بقلم: محمد وجدي
عندما كان مناط تقدم الشعوب برقيها وارتقائها صوب الأفضل .. فإن شهادة التاريخ عن المجتمع المصري ومدى ارتقائه وتحالفه تشهد بأنه لم تحدث فيه طفرة التقدم إلا عندما تكاتفت فيه القوى الشعبية محولة إياه لمجتمع مدني مؤمن بحرية العقيدة ولم يتخلف إلا تحت وطأة الحكم الثيوقراطي والعسكري .
والنقد بمعناه السليم : " ذكر الإيجابيات وذكر السلبيات وطرق الإصلاح " مصطلح مفقود في المجتمع الذي يقع تحت وطأة الحكم الثيوقراطي الديكتاتوري .
إن حرية العقيدة أمر غير وارد في الحكم الديني ، أما عندما نسبر غور تفاصيل المجتمع المدني نجده في كل تفاصيله مؤمنا ً بها داعيا ً لها ... إن " توماس فيرجسون " ينادي قائلا ً " نحن لا يهمنا لونك ولا يهمنا دينك . يهمنا أن تعطي هذا البلد أفضل ما عندك وسيعطيك هذا البلد أفضل ما عنده .... لأنه لا يهمني إن كنت َ تعبد إلها أو تعبد حمارا ً " .
وعند دخول الحملة الفرنسية لمصر قامت بتشكيل ما يشبه مجلس الشيوخ ، وعرفت أساس المواطنة بأنها " حادثة الميلاد " بعيدا ً عن التفسيرات الثيوقراطية للمواطنة ، وبعيدا ً عن النظر للجنس والعرق .
وتلا ذلك ما قام به محمد علي باشا من تطوير بصورة أكبر وأشمل مساويا ً بين كل المصريين بكل فئاتهم ودياناتهم ، وقام بتشكيل جيش مصري منهم لما أثبتت له التجربة أن أهل هذا البلد هم الأقدر على حمايته ، ثم قلدهم الوظائف العامة ، وأعطاهم حق التملك وأرسلهم في بعثات للخارج لا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي .
وقد أدى هذا الوضع لوحدة الشعب بعناصره في العصور المتتالية ، والأمثلة أكثر من أن تحصى أو أن تعد . وأبرز مثال في العصر الحديث ما شهد به اللورد كرومر حينما اشتعلت المظاهرات في وحدة وطنية لا مثيل لها فأعلن عداءه السافر للأقباط واستبدلهم بالمسيحيين السوريين ، وقال : " أقباط مصر أعداء لنا ، ويجب أن نبادلهم عداء ً بعداء".
ولم تستطع انجلترا شق صف الشعب المصري لتماثله في طباعه وأخلاقه والعادات التي كانت شبه متحدة .. فقد كان المصريون بكل طوائفهم لهم أعياد مشتركة " على سبيل المثال عيد النيروز وشهادة التاريخ على احتفال المسيحيين والمسلمين به على حد سواء " . فلجأت إلى محاولة شق تلك الوحدة بالنعرة الطائفية فاستقطبت حسن البنا عام 1927 م ، وأعطته 500 جنيه " 300000 جنيه بسعر اليوم " فتراجعت حرية العقيدة وظهرت التفرقة الملعونة التي نعاني منها حتى الآن .
وقد تحولت الحياة السياسية من مجتمع يحوي الجميع " في عهد سعيد باشا كان الأقباط ضمن أي بعثات للخارج ، رئيس الديوان قبطي ، محافظ القليوبية والمنوفية من الأقباط " .. ثم نجد ويصا واصف .. بطرس غالي ، حتى كانت التراجعات . فنادرا ً ما تجد في مجلس الشعب قبطيا ً واحدا ً منتخبا ً ، والوظائف الحساسة تخلو منهم .. بل إن الدعوات الصريحة توالت وتداعت حتى وقف أحد قادة الإخوان عام 1997 م ليعلن أن " الأقباط يجب أن لا يدخلوا الجيش حتى لا يسهلوا مهمة الأعداء " !!!!!! .
أما موقف الدولة فحدث ولا حرج .. هو موقف المتفرج المسيطر على الأمور والمستعين بهم في أحيان أخرى والذي تخرج الأمور عن زمام يده في أحيان ثالثة . ففي عهد السادات يستعين بهم للقضاء على التيارين الناصري والشيوعي ، ولكن ما يلبث السحر أن ينقلب على الساحر فيقتل بيدهم في مشهد مهيب في عام 1981 م . فتتراجع الدولة عن الدعم بعد فوات الأوان ، وتدخل في عداء سافر معهم ، ولكن هذا تم بعد أن رسخ فكرهم في هيئات ونقابات كثيرة أدت إلى إصدار دعوات وقرارات وتوجيهات مجحفة " مصادرة كتب ، طلبات إغلاق معاهد فنية بحجة السفور والاختلاط ، أحكام قضائية بالحسبة على مفكرين وباحثين وعلماء ، أحكام بالردة ، أحكام بالتفريق بين باحث وزوجته " .
ولا ننسى أن بتر الجذور المصرية بدعوى التناقض بينها وبين العروبة أو الإسلام لا يؤدي إلا إلى إضعاف وحدة هذا الوطن وانعدام فرصة عودة الدولة المدنية الداعمة للمساواة بين الجميع .. فالمصري البائس المغيب والوريث الوحيد للحضارة الفرعونية التليدة يتبرأ منها ليل نهار عندما يردد بغباء " قال يا فرعون إيه فرعنك قال ما لقيتش حد يلمني " . إلى جانب شياع فكرة كفر وحرمة كل ما يتعلق بالتاريخ الفرعوني وشركهم وإفكهم وطغيانهم ... في حين أنه لو تم التمسك بتلك الأصولية الواحدة الوحيدة التي منها خرج كل المصريين " مسلمين – مسيحيين – بهائيين – قرآنيين – شيعة " لصارت هناك قاعدة واحدة يرتكن إليها الكل ويحتكم لها الجميع في البحث عن الهوية المفروضة لشعب تاه بين ظلال العروبة وصرخات القائلين بأن مصر لم تشهد نورا ً إلا عندما جاء عمرو بن العاص بجيشه " نصف الجيش العربي من بدو سيناء الذين لم يكونوا مسلمين !!!! " داعين لمحو كل قومية مخالفة ، وقد بدأ هذا الفعل مع أول أيام الغزو العربي . فقد أرسل عمرو بن العاص للخليفة عمر بن الخطاب يسأله عن مكتبة الإسكندرية واصفا ً له ما فيها من مخطوطات وبحوث ومراجع أذهلته فسأله عن لغتها فأنبئه أنها باليونانية والفرعونية فأمره بحرق المكتبة كاملة – في دعوة صريحة لمحو أي هوية غير هوية الغازين .
ختاما ً : لا خلاص إلا بدولة مدنية يتساوى فيها الجميع أمام القانون والدستور.