسَطِ الأَرْضِ\" (إشعياء 5: 8)، كما يلقي باللوم أيضاً على الذين يلوون الحقائق إذ يقول: \"وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْراً وَلِلْخَيْرِ شَرّاً الْجَاعِلِينَ الظَّلاَمَ نُوراً وَالنُّورَ ظَلاَماً الْجَاعِلِينَ الْمُرَّ حُلْواً وَالْحُلْوَ مُرّاً\" (إشعياء 5: 20)، هذه الرسالة أعلنها أيضاً كل من النبي ميخا، وعاموس، وحبقوق وغيرهم الكثير من الأنبياء، الذين يؤكدون على تجريم ممارسات العنف ضد الفقراء، وإصدار الأحكام الظالمة التي تسلبهم حقوقهم، وتسخر طاقاتهم لأصحاب المصالح والأغنياء. من هذه المنطلق أقدم لك دراسة لحياة بعض الشخصيات الكتابية لنرى كيف كانوا يتمتعون به من فكر ثوري واجهوا به قيادات مجتمعاتهم غير خاشين على حياتهم ولا على ما يمكن أن يلاقوه في سبيل التأكيد على المبادئ الإنسانية، والعدالة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والأخلاقية، ومن هذه الشخصيات: 1- النبي ناثان نقرأ قصة النبي ناثان في سفر صموئيل الثاني.
 وقد عاش هذا النبي في أيام الملكين داود وسليمان. وكان مستشاراً لهما ورسولاً يحمل إليهما نصائح الرب وتحذيراته، وكان كاتباً عندهما يؤرخ لحياتهما، وقد استشاره داود في بناء الهيكل، حيث كانت رغبة داود أن يبني هيكلاً لله، وبعد أن استشار ناثان النبي الرب، حمل للملك داود رسالة الله بغير مواربة ولا التفاف، قائلاً للملك: \"أَنْتَ لاَ تَبْنِي لِي بَيْتاً\" (1أخبار 17: 4)، وكان السبب الرئيسي لرفض الله أن يبني داود بيتاً له، هو أن يدي داود قد تلطخت بالدماء نتيجة الحروب التي خاضها (1أخبار 28: 3). ومرة أخرى واجه ناثان الملك داود وجهاً لوجه ووبخه على فعلته الشائنة التي فعلها مع أوريا الحثي وزوجته بثشبع، قائلاً قولته الشهير: \"أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ\"، وما كان من الملك داود إلا أن اعترف بخطئه في حضرة النبي ناثان قائلاً: \"قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ\" (2صموئيل 12: 7، 13). لم يخش النبي ناثان من ردة فعل الملك داود، ولم يجامله أو يبرر له موقفه بل بكل صرامة واجهه قائلاً: \"أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ\"، بالقطع كان ناثان يُدرك أنه يقف في محضر الملك، ويدرك أيضاً ما يجب على الإنسان من طاعة وخضوع للسلطات والرئيس، لكنه كان يدرك أيضاً دوره النبوي ورسالته ومبادئها الأخلاقية التي تعنف وتوبخ حتى الملك انتصاراً للمبادئ وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والقانونية. 2- النبي إيليا النبي إيليا من أشهر أنبياء العهد القديم، فقد اتسم بالشجاعة مع الغيرة من أجل الله، وقد ظهر في فترة ساد فيها الظلام والفساد على مملكة إسرائيل المنقسمة شمالاً وجنوباً، وقد مارس إيليا نبوته إبان فترة حكم الملك آخاب بن عمري، الذي ملك على إسرائيل قرابة اثنين وعشرين عاماً، وقد شهد الكتاب المقدس عن هذا الملك \"وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ قَبْلَهُ\" (1ملوك 16: 30)، وقد سجَّل الكتاب المقدس قصة حياة وخدمة النبي إيليا ومواجهاته للملك آخاب وفساده في سفر (الملوك الأول)؟.
 وسوف نتوقف أمام موقفين واجه فيهما إيليا النبي الملك آخاب بكل صرامة وحسم. الموقف الأول: كان عندما أعلن الله لإيليا أنه سيمنع المطر ويجفف الأراضي الزراعية عقاباً على الفساد الديني الذي انغمس فيه الملك آخاب تابعاً لزوجته الشريرة إيزابل، حيث أزاغا الشعب وراء عبادات وثنية متعددة ومتنوعة، وبعد انقضاء عدة أعوام على العقاب، كان أخاب قد امتلأ غيظاً وشرراً من النبي إيليا، وعندما أراد إيليا مقابلة الملك آخاب ليبشره بقرب انقضاء فترة العقاب، حدث أن الملك في شدة غيظه قال للنبي إيليا \"أَأَنْتَ هُوَ مُكَدِّرُ إِسْرَائِيلَ؟\"، فما كان من النبي إلا إن جاوب الملك بمنتهى الحزم قائلاً له: \"لَمْ أُكَدِّرْ إِسْرَائِيلَ، بَلْ أَنْتَ وَبَيْتُ أَبِيكَ بِتَرْكِكُمْ وَصَايَا الرَّبِّ وَبِسَيْرِكَ وَرَاءَ الْبَعْلِيمِ\" (1ملوك 17: 17-18)، ومن ثم حدثت المواجهة الكبرى بين النبي إيليا وثماني مئة وخمسين نبياً من أنبياء البعل الذين أشاعوا الفساد الديني والعبادات الباطلة، وقد واجه إيليا كل هؤلاء الأنبياء وانتصر عليهم وردد قولته الشهيرة متحدياً جمهور الشعب قائلاً لهم: \"حَتَّى مَتَى تَعْرُجُونَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ؟\"، أي إلى متى تفسدون دينياً، وتحاولون الجمع بين الباطل والصحيح، وقد انتهى الأمر بغلبة النبي إيليا في مواجهة سطوة الملك وزبانية السلطة من الأنبياء الكذبة

. الموقف الثاني، وقد حدث بعد الحادثة السابقة، ويعتبر هذا الموقف نموذجاً لمواجهة الفساد الاجتماعي والأخلاقي، فقد أراد الملك آخاب أن يضم قطعة أرض زراعية صغيرة لحديقة قصره، وكانت هذه الأرض ملكاً لرجل من عامة الشعب اسمه \"نابوت اليزرعيلي\"، ولما رفض هذا الرجل التنازل عن أرضه للملك، استخدم الملك معه أسلوباً معروفاً في السياسات العامة، وهو ما يُعرف بأسلوب العصا والجزرة، فقد عرض آخاب الملك لنابوت مقابلاً سخياً، ولكن لأسباب وراثية وشرعية رفض مالك الأرض التنازل عن أرضه لمصلحة قصر الملك، فما كان من زوجة الملك إلا أن دبرت مكيدة على إثرها تم إعدام صاحب الأرض والتخلص منه، ومن ثم آلت الأرض للقصر الملكي. وهكذا حققت الملكة رغبة زوجها، وهنا يظهر إيليا كعادته مواجهاً الملك قائلاً له: \"هَلْ قَتَلْتَ وَوَرِثْتَ أَيْضاً؟ فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَحَسَتْ فِيهِ الْكِلاَبُ دَمَ نَابُوتَ تَلْحَسُ الْكِلاَبُ دَمَكَ أَنْتَ أَيْضاً\" فَقَالَ أَخْآبُ لإِيلِيَّا: [هَلْ وَجَدْتَنِي يَا عَدُوِّي؟] فَقَالَ: [قَدْ وَجَدْتُكَ لأَنَّكَ قَدْ بِعْتَ نَفْسَكَ لِعَمَلِ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. هَئَنَذَا أَجْلِبُ عَلَيْكَ شَرّاً، وَأُبِيدُ نَسْلَكَ، وَأَقْطَعُ لأَخْآبَ كُلَّ ذَكَرٍ وَمَحْجُوزٍ وَمُطْلَقٍ فِي إِسْرَائِيلَ\" (1ملوك 21: 19-21). لم يخش إيليا النبي سطوة وجبروت وشر وفساد الملك آخاب، بل وبخه وعنفه وتوعده، لما فعله بأحد مواطني شعبه، ومرة أخرى نجد النبوة لا تعيق الثورة على الفساد والظلم ومحاولة تحقيق العدل وإرساء العدالة الاجتماعية بين مختلف أطياف الشعب.
 3- النبي يوحنا المعمدان أما إذا انتقلنا إلى العهد الجديد، فنجد يوحنا المعمدان شخصية قوية جداً ولا يخشى في الحق لومة لائم، كان يُدرك عمق رسالته الإلهية النبوية في مواجهة الفساد الأخلاقي المستشري في البلاد على طولها وعرضها، فقد كان يحض الشعب على التوبة بكل مشتملاتها الدينية والأخلاقية والحياتية، وكان غالباً ما يردد عبارته الشهيرة في وجه الشعب والقادة الدينيين على السواء قائلاً: \"يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟\" (لوقا 3: 7)، وكانت رسالته تلقى القبول من مختلف الأوساط الشعبية والسياسية والعسكرية، وكانوا يأتون أمامه ليغتسلوا في مياه نهر الأردن (راجع: (متى 3: 1-10، لوقا 3: 2-18). وكان ملك البلاد في ذلك الوقت هو هيرودس الملك، وكان إنساناً شريراً فاسداً أخلاقياً، فقد طرد زوجته وتزوج من هيروديا أمرأة أخيه فيلبس رغماً عن أخيه وفي حياته، مما أغضب الشعب وأثار حفيظة يوحنا المعمدان الذي كان الملك يكن له كل الاحترام ويهابه ويخشاه، وقد سجل الكتاب المقدس أن \"هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ فَعَلَ كَثِيراً وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ\" (مرقس 6 : 20)، كان الملك بكل عظمته وجبروته يخشى ويخاف من يوحنا لأنه كان يعلم أنه رجل بار وقديس، أي رجل لا يقبل بالفساد ولا بالمفسدين. وعندما علم يوحنا بفعلة هيرودس، وفي حين لم يجرؤ أحد أن يقول له شيئاً جاءه المعمدان مندداً بفعلته قائلاً له: \"لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ!\" (مرقس 6: 18)، وكان نتيجة موقف يوحنا المعمدان هذا وتعبيره الصريح عن رأيه، أن هيرودس أصدر حكماً بسجنه، وبهذا يكون يوحنا المعمدان من أقدم سجناء الرأي، حيث لم تكن ليوحنا تهمة أخرى غير أنه قال كلمة حق ولم يخش الملك، وقد قُتل يوحنا في سجنه بمؤامرة أعدَّتها له هيروديا ونفذها هيرودس اقتصاصاً منه وعقاباً له، وكان كل ذنبه سوى أنه وقف بجانب الحق وأعلى شأنه ضد فساد الملك. 4-

 السيد المسيح قدَّم المسيح من خلال مشوار حياته على الأرض وخدمته التي زادت عن ثلاث سنوات، نموذجاً رائعاً للثائر ضد الظلم الاجتماعي والطبقية والتمييز العنصري أو الجنسي، من جهة، ومن جهة أخرى ضد الفساد الديني والممارسات الطقسية والشكلية التي أفرغت الدين من معناه الحقيقي وحولته إلى صور شتى من صور التدين الظاهري، والتي أصبحت في حد ذاتها نوعاً من التمييز بين البشر، كما واجه ظاهرة اختلاط الدين بالسياسة، ممثلة في الأحزاب السياسية ذات المرجعيات الدينية، أو الجماعات الدينية في عصره، والتي نحا بعضها منحى التطرف واستخدام العنف ضد معارضيهم في الرأي. وعندما أعلن المسيح أنه جاء ليحرر الإنسان ويمنحه الحياة الأفضل، لم يكن يقصد فقط المعنى الروحي للتحرير والخلاص، لكنه تخطى هذا المفهوم الضيق للخلاص للمفهوم الأكثر رحابة ألا وهو تحرير الإنسان الشامل للحياة الروحية والزمنية معاً. لذلك فقد كان المسيح معلماً إصلاحياً، أي لم يكن ليكتفي بالتنظير العلمي لأفكاره ومبادئه، لكنه كان يُطبق تعاليمه بصور عملية تجتذب الكثير من الأتباع الذين رأوا فيها صدق المعنى وإيجابية الموقف، تلك المواقف التي لم تخل من الصدام ليس فقط مع قادة المجتمع، بل مع شرائح كثيرة ومتعددة من مجتمع ربط بين الدين والدولة من جهة، وكرَّس للطبقية الممنهجة من جهة أخرى، ففسد فساداً كاملاً وكان لابد من المواجهة الثورية، وهنا نرصد بعض المواقف للمسيح ثائراً فيها ومحتجاً ضد الظلم والفساد المجتمعي، مقدماً النموذج الذي علينا أن نتعلم منه. ومن صور الفساد الديني التي استشرت في المجتمع اليهودي وقاومها المسيح ليس بفكره الثوري فحسب، لكنه تخطى مرحلة الفكر والتعليم إلى مرحلة الفعل، كما حدث في موقف تطهير الهيكل، وتمثلت أشكال الفساد الديني في تدخل القيادات الدينية في السياسة، حتى أن مجمع السنهدرين -وهو ما يمثل مجلس الشعب في الوقت المعاصر- كان يُختار من القيادات الدينية للأحزاب السياسية، وكان يرأس هذا المجمع رئيس الكهنة، وكان السنهدرين يناقش الشؤون القانونية ويصدر القرارات والأحكام اللازمة في مختلف الشؤون السياسية والدينية، ومن صور الفساد الديني التي واجهها المسيح، انتشار المظهرية الدينية على حساب التقوى الشخصية الداخلية، الحرفية في تطبيق قشور الدين على حساب العمق الروحي والمبادئ الأخلاقية العميقة للدين، استخدام الهيكل للمصالح والأغراض الشخصية والحزبية. المسيح يواجه المظهرية الدينية كان التطرف والمظهرية الدينية منتشراً إبان وقت المسيح.
ومن مظاهر هذا التطرف الديني التمسك المتشدد بمظاهر الدين، لا الدين ذاته، حيث كان المتدينون يعمدون للمجاهرة بأعمالهم الحسنة من فعل الخير وتقديم الصدقة للمحتاجين، ويجاهرون بصيامهم وكثرة صلواتهم، بل كانوا يتخذون من المجامع وزوايا الشوارع أماكن لإظهار تقواهم وصلواتهم أمام الآخرين. كما تمثلت الحرفية في التمسك بقشور الدين والابتعاد عن القيم الروحية العميقة للدين في التطبيق الحرفي للوصايا دون الاهتمام بقيمة الإنسان الذي من أجله جاءت الوصية، فقد كان تقديس يوم السبت يحظى بالتقدير والاحترام عن محاولة شفاء أو نجدة الإنسان، كانوا يلتزمون بتقديم العشور مما هو سهل ويغضون البصر عن الواجب تقديمه، وهنا يلومهم المسيح بشدة قائلاً: \"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ\" (متى 23 : 23)، بل والأكثر من ذلك فقد حوَّل المتدينون بعضاً من الممارسات الصحية والاجتماعية إلى فرائض واجبة وملزمة للناس كنوع من المغالاة الدينية، مثل طقس غسل الأيدي، وقبول نوع من الأطعمة على أنه طاهر ورفض نوع آخر على أنه نجس، ومع المغالاة في تطبيق مظهر وحرفية الشرائع الإلهية، سنَّ رجال الدين بعض الشرائع التي تنهي الإنسان عن عمل ما أو تأمره على بعمل ما، حتى بلغت شرائع النهي إلى 365 شريعة، ومنها رفض التعامل مع الخطاة والمعاقين والمرضى نفسياً لأنهم غير طاهرين، مع ما في ذلك من تمييز واضح وفاضح، وبلغت وصايا الأمر 248 وصية. وقد واجه المسيح هذه المظهرية الدينية في تعليمه قائلاً: «احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ. لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. «وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ\" (متى 6 : 1-5). بل علَّم تلاميذه قائلاً: \"إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ\" (متى 5 : 20). لم يكتف المسيح بالمواجهة الفكرية للفساد الديني، بل اتخذ خطوات عملية مع كل ما تحمله هذه الخطوات من مخاطرة، فقد شفى صاحب اليد اليابسة في يوم السبت (متى 12: 9-10)، وبذلك أكدَّ على أن تقديس السبت يتجلى في أعظم صوره في عمل الخير للإنسان، الذي لأجله كان السبت، وفي رفض المسيح لتطبيق عقاب الشريعة على المرأة الزانية، كان يؤكد على أن الإنسان أهم من التطبيق الحرفي للشريعة، التي إذا طبقناها حقيقة فلن يفلت من عقابها أحد، فكيف يطبق أحكام الشريعة مَن هو مدان أيضاً بتلك الشريعة، قال المسيح في ذلك الموقف: \"«مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» (يوحنا 8 : 7).

 أما عندما ذهب المسيح للهيكل في أورشليم ووجد من يبيعون ويشترون، \"صَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ\" (يوحنا 2: 15) قائلاً قولته الشهيرة: \"بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ» (مرقس 11: 17). المسيح ينتصر للمرأة وكرامة الفقير والمظلوم من المواقف الثورية التي قام بها المسيح في قضايا الإصلاح الاجتماعي، ثورته ضد الطبقية ودفاعه عن كرامة الفقير والمظلوم، ورفعه شأن المرأة، حيث كان المجتمع اليهودي يعاني من التمييز الطبقي لأفراده، فهناك التمييز بين الأغنياء والفقراء، السادة والعبيد، الأبرار والأشرار، الرجال والنساء. وقد واجه المسيح معاملة المجتمع الظالمة للمرأة مواجهة حاسمة، فقد خلق الله الرجل والمرأة متساويين، ومن هذا المنطلق تعامل المسيح مع المرأة، فتكلم مع السامرية، وغفر للمرأة الخاطئة، وقبلها وسط الجماعة المقربة له، وسمح لها أن تتعلم وتحضر تعاليمه وندواته، وفي الوقت الذي أثقل فيه قادة الدين في عصره كاهل المرأة واعتبروها أقل شأناً، وأداة للجنس ومتعة الرجل، ووضعوا عليها القيود في الملبس وغيره، كرَّم المسيح المرأة، وتعامل معها باعتبارها كائناً ذا قيمة إنسانية مساوية للرجل، فلم يطلب منها الاختفاء من المجتمع ولا عن أعين الرجال وراء حجب كثيفة ومتنوعة، ولم يطلب منها ارتداء نوعية معينة من الملابس. لقد نظر المسيح إلى المرأة بكل تقدير، لأنه لم يركز على جسدها وطبيعتها البيولوجية، بل ركزّ على إنسانيتها وفكرها ومساواتها للرجل في قيمتها الإنسانية. أما عن الفقر والفقراء فقد رفض المسيح الربط بين الفقر والخطية، فالفقر ليس خطيئة، وأكدَّ على أن المرض ليس دائماً وليد الخطية، وانطلاقاً من خلق الله للبشر متساويين تعامل المسيح مع الفقراء بكرامة وتساوٍ، لذا كانت تعاليم المسيح وأحاديثه ثورة على الأغنياء الذين يسخّرون ويَسْخَرون من الفقراء والمحتاجين.

 لقد شعر المسيح بالألم تجاه معاناة الفقراء ووقف إلى جانبهم، فقضية الفقراء قضية ظلم اجتماعي وسوء توزيع للعدالة الاجتماعية، ولعل ثناء المسيح على موقف زكا العشار عندما أراد أن يوزع نصف أمواله على المساكين وأن ينصف من ظلمه، ويعوضه عن ظلمه له، يؤكد على رؤية المسيح أن الغني ملتزم ومسؤول عن تصحيح أوضاع الفقراء وعن تحقيق العدالة الاجتماعية، ولقد اعتبر المسيح أن ما يعمله أو يقدمه أحد لهؤلاء الفقراء والمرذولين والسجناء والضعفاء من الشعب إنما يقدمه له هو شخصياً، ولن يفقد مكافأته، فقد قال: \"لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ\" (متى 25: 35- 40). كما أعلن المسيح أن لبّ رسالته هو خدمة هؤلاء الفقراء والمساكين، حين اقتبس ما كتبه إشعياء النبي \"رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ..\"، ثم أردفّ قائلاً \"الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ \" (لوقا 4: 18، 21). المسيح ينبذ العنف ويواجه المخطئ من المواقف التي لابد وأن نتوقف أمامها، موقفه الذي اتخذه عندما لطمه أحد خدم رئيس الكهنة الذين كانوا واقفين أثناء محاكمة المسيح، حيث سأله المسيح قائلاً: \"إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟\" (يوحنا 18: 23)، هذا الموقف الذي يبدو أنه يتعارض مع ما علَّمه المسيح حين قال: \"لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً.. أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ.\" (متى 5: 39، 44). وبالتأمل الهادئ في هذين الموقفين لا نجد بينهما أي تعارض، ففي حين يرى البعض أن المسيح لم يقصد بسؤاله هذا شخص الخادم الذي لطمه، بل شخص رئيس الكهنة متسائلاً ما هو السوء الذي تكلمت به حتى تعطى عبدك الحق في الإساءة إليّ؟ لقد رأى المسيح هنا إخلالاً بإجراءات المحاكمة وخروجاً على القانون والتوراة، حيث كان القانون اليهودي ينص على أنه ليس للقاضي الحق إلا في محاكمة المذنب، ومتى ثبتت إدانته يأمر بعقابه في حدود كرامة الإنسان.

 يرى البعض الآخر أن المسيح كان يُرسخ للمبدأ القانوني المعروف في عصرنا أن المتَّهم برئ حتى تثبت إدانته، والمعني هنا أنه عليك أولاً أن تُبين الإساءة ثم العقاب، لقد وبخ المسيح ضاربه، وأوقع عليه الجناية بأنه ضرب إنساناً لم يُثبت عليه ذنب، وهذا معناه أن المسيح لا يمنع اعتراض المظلوم على ظالمه طالما لم يخطئ في طريقة الاعتراض. لقد انتقد المسيح السلطات الدينية والمتدينين، والأغنياء والارستقراطيين، وكانت له آراؤه في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وهو لم يدعنا لأن نغلق عيوننا أو نصمّ أذاننا، أو نلجم ألسنتنا عندما نرى حقوق الإنسان تهدر وتغتصب، أو أن نرى الظلم في توزيع الثروة أو مباشرة الحقوق السياسية، بل يدعونا لأن نندمج في المجتمع ونشارك فيه، ونعمل على تحقيق الديمقراطية المجتمعية على أساس المساواة في حقوق الإنسان الذي خلقه الله ومنحه قيمة وشرفاً علينا جميعاً احترامه، وعلينا أن نقَّيم سياسات وتوجهات المجتمع ونشارك في صنعها بطريقة صحيحة وواضحة.