بقلم / شفيق بطرس
قبلت العزومة عند نسايب أخي الأكبر في الصعيد وكانت ابنتي الكبرى وقتها طفلة وتلازمني الزيارة الأولى لها للبيت الكبير في قلب الصعيد، كانت فرحة جميع الأهل بها أكثر من فرحتهم بوصولي، انتهت مراسم العشاء الصعيدي وما أدراكم حيث الأكل بالإرهاب ويكون صاحب العزومة واقف لك على دماغك بالفرفر ولو مش هتاكل كل اللي قدامك يطوخك عيارين ولازم تاكل دي ولازم تخلص دة وحتماً تاخد بخاطر مرات عمك طبخت لكم الديك دة وولد عمك دبح لكم الخروف دة وليس أمامك غير الاستسلام وتشغيل الطاحونة والباقي ربك يحلها بمعرفته مش مهم.. ولكن المهم الواجب.
امتدت بنا الجلسة لساعات متأخرة من الليل حيث كان الوقت أواخر السبعينات والصراع السياسي على أوجه ومصر كلها تغلي بين بقايا الناصريين والمتحمسين للعروبة والثورة والمبادئ الناصرية وما بين الرأسماليين الجدد واليمين المصري الجديد ومن رأى الفجر ينبثق على أيدي السادات حيث الزيارة إلى إسرائيل في عقر دارها واتفاقيات ومحادثات كامب ديفيد.
كانت الجلسة العائلية والتي قد طعموها بأصدقاء العائلة من رجال الفكر والثقافة وقد تحولت إلى منتدى ثقافي سياسي يجمع أصحاب الرؤى والنظريات والأيديولوجيات المختلفة من ماركسي إلى ناصري إلى يميني غربي متحرر والكل يدوب في حب مصر على طريقته الخاصة وأنا أدوب من الآلام التي تمزق مصارينى بعد أن قد استسلمت لنساء العائلة وتحكماتهن في وجوب الإجهاز على كل ما على المائدة أمامي مما لذ وطاب.
وانتهيت من ثالث كوب شاي صعيدي من اللي وصى عليه سيدنا جوزمان ومن هو سيدنا جوزمان الذي يترك مهامه الدينية ليوصي على الشاي الصعيدي الثقيل؟ لا تسألني فقد تفاعلت مع المحاورات والمناورات والقعدة سخنت وما أجملها وأحلاها وخاصة وأن أغلب الحاضرين من ضلعاء الفكر والسياسة على حق. له ألف حق السادات.. كفيانا فقر وقرف من الروس والشيوعية مشفناش منهم غير الخراب، والآخر يصرخ البرجوازية المتعفنة والرأسمالية لن تبني بل سترمينا في أحضان الاستعمار من جديد، والثالث يتوعدنا بالهلاك وأن إسرائيل ستحتل مصر كلها وليس سيناء فقط وتتحقق نبوءة (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) وكفاية أن مناحم بيجين قد جلس على ضفاف النيل وخرب علينا الدنيا صاحبنا الكئيب وأقام القيامة وعيشنا معاه في أواخر الأيام..
كل هذا ومازالت مصارينى تعاني من لحم الديك الرومي والبوفتيك ورجل الخروف، وهل أستطيع أن أتجاسر وأقول إنني (نباتي) ولا آكل اللحوم.. حذرني أخي الكبير من عواقب الأمور (نباتي؟؟ أنت أتجننت) لا تتفوه بهذا الكُفر الخطير والعيب الشرير بأن ترفض أكل الطيور واللحوم عند نسايبه يبقى فيها خراب بيوت ومقاطعة تدوم بالسنين لأنها كارثة ومهانة ما بعدها مهانة أن تكون في عزومة مثل هذه وتقول انك نباتي، فيها ضرب الرصاص من غير تفاهم.
طالت السهرة السياسية وتعبت من الانتظار فعلينا أن نمشي من بيت نسايب أخي إلى بيتنا الكبير حيث المشوار يقارب عشرة دقائق مشياً على الأقدام، ولا هو بعيد يستوجب طلب حنطور،، ثم أين الحنطور بعد الثالثة صباحاً؟؟ ونحن في عز طوبة والبرد خارج المنزل تحت الصفر بمراحل لأن طقس بلدتنا شديد البرودة في الشتاء وشديد الحرارة بالصيف ماعندناش وسط ولكن لا محالة فيجب أن نغادر المنزل ونتابع المسيرة لمنزلنا الكبير.
أخذت بطانية ألفلف بها ابنتي والتي كانت نائمة منذ أربعة ساعات، حملت ابنتي بحذر وخوف من شدة البرودة وسبقني أخي الأكبر ونسيبه في نفس سنه تقريباً وما أن وصلا إلى باب البيت الكبير إلا وأن فتح أخي الباب وأنا أنتظر خلفهم وهواء طوبه الشديد والصقيع القارس يكاد يمزق أذناي وكُلي خوف على أبنتي التي ترتجف من البرد رغم وجودها تحت البطانية الصوف.
لم أدري ماذا حدث فقد توقف الاثنان أمامي وأنا متلهف للدخول حيث الدفء داخل المنزل، ومددت رأسي لأستكشف ما المشكلة فقد تم فتح الباب وماذا ينتظر أخي ونسيبه ويعطلوني خلفهما في هذا الصقيع ومعي طفلتي المسكينة التي ترتجف في حضني، وإذ بي أرى الاثنان يتعازمان بيديهما لتفضل الآخر بالدخول أولاً، ودفعه من كتفه بكل أدب والثاني يرفض ويكرر نفس الشيء مع الآخر ويدفعه بأدب أمامه!!
وبدأ القلق يساورني.. إلى متى ستستمر هذه العزومات بتفضل أحدهما للآخر وبدأ الصمت يتحول إلى كلام تقريباً عندما شعرا بامتغاصي وإعتراضي على ما يحدث وبدأ أخي يقول (اتفضل ماتجيش)، والآخر يرد (لع ماتجيش) ويرد أخي لع يا أخى ماتجيش والاثنان قد تسمرا ولم يتنازل أحدهما للآخر تيجي ولا ماتجيش!!
وأخيراً قلت مابدهاش السادات عملها وراح إسرائيل يبقى أنا هاموت من البرد خلف أعوان الشيوعية والرأسمالية وتيجي لع متجيش.. وقلت لهما لو سمحتم يا جماعة اسمحوا لي أدخل بالنسبة لي ( لع تيجي) ودخلت وتركتهما يتعازمان ماتجيش.. لع تيجى..
وأقول لأحبائي نشطاء أقباط المهجر إلى متى سننتظر؟ ونحن نشيل أوجاعنا خلف الباب ونمتنع عن الدخول ونكرر بأدب جم (ما تجيش.. أتفضل أنت، لع ماتجيش) أظن ندخل بقى.... مش كده ولا إيه