بقلم: جرجس بشرى
يعتبر القس منسى يوحنا واحدًا من العلامات المُضيئة والمُشرفة في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فهو واحدًا من رجال الدين المسيحيين الذين أثروا التاريخ الكنسي في مصر برغم صُغر سنه.. فهو بحق مثال لرجل الدين الروحاني، وللباحث المُدقق والمُتعمق في جذور التاريخ، ولقد استطاع القس منسى يوحنا بورعه وسعة إطلاعه وعلمه أن يجعل المُختلفين يُجمعون على ما يكتبه، لدرجة أن كثيرًا من شيوخ المسلمين أمثال الشيخ عبد الرحيم الشريف وحتى الشيخ أبو إسلام استشهدوا في بعض كتاباتهم ببعض ما كتب.
إن السيرة العطرة المباركة للقس منسى يوحنا جعلت منه قدوة حسنة لكثيرين وتحمل دلالات قوية وتقدم لنا دروس عميقة، ومن أول هذه الدروس أن عطاء الإنسان لا يمكن –أبدًا- أن يُقاس بطول السنين التي يقضيها على الأرض، بل بمقدار ما يقدمه خدمات للإنسانية، كما تعطينا سيرته درسًا روحيًا عميقًا في إلتصاق الإنسان وتمسكه بمراحم ووعود الله خاصة في أحلك الأوقات وأعتى التجارب التي تمر به في حياته، ولمن لا يعرف ولا يسمع عن هذا العالم ورجل الدين الروحاني، نسرد فيما يلي لمحات من سيرته العطرة لعل الجميع يقتدون به "فليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات"..
حيث ولد القس يوحنا عام 1899 بناحية هور التابعة لمدينة ملوي بمحافظة المنيا -في صعيد مصر- من أبوين مسيحيين تقيين، وقد شاءت إرادة الله أن يموت والده وهو في سن الطفولة، فقامت أمه بتربيته تربيه حسنة (تحت رعاية جده) وزرعت فيه الفضائل المسيحية والعطف على الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمُجَرَبين، وقد خصه الله بعقل راجح حيث تعلم في كُتاب القرية وإنتقل بعدها إلى المدرسة الإبتدائية، ولمحبته لكنيسته الأرثوذكسية وشغفه بعلومها ألّمَ بكثير مما يُتلى بها وهو لم يزل بعد في المرحلة الإبتدائية!
وقد كان غيورًا على كنيسته غيرة عجيبة وهو في هذا السن، وقد دفعته هذه الغيرة المقدسة إلى الإلتحاق بالمدرسة الإكليريكية وهو لم يتجاوز بعد السادسة عشرة من عمره، وقد تردد مدير الكلية الإكليريكية وقتها في قبوله بسبب صغر سنه، ولكن تم قبوله في النهاية، وبعد مرور فترة قليلة من الدراسة أصبح موضع إعجاب مديرها وأساتذتها، وضرب المثل بين أقرانه على نبل الأخلاق وقوة الإرادة وأصالة الرأي، لدرجة أنه لم يكتف بما يتلقاه في المدرسة الإكليريكية من علوم ودروس بل وصل الأمر لدرجة أنه كان يطلع على كل مُفيد من الكتب الكنسية والمؤلفات اللاهوتية والتاريخية، وهو ما أدى إلى إتساع فكره وكثرة معلوماته وثقافته، وبعدما تخرج في المدرسة الإكليريكية تم تعيينه وأعظًا لكنيسة ملوي القبطية، وقد قوبل فيها في البداية مقابلة شاب في العشرين من العمر، ولكن سرعان ما وجد فيه شعبها وأعظًا تقيًا ومُعلمًا فاضلاً حكيمًا ومرشدًا صالحًا وأمينًا، فأحبه شعب الكنيسة حبًا كبيرًا وتهافتوا على تعاليمه وعظاته، لما لمسوه فيها من روحانية.
وحدث أن ثار شعب ملوي عندما أشيع في بعض الصحف أن مطران المنيا قرر نقله من كنيسة ملوي (كنيسة السيدة العذراء) إلى كنيسة سمالوط، وأعترضوا على نقله وشكلوا وفدًا لمقابلة مطران المنيا وقتها، وعندما قابلوه نفى لهم خبر نقله، وأخبرهم بأن واعظهم عندما كان في زيارة إلى سمالوط تعلق به أهلها تعلقًا كبيرًا وطالبوا بتعيينه في كنيستهم إلا أن نيافته لم يوافق على طلبهم لعلمه بتمسك شعب ملوي به.
واشتهر القس منسى يوحنا بتقواه وعدم حبه للمال والمناصب، حيث حدث أن إثنين من أصحاب المطارنة والأساقفة عرضا عليه أن يخدم معهما وذلك مقابل مرتب مغري ولكنه فضل الخدمة في كنيسة ملوي.
وقد تمت سيامته كاهنًا لكنيسة ملوي في يناير سنة 1925 بناء على تزكية جماعية من شعب ملوي، وكان يوم رسامته يومًا مشهودًا، شارك في الإحتفال به جميع أهل مدينة ملوي على إختلاف مذاهبهم.
وقد امتحن الله القس منسى يوحنا بتجارب وضيقات شديدة فأحتملها وقبلها بشكر وصبر ورجاء.. فقد جُرِبَ في أبنائه فكان كلما رُزِق أبنًا اختطفه الموت منه، كما جُرب في صحته كثيرًا، ثم في يوم 2 ديسمبر عام 1928 فُجِع بوفاة والدته التي كانت أكثر الناس عطفًا وحنوًا عليه، وحزن عليها حزنًا شديدًا، وبرغم توالي التجارب عليه إلا أنه كان صامدًا في مواجهتها، ولم تقدر الضيقات والتجارب والألم أن تمنعه من خدمة كنيسته المقدسة إلى أن أقعده المرض عنها مُرغمًا.
تنيح القس منسى يوحنا صبيحة اليوم السابع عشر من شهر مايو سنة 1930 بعد أن تحدث مع من كانوا يزورونه في مرضه قبيل وفاته (نياحته) قائلاً لهم: سأموت الليلة فأرجو أن تصلوا عليّ في ملوي وتدفنوني في هور "بعد أن كشف الله له موعد إنتقاله".
ولقد أثرى القس منسى يوحنا الكنيسة القبطية بكتاباته ومؤلفاته وعلمه الغزير، وقد أستطاع بقوة الله رغم قصر مدة خدمته (9 سنوات) وحياته على الأرض (31 عامًا) أن يقدم للمكتبة المسيحية خمسة عشر مؤلفًا، تعتبر من أهم المؤلفات التي يرجع إليها الباحثين مسلمين ومسيحيين، خاصة في مؤلفه العظيم "تاريخ الكنيسة القبطية" والذي أستعنت من مقدمته ببعضًا من سيرة هذا الرجل الروحاني العملاق، كما كانت للقس منسى يوحنا مقالات في الصحف والمجلات تتناول بعض الموضوعات الروحية والأدبية، ومعروف عنه أن كان يدير تحرير "مجلة الفردوس".
وفي إحدى الليالي تم أكتشاف جسد القس منسى يوحنا بمدفنه بجبل أبو فانا، حيث شاهد بعض رهبان دير أبو فانا نورًا يشع من مدفنه، وسمعوا أيضًا أصوات تسبح، وهو ما دفعهم للإتصال بنيافة الأنبا ديمتريوس أسقف ملوي الذي قام بفتح مدفن القس منسى يوحنا وفوجئ بأن جسده لم يتحلل بعد، فقام بنقله إلى دير أبو فانا ووضعه في مزار خاص تكريمًا له.
إن سيرة هذا الكاهن الروحاني تدفعنا جميعًا الى الإقتداء بعلمه وورعه وصبره وزهده، وتؤكد لنا أن قصر عمر الإنسان على الأرض ليس دليلاً على عدم العطاء، بركته فلتكن معنا آمين.