حقيقة دور المضاربين وأزمة النظام الرأسمالي
بقلم: محمود يوسف بكير
في أعقاب الحرب العالمية الثانية وبقيادة الولايات المتحدة سجل النظام الاقتصادي الرأسمالي نجاحات مبهرة ومعدلات نمو اقتصادي غير مسبوقة والسبب الرئيسي وراء هذا النجاح كان تحفيز الأفراد على الإنتاج والادخار وتحقيق التراكم الرأسمالي .
وظل الإنتاج هو الطريق الوحيد لتحقيق الربح ومقياس لقيمة الفرد في المجتمع ،أما ألان ومع التقدم الهائل لوسائل الدعاية والإعلام والتسويق في المجتمعات الرأسمالية تم تغيير هذه القيم بحيث أصبحت قيمة الفرد تقاس بقدرته على تحقيق أكبر استهلاك ممكن ،بمعنى أن قيمة الفرد ومكانته أصبحت تقاس بنوع السيارة التي يمتلكها ونوع المحمول الذي يتكلم فيه وماركة رابطة العنق التي يرتديها...إلخ وهكذا تم التقليل من أهمية العملية الإنتاجية والادخار مقابل تقديس وتشجيع الاستهلاك حتى ولو كان عن طريق الاستدانة ،وهذا توصيف سريع للأزمة الحالية للنظام الاقتصادي الرأسمالي .
وسوف نوضح حالاَ في سياق هذا المقال كيف أن معادلة تحقيق الربح عن طريق الإنتاج تغيرت أيضاَ ،وهذا انحراف أخر خطير في النظام الرأسمالي .
يهدف هذا المقال إلى تقديم عرض مبسط لدور المضاربين وأهم آليات المضاربة ودورها في الاقتصاد المعاصر بهدف إلقاء المزيد من الضوء على المتغيرات الكبيرة التي يشهدها نظام الاقتصاد الرأسمالي بشكل عام كنوع من الاستجابة لإفراز الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد العالمي عام 2009 وأدخلت كل دول العالم في حالات كساد مختلفة الدرجات .
وقد لاحظنا أن البعض قد أرجع الأزمة إلى المضاربين وإدانتهم المالية وحدهم وهذا نوع من المبالغة حيث أن الأزمة كانت نتيجة تراكمات وسياسات نقدية معينة كما أوضحنا في مقال سابق نشر في عدة مواقع تحت عنوان " تحليل مبسط للأزمة المالية العالمية " .
وبداية لابد أن نوضح أن النظام الرأسمالي يقوم على عدة دعامات أساسية أهمها الحرية الاقتصادية وتحديد الأسعار على أساس قوانين العرض والطلب والمنافسة والشفافية وتوافر المعلومات و..... الخ .
ومن الدعامات الأساسية التي يقوم عليها النظام ولا يتم الالتفات إليها كثيراَ هي عمليات المضاربة التي تلعب دوراَ حيوياَ وهاماَ للغاية في عمليات التوازن الاقتصادي والاستقرار المالي والنقدي إذا ما تمت بشكل منظم ومراقب ( كما سوف نوضح لاحقاَ ) وتتنوع أدوات وآليات المضاربة حتى أصبحت تتسم بالتعقيد الشديد في الأسواق المالية المتقدمة وللتبسيط فإن أهم أدوات المضاربة هي عقود المستقبليات Futures" "والخيارات Options " " وهي تتداول في البورصات ، وهناك أدوات أخرى لا يتم تداولها في البورصة وإنما فيما يسمى بال"Over the counter " أي خارج البورصة أو بين المتداولين بشكل مباشر ،وتندرج كل هذه الأدوات تحت مسمى المشتقات المالية Derivatives ' " وهي تستخدم في مختلف أنواع السلع والأصول المالية مثل البترول والمعادن النفيسة وغير النفيسة والقمح والقطن والبن والأسهم والسندات والعملات النقدية ... الخ .
والمشتقات تمكن الأفراد والشركات من إدارة مخاطر الاعتماد على الغير في الحصول على احتياجاتهم من مختلف أنواع المواد الأولية والسلع التي يحتاجونها دون التعرض لمخاطر ارتفاع الأسعار بشكل جنوني مما يعيق قدرتهم على الوفاء بالتزاماتهم التعاقدية مع عملائهم ،أي إنها تمثل نوعاَ من التأمين ضد المخاطر.
وعلى سبيل المثال فإن كل شركات الطيران العالمية تتعامل في المشتقات المالية لتأمين احتياجاتها من وقود الطائرات كنوع من التأمين ضد مخاطر ارتفاع أسعار البترول بشكل مفاجئ ، وهكذا الحال مع كل مصانع الشيكولاتة والمواد الغذائية والسيارات وكل الأجهزة ..... الخ .
وببساطة شديدة فإن كل الشركات المصنعة العالمية تقوم بنقل مخاطر ارتفاع أسعار مدخلات التصنيع إلى طرف آخر مقابل رسم أو عمولة بسيطة تسمى بال Premium ( تماماَ كما يحدث في عمليات التأمين الاعتيادية ) ، هذا الطرف الآخر والذي يقبل بتحمل هذه المخاطر هو المضارب الذي يتوقع عادة حدوث عكس ما يتوقعه المنتج ، فلو أن المنتج يشتري عقداَ مستقبليا من مضارب لسلعة معينة فإنه في الغالب يفعل هذا لتوقعه ارتفاع أسعارها في المستقبل وهو يدفع عمولة بسيطة لشراء هذا العقد لفترة معينة .
فإذا لم ترتفع الأسعار فإنه يخسر هذه العمولة البسيطة ولكنه يحصل على احتياجاته من السلعة بالسعر الاعتيادي ،وفي هذه الحالة فإن المضارب الذي توقع عدم ارتفاع الأسعار يحصل على العمولة كربح له دون أن يطالب بالوفاء بأي شيء .
أما إذا ما حدث العكس ، أي ارتفعت الأسعار فإن المضارب يكون ملزماَ بتدبير هذه السلعة بالسعر الذي تم توقيع العقد بمقتضاه وقد يتعرض هنا لخسارة كبيرة ولكن المضارب عادة ما يعد نفسه لهذا الاحتمال بشكل جيد من خلال عمليات تغطية مالية معينة ، وبمعنى آخر فإن عقود المشتقات تكون غير ملزمة لمشتري هذه العقود وهم من المنتجين عادة ، ولكنها ملزمة للمضاربين .
وفي حدود المثال البسيط السابق فإن المضاربين يلعبون دوراَ هاماَ في عملية الاستقرار المالي لمختلف أنواع السلع والمواد الأولية وذلك من خلال قبولهم بتحمل مخاطر ارتفاع الأسعار ، كما أن جزءاَ آخرا منهم يقبل بتحمل مخاطر انخفاض أسعار نفس السلع والمواد الأولية والتي قد تؤدي إلى خسائر فادحة لمنتجي هذه السلع .
وبمعنى آخر فإن المضاربين يتحملون مخاطر تدهور أسعار البيع والشراء لكل أنواع السلع والمعادن والأسهم والسندات والعملات ... الخ من خلال إصدار عقود بيع وشراء ( Put and call ) ملزمة لهم بالتنفيذ وغير ملزمة للمستفيدين الذين يدفعون فقط رسماَ بسيطاَ من اجل نقل هذه المخاطر إلى المضاربين.
كما يقوم المضاربون بعمليات مالية أخرى تسمى بال Arbitrage بين الأسواق المالية المختلفة وظيفتها معالجة أي اختلال سعري غير منطقي أو مبالغ فيه لأي اصل مالي مما يؤدي إلى حدوث اتساق الأسعار في مختلف البورصات الأوربية والأمريكية والأسيوية .
وهنا يبرز السؤال هل المضاربون بمثل هذه المثالية ؟
والإجابة بالطبع لا حيث يوجد مضاربون يهدفون إلى الربح بأي ثمن وهؤلاء لا يضاربون بناءاَ على توقعات منطقية كما يفترض فيهم وإنما يضاربون بهدف إحداث تشوهات معينة في أسعار الأصول المالية بغرض تحقيق أرباح كبيرة من ورائها خاصة هؤلاء الذين يأخذون مراكز قصيرة Short positions حيث يقومون مثلاَ بعمليات بيع مكثفة لسهم معين لتخفيض سعره بغرض إعادة شراؤه مرة أخرى بسعر منخفض من أجل تغطية مراكزهم المالية وتحقيق أرباح سريعة .
ومع تعقيد عمليات وأدوات المشتقات تحولت عمليات المضاربة المشروعة إلى عمليات مقامرة خطيرة وكانت احد أسباب انهيار مجموعة إنرون الأمريكية الشهيرة كما كادت المشتقات المسماة بال Credit default swap ( CDS ) أن تؤدي إلى انهيار أكبر شركة تأمين في العالم ( AIG ) في خلال العام المنصرم لولا تدخل الحكومة الأمريكية من خلال ضخ ما يقرب من 200 بليون دولار لمساعدة الشركة على الوفاء بعقودها التأمينية. و أل ( CDS ) السابقة عبارة عن عمليات تأمين تبادلية قامت خلالها ( AIG ) بتأمين الدائنين ضد مخاطر إفلاس المدينين حتى وصل حجم هذه التأمينات إلى حوالي 400بليون دولار وكانت مجموعة ليمان براذرز العملاقة من ضمن هؤلاء الدائنين وكما هو معروف فإن ليمان براذرز تعرضت للانهيار في العام الماضي ولم تتدخل الحكومة الأمريكية لإنقاذها .
ومنذ أواخر السبعينات تحول طريق تحقيق الأرباح من العمليات الإنتاجية الحقيقية إلى المضاربات العنيفة غير المسئولة بمعنى أنه بدلاَ من أن ننتج لكي نربح أصبحنا نضارب لكي نربح ، وقد أدت هذه المضاربات والتلاعبات والأسعار المصطنعة لمختلف الأصول إلى خلق فقاعات كبيرة في قطاعات المساكن والسيارات والبنوك وشركات السمسرة المالية والتأمين والأسهم لم تلبث أن انفجرت تباعاَ في وجه الجميع وأدت إلى خسائر كبيرة دون أن يعي صانعوا السياسة النقدية والمالية في أمريكا و أوروبا الدرس .
أما أخطر فقاعة يشهدها العالم الآن فهي فقاعة ديون الأفراد والحكومات ، حيث تحاول الحكومات الخروج من أزمة الكساد الاقتصادي الحالي عن طريق الاستدانة من الداخل والخارج وتحفيز الاستهلاك الخاص عن طريق تشجيع الأفراد على الاستدانة من البنوك والاستخدام المبالغ فيه لكروت الإئتمان بما يفوق طاقة الأفراد على السداد .
وذلك كله من أجل وضع نهاية سريعة لحالة الكساد وخلق حالة من الرواج وإعادة التوظيف بأي ثمن حتى ولو كان فادحاَ وعلى حساب محدودي الدخل بشكل رئيسي .
هذه الفقاعة الجديدة لو استمرت في التضخم بهذا المعدل السريع فإنها ستنفجر حتماَ وسوف تكون عواقبها وخيمة على الجميع ، وحتى نوضح حجم هذه المشكلة بالأرقام يكفي أن نعلم أن حجم العجز الفيدرالي في أمريكا زاد من متوسط 3% من الناتج المحلي إلى 10% خلال هذه الأزمة .
والخلاصة أن المضاربين من ضمن المسئولين عن أزمة النظام الرأسمالي الحالية ولكنهم لا يتحملون المسئولية كاملة حيث أن المسئول الأكبر في رأيي عما انتهى إليه النظام الرأسمالي من اختلالات هيكلية عميقة هم صناع السياسة النقدية في أمريكا وأوربا وينبغي أن نتذكر دائماَ إنه حتى يتم إنقاذ القطاع المصرفي من الانهيار تم تخفيض أسعار الفائدة على كل العملات الرئيسية في العالم ( الدولار والين واليورو والإسترليني ) إلى مستوى الصفر تقريباَ بحيث لم يعد أمام مودعي البنوك الذين يعتمدون في معيشتهم على مردود إيداعاتهم - وهي حصاد العمر- من سبيل سوى الاقتراض من البنوك بضمان ودائعهم والاستخدام المكثف لكروت الإئتمان والنتيجة التآكل التدريجي لمدخراتهم وتحولهم إلى مدينين بعد أن كانوا مدخرين وممولين للبنوك .
ولكن من حسن الطالع أن وزراء مالية الدول الكبرى مدركين تماماَ لمخاطر فقاعة الاستدانة التي أشرنا إليها وهناك قناعة بأن قوى السوق التقليدية في النظام الرأسمالي غير قادرة وحدها على تخطي الأزمة المالية وإعادة التوازن ولذلك بدأنا نشهد دوراَ أكبر للحكومة في النظام الرأسمالي فبعد أن قلصت إدارة الرئيس ريجان دور الحكومة الأمريكية في إدارة الاقتصاد بشكل ملحوظ، تلعب الآن إدارة الرئيس أوباما الدور الأكبر في إدارة الاقتصاد الأمريكي ، كما أن الأجهزة الرقابية وعلى رأسها بنك الاحتياطي الفيدرالي بدأت تتدخل بشكل فاعل في تنظيم عمليات المضاربة التي تقوم بها صناديق التحوط " Hedge Funds " وهى من أكبر المضاربين .
ونفس السيناريو يحدث الآن في كل الأنظمة الرأسمالية في أوربا واليابان ، وباختصار فإن هناك تغيرات جذرية تحدث في أساسيات النظام الاقتصادي الرأسمالي بغرض إعادة إخراجه وبعثه من جديد وكل الشواهد تؤكد أن النظام الرأسمالي الذي ساد حتى الأزمة المالية التي ضربت أمريكا العام الماضي لن يستمر ، وأن هناك نظام رأسمالي جديد في طور التكوين .
وللحديث بقية بمشيئة الله .
مستشار اقتصادي مصري
mahmoudyoussef@hotmail.com
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :