بقلم: القس.رفعت فكري
بين الحين والآخر تحدث في مصرنا الغالية أحداث عنف مثل الجريمة البشعة المقيتة التي حدثت مؤخراً في نجع حمادي ليلة عيد الميلاد المجيد , هذه الأحداث دأب البعض على تسميتها بالعنف الطائفي , واعتاد البعض الآخر أن يسميها بحوادث الفتنة الطائفية , ودأب فريق ثالث على لي الحقائق فاعتاد أن يسمي مثل هذه الحوادث أو الاعتداءات ب المصادمات الطائفية على اعتبار أن العنف متبادل بين المسلمين والمسيحيين . وفي حقيقة الأمر كل هذه المسميات نستطيع أن نقول أنها ليست دقيقة وطالما يوجد إصرار لدى البعض على رفض تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية فهذا معناه أنهم لايريدون أي تغيير ولا أي إصلاح, كان فولتير يقول دائماً "اضبط مصطلحاتك قبل أن تتحدث معي" وإذا أردنا بالفعل إصلاحاً حقيقياً فلابد من تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية, ففي حقيقة الأمر ما يحدث في مصرنا نستطيع أن نسميه "بالعنف الديني" حيث أن تعبير العنف الطائفي يوحي بأن أتباع طائفة يعتدون على أتباع طائفة أخرى وهذا غير صحيح , ولكن مايحدث هو عنف ديني حيث يقوم بعض المتعصبين من المسلمين – وليس الكل – بالاعتداء على بعض المسيحيين – وليس الكل – في بعض المحافظات والمدن والقرى – وليس الكل .
وهذا العنف ليس جديداً على المجتمع المصري ولكنه يتزايد في فترات ويقل في فترات أخرى, والعنف الديني غالباً ما يشمل المسيحيين ومنازلهم وممتلكاتهم وكنائسهم , ومن السخف أن يقلل أي حد من حدة هذه الأحداث تحت أي مسمى من المسميات , أو تحت أي مبرر من المبررات .
وفي تقديري أن هذا العنف له أسبابه المختلفة ولعل أولها وأهمها هو التعصب المقيت ورفض كل آخر ديني مختلف ومغاير , وما حدث في نجع حمادي مؤخراً من جرم فادح على مسيحيين وماحدث في قرى أخرى من اعتداءات على مسيحيين في بني ولمس والعياط والكشح والطيبة وأبو قرقاص وغيرها من القرى المصرية التي نالت شهرتها بسبب أحداث العنف الدينية , وماحدث منذ فترة في قرية الشورانية من اعتداءات على البهائيين, كل هذه الأحداث المؤسفة وغيرها الكثير مما يُندى له الجبين تؤكد أن هناك عنصرية بغيضة قاتلة, وأن هناك تعصباً أعمى وفكراً ظلامياً سيطر على عقول الكثيرين من المصريين . فالمجتمع المصري في حقيقته هو مجتمع متعدد دينياً وثقافياً , وهذا المجتمع لم يعد متسامحاً كما كان من ذي قبل , ففي فترات قليلة استطاع المصريون أن يتعايشوا معاً في تسامح وقبول للآخر المغاير دينياً , ولكن هذا التعامل مع الآخر لم يتحقق دائما في إطار من الاعتراف المشترك والاحترام المتبادل والتسامح والقبول, وإنما شاب المجتمع المصري في تعامله مع التنوع ومع إفرازه للآخر أو للأخرى أو للآخرين الكثير من المشاكل التي أعاقت بعض مراحل تطوره وأخرت تقدمه, وسبب البلاء في كل أحداث العنف الدينية هو التعصب .
والتعصب هو التفكير السيئ عن الآخرين دون وجود دلائل كافية, وهو اتجاه يتسم بكراهية جماعة معينة يحط المتعصب من قدرها ومن قدر كل أعضائها, فالإنسان المتعصب هو إنسان بطبعه يجاري الجماعة التي ينتمي لها بدون تفكير أو وعي, فهو يستخدم في بعض المرات الاتجاه المضاد والسلبي تجاه الجماعة الأخرى ليوجه لها طعنات وتشويه لسمعتها بدون فحص هل هي على خطأ أم على صواب, والإنسان المتعصب من الصعب عليه تغيير رأيه أو حكمه السابق, وكذلك فإن المتعصب ينتمي لجماعته فقط ويتجنب الجماعات الأخرى التي يحكم عليها حكماً مسبقاً أنها خاطئة في أفكارها ومبادئها .ولأن التعصب هو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معينا إدراكاً سلبياً كارهاً , فإننا نجد المتعصب يتخذ موقفاً متشدداً في الرأى تجاه فكرة يعتبرها الحقيقة المطلقة الوحيدة , وكل ما عداها خطأ فادحاً, ولأن التعصب هو تقديس للأنا والغاء للآخر، فإن كل ما تقوله "الأنا" يدخل في حكم الصحيح المطلق، وكل ما يقوله الآخر يدخل في حكم الخطأ. وهذا من شأنه أن يقود إلى موت لغة التواصل والحوار بين البشر، وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب والبنادق وتحفر الخنادق وتستباح الدماء, إن التعصب انغلاق وانكفاء نحو الداخل وارتداد على الذات وتقوقع في زاوية ضيقة، ورؤية قاصرة للكون .
ولعل السبب في طغيان التعصب الديني, هو أن الدين يلتصق التصاقاً وثيقاً بالعاطفة والغريزة والأحاسيس التي تترسخ في أذهان البشر منذ الطفولة إلى درجة اعتبار الدين مسألة وجود أو عدم وجود, وما يزيد من رسوخ التعصب الديني هو التربية الصارمة والتنشئة الاجتماعية التي ينشأ عليها الطفل في المحيط العائلي والمدرسة بحيث يغدو الدين جزءاً لا يتجزأ من كيان الفرد ، فقد وجد أن التعصب الديني والعنصري يحدث في فترات مبكرة من الحياة فيما بين الخامسة والرابعة عشرة, وأن تأثير الوالدين يعتبر العامل الأساس في تشكيل الاتجاهات لدى الطفل بالمحاكاة (التقليد) والاستماع المستمر لآرائهم, وأيضاً طرق التنشئة؛ فلا يقتصر تأثير الوالدين على استماع الأطفال لآرائهم المتعصبة فقط، لكنهم يساعدون أيضا على خلق نمط الشخصية المستهدفة للتعصب
وفي النتيجة يكون سلوك التعصب أو التطرف قد انتقل من الأسرة (المحيط العائلي) إلى الأبناء بواسطة آليات نفسية محددة هي (التعلم بالنموذج)، حيث الأم والأب يدعوان إلى التعصب في المواقف المتعددة مثل الدينية، السياسية، العشائرية، القبلية، الأدبية والفنية. فمشاهدة سلوك التعصب لدى الأبوين والتركيز عليه داخل الأسرة، لا يثير لدى الطفل سلوكاً غير مرغوب فيه فقط، بل يغرس التعصب في ذاته. فسلوك التعصب عند الطفل لابد وأن يثير مشاعر معينة، يتآلف معها، حتى تصبح هذه المشاعر سلوكاً مقبولاً، ويعدو التعصب أو التطرف هو السلوك السوي.
وهكذا فإن الطفل يتصرف تصرفاً متعصباً ويرقب سلوك الآخرين، ويبدي التبرير المناسب لسلوكه التعصبي أو المتشدد تجاه الموضوعات والثوابت التي تعلمها ونشأ عليها, وحتى نفهم مرض التعصب جيداً يجدر بنا أن نقول أن هناك بعض الأعراض التي تصيب المصاب به مثل المثالية والإحساس بكمالية ومطلقية وأحادية الفكرة التي يؤمن بها، هذا فضلاً عن أن أعضاء الجماعة المتعصبة يعتبرون أنفسهم في حالة صراع عالمي ضد مؤامرة مما يجعلهم يعيدون تفسير و تأويل حقائق التاريخ بصورة مغايرة لتدعيم صراعهم العالمي وتصوير معارضيهم على أنهم شياطين و أشرار و أعداء يستحقون المقت و الكراهية , هذا بالإضافة إلى كراهية المتعصبين للحداثة وللمجتمعات الأكثر تطوراً و اعتبارها حجر عثرة أمامهم ولذلك فإنهم كثيراً ما يوجهون إليها لومهم و عنفهم بزعم حماية التقاليد, انقاذ الهوية, ارجاع الدين, منع فساد الأخلاق, إحياء الأمة......الخ
إن التعصب يقلل القابلية للتسامح و التعايش مع الغير, ومن ثم فإنه يتحول إلى برانويا مرضية مولعة بصحة رأيها وخطأ الرأي الآخر المختلف, مما يدعو المتعصب إلى اعتزال الآخرين و الالتصاق بمن يشاركه نفس التعصب, ومن ثم تُبنى الكراهية في النفوس مدعومة بالرغبه في عمل شيء ضد الآخرين الذين أصبحوا في خانة المعادين الأشرار, ثم يتراكم هذا ويتحول شيئاً فشيئاً إلى سلوك شرير ينتهي بالعنف أو القتل أو الإرهاب المبرر.
ولعلاج مرض التعصب لابد أن يحدث إصلاحاً في الخطاب الديني , فالنصوص الدينية التي تدعم التسامح والمحبة وقبول الآخر ما أكثرها, فلماذا لا نسمعها كثيراً في الخُطب ومن على المنابر؟!! ولماذا لا تحدث غربلة لكل ما يتناقض مع روح التسامح؟!! فإذا وُجد في الموروث الديني ما يُفهم منه أنه ضد التسامح مع الآخر الديني المغاير فلا مناص من الأخذ بالسياق التاريخي والحضاري وأسباب النزول والتأويل وذلك بغية ترسيخ فكر التسامح وقيم التعايش .
إن القبول بالتعايش مع التنوع ضرورة حتمية في حياتنا اليومية لأن التنوع موجود وعدم الاعتراف به هو تجاهل للواقع الإنساني الحياتي فهناك الرجل والمرأة, وهناك الأبيض والأسمر, وهناك المسلم والمسيحي واليهودي, وهناك اللا دينيون, وهناك من يدينون بالأديان الوضعية, وهناك ساكنو الحضر وساكنو الريف وساكنو البادية, ولذا علينا أن نحترم التنوع وأن يقبل الجميع كل من هو مختلف عنهم ويعيش معهم على أساس المساواة والديمقراطية والحرية والمواطنة.