عرض: هاني دانيال
خلال عهد الرئيس مبارك قام صدام حسين بالهجوم على الحكم الإسلامي الجديد في إيران، ثم هجم على الكويت واحتلها وانسحب منها، وانقلبت أمريكا من صديقة لصدام حسين إلى عدوة، والرئيس مبارك لا زال في الحكم.
عندما جاء الرئيس مبارك إلى الحكم كانت الحرب الأهلية اللبنانية لا زالت محتدمة، والملك حسين كان يحكم الأردن وحافظ الأسد يحكم سوريا، ثم حدثت أحداث 11 سبتمبر 2001 والرئيس مبارك لا يزال في الحكم، فشهد صعود حركة "مكافحة الإرهاب" وتوجيه السهام إلى العرب والمسلمين بدلاً من الشيوعيين.
هكذا جاء الرئيس ريجان وذهب، والرئيس بوش الأب وذهب، والرئيس كلينتون وذهب، ثم الرئيس بوش الابن وكاد يذهب، كل هذا والرئيس مبارك قابع في مكانه، فالرؤساء يأتون ويذهبون إلا الرئيس مبارك... فيا له من رجل!
كانت هذه فقرة من مقدمة للكتاب المهم الذي صدر عن دار ميريت مؤخراً للكاتب الكبير والمفكر المعروف "الدكتور جلال أمين" تحت عنوان "مصر والمصريون في عهد مبارك"، وهو الكتاب الذي قالت عنه جريدة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية "إن الكتاب وصف عصر حسني مبارك في مصر بأنه عصر الضعف والعشوائيات، وعصر المصالح الفردية، وليس المصالح القومية علاوة على أنه عصر الفساد الأعظم، وهو عبارة عن حملة انتقاد لا ترحم لعصر الرئيس مبارك، وانتهى إلى أن مصر تعيش حالياً في عصر مبارك حالة شديدة من المعاناة على كل الجبهات من سياسية إلى إجتماعية إلى إقتصادية".
المؤلف قدم عبر 13 جزء تحليل قوي لمصر الدولة والشعب الأوضاع الثقافية والسياسية والإجتماعية خلال حقبة الرئيس مبارك مستشهداً بمواقف أسلافه وخاصة عبد الناصر والسادات، والأوضاع في مصر إبان ثورة 1919 وحتى ثورة 1952 من أجل أن يكون القارئ عقله حاضراً ويحكم بنفسه على رؤية المؤلف وهل هو يتجنى على الرئيس مبارك ونظامه أم أنه محقاً في ذلك.
الكتاب تناول مفهوم الدولة الرخوة، الفساد، الإقتصاد، الفقراء، الباشوات، الطبقة الوسطى، المثقفون، الصحافة، الخطاب الديني، الإغتراب، التوريث، مصر والعرب، مصر والولايات المتحدة.

غلاف الكتابفي البداية أكد المؤلف أنه آن الآوان لكى يتم إلقاء نظرة شاملة على عهد الرئيس مبارك بأكمله، فها قد مر أكثر من ربع قرن على تسلمه حكم مصر وهي فترة طويلة بأى معيار.
بدأ الكتاب باستعراض مفهوم "الدولة الرخوة" للكاتب السويدي "جينار ميردال" والذي وضعها في كتاب بعنوان "تحدي الفقر في العالم" عام 1970، وهو المصطلح الذي يعني أن هذه الدولة التي تكاد تكون سر البلاء وسبباً من أسباب الفقر والتخلف، والتي يعم فيها الفساد وتنتشر الرشاوى، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها رخاوة، والفساد ينتشر من السلطة التنفيذية والسياسية إلى التشريعية، حتى يصل إلى القضاء والجامعات، وصحيح أن الفساد والرشوة موجودان بدرجة أو أخرى في جميع البلاد، ولكنهما في ظل الدولة الرخوة يصبحان "نمط الحياة".
يرى الدكتور جلال أمين أن مصر كانت في 1970 أبعد ما تكون عن هذه "الدولة الرخوة"، والآن هناك حالات الغش الجماعي وتجارة الأعضاء للأثرياء، وحتى مع هزة أرضية يعتبرها اليابانيون مداعبة كادت أن تسقط الدولة من فرط رخاوتها متهالكة على الأرض، وانكشفت العمارات المخالفة للقانون والآثار التي لم تُرمم والمدارس التي انتهى عمرها الإفتراضي إلى درجة أن مصر صارت علاقتها رخوة بالدول العربية الشقيقة والولايات المتحدة وإسرائيل وأيضاً برأس المال الأجنبي!

 لتأكيد وصفه أكد الدكتور جلال أمين أن كثيرون ممن تولوا الوزارة في عهدي الرئيسين عبد الناصر والسادات يشاركون الرئيس حماسه للمشروع الذي يقوم بتطبيقه، أو كان لهم على الأقل القدرة على تصور وظيفة الوزير على أنها وظيفة سياسية، مُستشهداً بنماذج مثل عزت سلامة كوزير للتعليم، ثروت عكاشة كوزير للثقافة، أو يوسف السباعي أو عبد المنعم الصاوي كوزراء للثقافة أيضاً، ثم تغير الأمر بالتدريج في عهد مبارك حيث اعتاد المرء أن يأتي رئيس للوزراء لم يعرف عنه قط اهتمامات سياسية قبل اعتلاء منصبه مثل علي لطفي وعاطف صدقي وكمال الجنزوري وعاطف عبيد وأحمد نظيف، ومن ثم لم يكن هناك مجال للتنبؤ بما يمكن أن تكون عليه سياستهم بعد اعتلائهم المنصب.

وذهب المؤلف أبعد من ذلك التحليل حينما أشار إلى أن الذين تولوا مسئوليات كبيرة في الـ 20 سنة الأخيرة كان مستواهم الثقافي أقل بدرجة ملحوظة ممن تولوا نفس المسئوليات في الستينيات والسبعينيات، حيث أن كثيرين يبدون وكأنهم يتمتعون بدرجة عالية من الذكاء الإجتماعي وبالقدرة على اللعب بالبيضة والحجر وفهم لعبة التوازنات بين القوى المؤثرة في توزيع المناصب ومعرفة أفضل السبل إلى قلب الرئيس وعقله، وكان لهذا التغير الذي طرأ على نوع الرجال المحيطين بالرئيس أثر مهم في زيادة رخاوة الدولة المصرية.

الفساد
في الـ 20 سنة الأخيرة تظافرت عدة عوامل قوية لانتشار الفساد بين الشرائح المختلفة في المجتمع المصريبعد أن استعرض بشكل مختصر أشكال الفساد وخاصة الموجودة في الجهاز الإدارى بالدولة، أشار إلى أن منصب رئيس الوزراء والوزير تمتع طوال العصر الملكي بهيبة شديدة واحترام حقيقي مستمدين ذلك ليس فقط من اتساع سلطات الوزير، بل وأيضاً من شخصية الوزير نفسه وتاريخه، بالإضافة إلى ما كانت تتمتع به الطبقة العليا التي كان يأتي منها معظم الوزراء ورؤساء الوزراء من هيبة مستمدة من الثراء الموروث وليس من اعتلاء المنصب، بينما الآن حينما يسمع المرء كلمة "فساد" ينصرف ذهنه على الفور إلى موظف أو مسئول حكومي كوزير أو مسئول أعلى منه درجة أو أدنى منه يوكل إليه بحكم وظيفته عمل من أعمال الصالح العام، فيتخلى عنه أو يعمل عكسه.
أوضح المؤلف أن القضية الوطنية كانت واضحة قبل ثورة يوليو وضوح الشمس، وتتلخص في جلاء الإنجليز وتحقيق الإستقلال والقضية الإقتصادية كانت واضحة أيضاً وتتلخص في التصنيع والقضاء على الفقر والجهل والمرض، وكان من الطبيعى أن يسود المناخ العام شعور قوي بالإنتماء للوطن، وأن يرتبط بهذ نفور واحتقار شديدان لأي عمل فيه شبهة الفساد وكان الشعور الديني لدى الطبقة الوسطى المصرية على وفاق تام مع الشعور بالإنتماء الوطني، في حين أن العصر الراهن يظهر شيئاً شبه التنافر أو القطيعة بينهما وكأن الولاء للوطن أصبح الآن من نصيب العلمانيين.
أكد المؤلف على أنه في الـ 20 سنة الأخيرة تظافرت عدة عوامل قوية لانتشار الفساد بين الشرائح المختلفة في المجتمع المصري العليا والوسطى والدنيا بدرجة لم يعرف لها مثيل لا في الخمسينيات ولا الستينيات ولا السبعينيات، دولة ضعيفة فاقدة للقدرة أو حتى الرغبة في معاقبة الخارجين عن القانون، ولا تملك أس مشروع قومس أو هدف وطنس يجتمع عليه الناس، وتعلق لأهمية كبرى على رضا القوة الخارجية التي تحميها وتسمح لها بالبقاء في الحكم وتعطيها المعونات، أهمية تفوق بكثير ما تعلقه على رضا الناس!

الإقتصاد
أشار المؤلف بشكل تفصيلي ما قام به عبد الناصر والسادات لدعم الإقتصاد المصري وإخفاقات الرجلين قبل نجاحاتهما، إلا أنه أكد على أن الرئيس مبارك بتكوينه النفسي لم يكن في وضع يسمح له بأن يغير اتجاه السياسة المصرية الذي اتخذه السادات، ولم يجد الناصحون المحيطون به مصلحة خاصة لهم في أن ينصحوه يهذا التغيير لأسباب تتعلق بتكوينهم النفسي هم أيضاً، فهكذا استمر الرئيس مبارك في سياسة الإستدانة طالما كانت الإستدانة متاحة له، ولم يتوقف إلا عندما انتهى الدائنون من امتصاص آخر قطرة دم من جسم الإقتصاد المصري، ولم تعد لديهم الرغبة في الإستمرار.

الفقراء
قدم المؤلف تشريحاً وافياً للفقر وتأثيره على المجتمع، مستشهداً بواقعة التحرش الجنسي في عيد الفطر في نوفمبر 2006، مؤكداً على أن هناك 40% من سكان مصر تحولت إلى كائنات تهيم على وجوهها في الشوارع فاقدة للأمل، لا تفكر إلا في أساسيات الحياة كتوفير الطعام لنفسها وأولادها، أو تبحث عن الإشباع الجنسي بالإلتصاق بالنساء في وسائل النقل العام والشوارع أو بورقة عرفية يعرف أصحابها أنها لا قيمة لها!

الباشا
تجسيداً على التناقض الموجود بالمجتمع المصري أشار المؤلف إلى أن البشوات في مصر في بدايات القرن الماضي كانوا أصحاب سلطة وكلمتهم مسموعة، بينما الآن يسمع المرء لقب باشا ويستخدم بقوة، فهو يُطلق على مأمور القسم أو على ضابط كبير في الشرطة أو الجيش، بل حتى على أي ضابط على الإطلاق طالما كان الذي يخاطبه أقل منه رتبة، وربما توجه كلمة باشا إلى مالك عمارة، رئيس مصلحة، صاحب مصنع، بل والوزراء ونوابهم ووكلائهم أياً كانت الطبقة الإجتماعية التي أتو منها!
وعن الطبقة الوسطى أوضح المؤلف أنها الآن طبقة مهانة ومحبطة، بل أنها قليلة الإحساس لقضايا الوطن، ضعيفة الإنتاجية في الإقتصاد والثقافة، مستعرضاً في هذا الفضل تطور الطبقة الوسطي، مقدماً الأسباب الحقيقية لتراجعها بهذا الشكل الواضح للكافة، مشيراً إلى أنه قبل ثورة يوليو 1952 كانت الطبقة الوسطى في مصر صغيرة الحجم ولكنها كانت متميزة ووطنية ومؤثرة.

الثقافة
ما دام الفساد أصبح سائداً في الإقتصاد والسياسة فكيف لا تصيب أيضاً الثقافة والمثقفين.. هكذا بدأ المؤلف الجزء الخاص بالمثقفون، مشيراً إلى أن المرء حينما يقرأ عن المناخ الثقافي الذي كان سائداً في عهد الملكية يبدو له وكأنه لم يكن هناك أي دافع لانتشار الفساد بين المثقفين مثل انتشاره اليوم، لا طبيعة الحكم السائد وقتها،ولا طبيعة وسائل الإعلام.
بعد أن غاص الكاتب في تاريخ المثقفين والثقافة في مصر منذ أيام الملك وحتى عصر السادات، أشار إلى أنه بعد فترة قصيرة من التفاؤل في أوائل عهد مبارك أصاب الكثيرين من المثقفين المصريين شعور بالإحباط زادت قوته شيئاً فشيئاً خلال الـ 20 سنة الأخيرة، ولكن اتسم عهد مبارك أيضاً ببعض السمات التي سمحت لصور جديدة من الفساد بأن تترعرع بين المثقفين.

الرؤساء يأتون ويذهبون إلا الرئيس مبارك... فيا له من رجل!وعن الصحافة انتقد المؤلف ما تتعرض له المهنة من مهانة وتراجع كبير، مستشهداً بما حدث لعبد الحليم قنديل -دون أن يشير إليه بالإسم-، والمهانة والذل التي تعرض لها لمجرد آراء كتبها في صحيفته.
كما خصص المؤلف جزء كبير للحديث عن الخطاب الديني، مقدماً الضجة التي أثيرت حول فتوى شيخ الأزهر بمن يقاطع الإنتخابات فهو آثم شرعاً، كذلك بعقلية المفكر، وبأسلوب الجراح قدم المؤلف شرحاً كافياً ووافياً لأدبيات الخطاب الديني وكيفية تجديده، مقدماً نموذج معرض الكتب الذي يضم آلاف الكتب والمؤلفات، وانتشار ظاهرة المكتبات الدينية، وما تخيقه من عقليات تخاصم المجتمع!

وعن العلاقات بين مصر والولايات المتحدة قال المؤلف أنه منذ ربع قرن دأبت مصر على قول "نعم" للولايات المتحدة، مهما كانت تطلبه منها، ولم تشذ عن هذا الأمر الذي كان حصيلته تدهوراً مستمراً في مركز مصر السياسي والدولي والعربي.

وعن خلافة الرئيس مبارك وإعداد نجله جمال مبارك لتولى السلطة من بعده، خصص الكتاب جزء كبير لها، وفيها أكد المؤلف على أنه بالرغم من نفي مبارك تعيين ابنه خلفا له، إلا أن الرئيس لم ينكر أن الأرض يجري إعدادها حالياً بسرعة كبيرة لضمان حصول ابنه على أعلى عدد من الأصوات في أي استفتاء أو منافسة رئاسية.

اختتم المفكر الكبير الدكتور جلال أمين مؤلفه بالتأكيد على أن قضية النهوض في مصر هي قضية مدى طويل على عكس ما توحي به بعض قوى المعارضة الحالية من إمكانية تحقيق الأهداف في يوم وليلة، بمجرد تغيير بعض الوجوه أو استبدال مجموعة من المسئولين بغيرهم.