بقلم: مادلين نادر
ماذا فعل التعصب بحقوق المواطن؟، لماذا يستيقظ التعصب الديني أو المذهبي؟، ماذا يقدم التعصب الديني أو المذهبي للإنسان العربي؟... جميعها تساؤلات يناقشها كتاب "السلام الإجتماعي في المجتمع المصري" للدكتور سامح فوزي الذي صدر عن مركز ماعت للدراسات 2008. يناقش الكتاب مشكلة حقيقية أخذت في التزايد في السنوات الأخيرة الماضية، ألا وهي شيوع التعصب الديني أو المذهبي القائم على تهميش الآخر واستبعاده، والانفراد بمشروع سياسي على أسس دينية ومذهبية.
ففي الفصول الأربعة للكتاب يناقش سامح فوزي مفهوم السلام الإجتماعي والوحدة الوطنية داخل المجتمع، ومحددات السلام الإجتماعي في مصر، ويطرح الفصل الأخير من الكتاب الحوار بين الطائفية والمدنية داخل المجتمع المصري.
يرجع سامح فوزي الأسباب التي تجعل التعصب الديني أو المذهبي يستيقظ في المجتمع إلى عدة نقاط، من أبرزها تفكك مشروع الدولة القومية، وتنامي معدلات الفساد بالدولة، ولجوء الدول العربية منذ عقود طويلة إلى توظيف الدين أو المذهب في إنتاج شرعية جماهيرية تواجه بها عجزها عن الإنجاز. بالإضافة إلى صعود تيار الإسلام السياسي بوصفه مشروعًا سياسيًا يقوم على أساس ديني من جانب، ومن جانب آخر عدم قدرة مؤسسات المجتمع المدني على تعبئة الجماهير على أساس "المصلحة" أكثر من الانتماء للطائفة.
يشير فوزي إلى أن أحد أسباب نجاح الجماعات الدينية أو المتعصبة في الآونة الأخيرة يرجع إلى استخدامها لثورة الاتصالات والمعلومات، مما ساعدها على امتلاك المال والتنظيم فأصبحت هناك فضائيات دينية تقدم بشكل أساسي تفسيرات دينية بالغة التشدد تجاه الذات والآخر. كما أنهم قاموا بإطلاق الآلاف من مواقع الإنترنت التي تنقل المعرفة إلى الكافة وتمتع بمساحة واسعة من المراوغة في مواجهة القيود القانونية على النشر.
ويؤكد الكاتب على أن التعصب الديني أو المذهبي للإنسان العربي يجعله يرى أحيانًا أن التعصب يقدم له خدمة، فيصبح بمثابة هوية وبطاقة تعريف للمجتمع، خاصة بعد أن ضعفت الهويه الوطنية القطرية بفعل تكرار الهزائم للدولة الوطنية وشيوع الفساد والاستبداد. ويعتبر أيضًا شبكة أمان اجتماعي في مواجهة حالة حضور الدولة نظريًا وغيابها عمليًا، وهي حالة العديد من الأقطار العربية.
يناقش فوزي تأثيرات التعصب على حقوق المواطن، ومنها قيام المواطن بممارسة قدر من التقييد على حرية التعبير، حيث اتسع نطاق المقدس، ولم يعد هو الدين أو المعتقد الديني بل تمدد ليشمل المشروعات السياسية الدينية والمؤسسات الدينية نفسها، فقد تحول المواطن الطائفي إلى رعية سياسية في الدولة ورعية دينية أو مذهبية في الجماعات الدينية أو المذهبية التي تحتضنه. بالإضافة إلى أن التعصب يمثل أيضًا قيدًا على حرية الفعل السياسي، فالمؤسسات الدينية أصبحت تتحكم في الفعل السياسي المباشر للأفراد وتحول تعصبهم الديني أو المذهبى إلى مشروعات سياسية سواء بالمعارضة أو الموالاة وكلاهما يقيد من حرية الحركة الساسية.
يتحدث الكاتب عن الوحدة الوطنية في المجتمع المصري، فيؤكد على وجود التعددية الدينية بها كحقيقة أساسية حيث تعايش المسلمون والمسيحيون في حالة من الوئام حينًا والتوتر أحيانًا أخرى خلال أربعة عشر قرنًا، ولكن في كل منعطفات التاريخ لم تكن هناك مشكلة حقيقية بين المصريين مسلمين ومسيحيين، بل كانت بين المسيحيين والحكام الوافدين الذين تعاقبوا على حكم مصر. فكثير من مظاهر التعصب والقهر التي واجهها المسيحيون لم تأت على يد شركائهم في الوطن من المسلمين بقدر ما كانت صادرة بالأساس من النخبة الحاكمة. ولكن في العقود الأخيرة هناك ثمة عوامل كثيرة تهدد بإضعاف صيغة العيش الواحد منها، على سبيل المثال هبوب رياح ثقافية مغايرة من دول الخليج منذ منتصف السبعينيات مع انتقال العمالة المصرية للعمل بهذه البلدان، ومن سمات هذه الثقافة الجديدة علينا الإفراط في النزعة الاستهلاكية وغلبة المظاهر الشكلية للتدين على حساب الجوهر، ولقد ساهم هذا النمط من الثقافة في تقليص مساحات التلاقي الإسلامي المسيحي في المجتمع.
هناك عامل آخر ساهم في ذلك ألا وهو صعود نشاط جماعات العنف الديني منذ أكثر من أربعة عقود، ومن جراء نشاط جماعات الإسلام السياسي شاع خطاب يكفر المسيحيين في أسوأ حالاته أو يدعو إلى تجنب التعامل معهم والاستعلاء عليهم في أفضل حالاته.
كذلك طفت على السطح ظاهرة يمكن أن نطلق عليها أسلمه الحياة العامة، حيث أصبح الحديث الغالب في كل القضايا ذات طبيعة دينية حتى وإن كانت هذه القضايا في الأساس علمية في جوهرها، منها على سبيل المثال نقل الأعضاء البشرية تحولت لقضية دينية يجري الحديث فيها عن الحلال والحرام. وتحولت النزاعات الدولية إلى صراع بين المسلمين وغير المسلمين بالرغم من أن بواعثها في الأساس سياسية أو اقتصادية... و هكذا أصبحت جماعات الإسلام السياسي تضع الصبغة الدينية على أي قضية.
ويلفت الكاتب النظر إلى أن صعود المد الإسلامي في الحياة العامة صاحبه في نفس الوقت ما أطلق عليه انكفاء المسيحي داخل الكنائس، فلقد شعر المسيحيون أن الوطن يضيق عن استيعابهم فلجأ بعضهم إلى خيار الهجرة والآخرون استسلموا للعزلة. ولقد عزز هذا الاتجاه خطاب ديني مسيحي يصب في اتجاه العزلة انطلاقًا من أن المسيحي ليس له مكان في العالم وأن غايته هي التطلع إلى الملكوت.
ولكن مع ذلك ففي السنوات الأخيرة بدا أن هناك اهتمامًا بدعم روح المشاركة الوطنية في أوساط المسيحيين، وإن كان لا يزال هذا الخطاب محدود التأثير حتى الآن.