بقلم: هويدا العمدة
قضيت أسبوع ما بين نجع حمادي وقنا، أيامًا لا تُنسى ما بين القضايا والمصابين وأهالى المعتقلين ومشاعر الحزن والقلق وما خيم على هذه البلدة في ليلة عيد الميلاد 2010. هذا العام الذي خيم بالأحزان على كل الشعب المسيحي داخل القطر وخارجه.
ورغم أنني كنت قادمة من رحلة لبعض دول الاتحاد الأوروبي -لعقد وحضور بعض المؤتمرات لصالح القضية القبطية فيما يزيد عن عشرين يومًا- وكنت أحتاج لهذه الأيام لمشاكل العمل في مكتبي ووقتي ضيق جدًا، إلا أن أهلي ودمائهم عندي أهم من أي شيء آخر، وأحسست من أول لحظه أدخل فيها البلدة أنني أحتاج لرصد كامل لكل الأمور، وخاصة الحالة التي ستمر بها القضايا لهذه الأحداث وعن الصورة العامة لكل ما يدور حول هذه القضايا لأن ما بداخلي كثير جدًا.
فكان يمتزج بداخلي مشاعر الخوف بالشجاعة والتراجع بالحماسة في أول يوم، وفي اليوم التالي كانت جلسة سفاح نجع حمادي في مذبحة ليلة العيد وكان حشد كبير جدًا من الأمن والإعلام والمحامين أيضًا، رغم أنها لم تزد عن كونها جلسة إجرائية عبارة عن عرض مواد الاتهام وأمر الإحالة واستدعاء الشهود، إلا أنها كانت أكثر استعراضًا لكل من يحب الظهور، فقد أتت وجوه لم نسمع عنها في ساحة القضاء من هذا النوع قط.
ومن الأشياء الجميلة وجود سامح عاشور، حيث أنه سحب الإعلام قليلاً عن محبي الظهور من الذين أتوا خصيصًا للكاميرات، وكان هناك خوفًا قليلاً في هذه الجلسة حيث التواجد الأمني من جهة وكون أننا المجني علينا من جهة أخرى، وكان الخوف من جلسة جرجس ومن استكمال بقية أيامي في هذه البلدة التي خيّم عليها الاضطهاد والاستبداد وأنها أول استعادة لعصور الشهداء، وخاصة أن جميع زملائي سيسافرون إلا أنا.
ولكني لم أتعلم الخوف في حياتي قط ولم يستطع أن يرهبني، بل تعلمت أن أكون جسورة مغامرة، فظللت وتعايشت مع ما حدث لهم وشاهدت أماكن الأحداث بل وأماكن الرصاص مرشق في الحوائط والأبواب، كما استمعت عن حرق البيوت وإلقاء النيران وتكسير أبواب المنازل المسيحية، وكيف كانت حالات الرعب التي عاشها الأقباط في هذه البلدة تلك الفترة.
ثم أصبح موت وخراب ديار حين اعتقل أبناهم، وبذلك يكون قد مات أبناءهم وحُرقت بيوتهم ثم اُعتقل أولادهم.
ولكن العناية الإلهية لا تنسى أولادها، فكانت تنجي الناس من نيران الشر، فكانت تحترق البيوت وينجو أصحابها.
ثم مر يوم الأربعين للشهداء وأنا أراه ممتزجًا بدموع الفراق لا الأحزان، وإحساسي بهم غلبني فانفجرت دموعي حتى لم أستطع الاستمرار وسط هؤلاء العظماء وتركت المكان واختليت بنفسي حتى استطعت إيقاف هذا السيل من الدموع.
وكان اليوم التالي جلسة جرجس بارومي، جرجس الضحية رقم سبعة في أولادنا لهذه الأحداث الطائفية، وحدثت الهرجلة الشهيرة بسبب قمع القاضي لهيئة الدفاع والاستئثار بمحامي واحد أو اثنين من هيئة الدفاع عن جرجس لحضور الجلسة السرية، واعترضت أنا وزملائي من هيئة الدفاع على ذلك، وحتى نهاية الجلسة كنت صامته تمامًا أرصد ما يدور حولي من صور لهذه الجلسات لأسجلها في أجندة حياتي.
وطالبت عن حقنا في لقائنا بالمتهم ولو في وجود الأمن، ولم ينتبه أحد من الموجودين لهذا الطلب ولم استغرب كثيرًا لهذا، وخرج قرار المحكمة بالتأجيل لجلسة 24 مارس لمناقشة الفتاة في وجودنا جميعًا وعرض جرجس على الفحص الطبي للتأكد من ذكوريته من عدمها دون أن يعطينا حق الجلوس مع المتهم كما طلبت أنا!
ووسط كل هذه الأحداث الملتهبة كانت أحزاني تتزايد وقلبي ينزف دمًا لما أراه ولما يحدث، حيث تُباع دمائنا بأرخص الأثمان.
الدماء التي لم تجف
والدموع التي لم تتوقف
والمنازل التي لم تتعمر
والمصابين الذين لم يستكملوا علاجهم
ووسط كل هذا والدماء ما زالت ساخنة لم تتشربها الأض بعد.
أجد التسابق على الإعلام والظهور، وعلى مَن يأخذ قبل الآخر ومَن يكون قبل الثاني ومن يعطي التصريحات للصحفيين أكثر ومن يذهب للكاميرات حتى يتصور أكثر ويتكلم أكثر، ولينفرد ذاك أو تلك بالإعلام حتى يكون هو الدفاع بمفرده، رغم أن جميع الحاضرين محامون أصليون عن المتهم، هذا هو القانون الجنائي.
وأصبح التضارب لا في الأقوال بل في الأخبار...
وهذه الصورة آلمتني كثيرًا، وأحسست منها أن جرجس في خطر وأنه سيُداس وسط هذا الزاحم، ورغم أنني صممت أن أكون بعيدة عن هذه الصورة وأقف بالخلف حتى أرى أكثر، إلا أن بعض الصحف سرقتني صوّرتني –دون إرادتي-.
وإذا كنت تركت الإعلام لمحبيه واكتفيت بحزني وعملي وسط هؤلاء المظلومين، فلن أتخلى عن دوري وسطهم ولا عن عملي لخدمتهم كما، أنني لم أستطع أن أكتم إحساسي وأعبّر عنه بقلمي كما تعودت منذ حداثتي، حتى لو وجدت الهجوم من الكثير، فيكفيني كلمة الحق.
وفي النهاية أقول أنني متأكدة أن الله سيتدخل وينقذ هذا الشعب... ربنا موجود...
رئيس المركز الدولي للمحاماة
hh_el3omda@yahoo.com