بقلم: جرجس بشري
قرأت مؤخرًا ـ كغيري ـ البيان الصادر عن جبهة علماء الأزهر، والذي نشرته بعض وسائل الإعلام، حيث تم اتهام شيخ الأزهر السابق د. محمد سيد طنطاوي ـ رحمه الله ـ بأنه أول من أهان القرآن والرسول والإسلام. ويرجع السبب في ذلك أن الرجل كان مُعتدلاً ومحبًا للحوار, منفتحًا على المختلفين معه في الدين، ولأنه كان ضد النقاب الذي رأى أنه عادة وليس عِبادة!
عندما قرأت هذا البيان شعرت بالدهشة وتساءلت: "كيف يُمكِن للجبهة أن تتهم رجلاً عظيمًا في قامة ومكانة شيخ الأزهر الراحل؟ ماذا ستكون صورة الإسلام والمُسلمين في العالم إذا ما تقلد منصب المشيخة شيخًا مُتطرفًا سلفيًا يرفض الحوار ويُكفر المُخالفين له في الدين؟"
وهذه المقدمة ما هي إلا تمهيدًا بسيطًًا لكي نغوص معًا في تاريخ شخصية إسلامية عظيمة، أجمع عليها الجميع باختلاف مذاهبهم وأديانهم, شخصية يجب أن يتمثل ويقتدي بها كل أزهري وكل مفتي وكل شيخ ازهر؛ إنها شخصية الشيخ والإمام "محمد عبده" شيخ شيوخ التنوير ورائد حركة الإصلاح الديني الإسلامي, الذي ولد عام 1849م وتوفي عام 1905م. لقد كان الشيخ محمد عبده أول مفتيًا للديار المصرية حيث كان المفتي قبله يجمع بين المنصبين "منصب المشيخة ومنصب الإفتاء".
كان الإمام محمد عبده من أبرز شيوخ عصره الذين وضعوا على كاهلهم مسئولية التغيير والتنوير والاجتهاد في النص الديني والتحقق التام من المصادر الإسلامية وكتب الفقه عبر البحث، التمحيص، التوثيق، الاستنتاج، والدراسة. كما أنه من الشيوخ الأوائل الذين طالبوا بإعمال العقل في النصوص الفقهية الإسلامية. كان شيخًا ولكنه كان مهمومًا بأمور الوطن؛ فقد شارك في ثورة "أحمد عرابي" ضد الإنجليز عام 1882م, وسُجِن ونُفي إلى بيروت وظل بها ثلاث سنوات. لم يمنعه ذلك من مواصله مشروعه التنويري والإصلاحي حيث سافر عام 1884م إلى باريس بدعوة من أستاذه ومُعلمه "جمال الدين الأفغاني"، وأسس صحيفة "العروة الوثقى"، وبعدها أنشأ جمعية على اسم هذه الجمعية. كما كان لمشروع محمد عبده التنويري أثرًا بالغًا في تمهيد الأجواء نحو نهضة فنية وموسيقية في مصر؛ حيث يؤكد د. أسامة عفيفي في مقال منشور على موقع "كلاسيكيات الموسيقى العربية" تحت عنوان (الموسيقى العربية الكلاسيكية ــ الخلفية التاريخية), أن الموسيقى العربية الكلاسيكية التي ظهرت خلال القرن العشرين بين العقدين الثاني والثامن, بدأت بحركة تجديد أرسى قواعدها سيد درويش في مصر، وهناك كلاسيكيات أخرى أقدم في التاريخ الموسيقي العربي كالموشحات الأندلسية والقدود الحلبية.
ولكن جرى الاصطلاح مؤخرًا على تعريف الكلاسيكيات بأفضل ما قُدم من موسيقى خلال تاريخها الطويل ـ والذي بلغ ذروته في القرن العشرين ـ وهو ما يوازي كلاسيكيات الموسيقى الغربية في القرن الثامن عشر. وعن الخلفية التاريخية لهذه الريادة في الفن الموسيقي, يقول د. أسامة عفيفي: " لقد تميزت هذه الفترة بنهضة فكرية هائلة كانت الريادة فيها للمبدعين المصريين، ولم تنشأ هذه النهضة من فراغ بل مهد لها كتابات الشيخ محمد عبده وغيره من رواد الفكر السياسي الذين وضعوا بدايات عصر التنوير والخروج من الجمود الفكري إلى التحرر السياسي والاجتماعي. وكان الشيخ الإمام محمد عبده من أوائل من شجعوا الموسيقار داود حسني عندما سمع موهبته الغنائية وتنبأ له بمستقبل كبير في عالم الفن والموسيقى. وقد تحققت نبوءة الشيخ فيه؛ حتى وصف النقاد الموسيقار داود حسني بأنه: "المؤسس الرئيسي للتراث الخالد لفن الموسيقى المصرية"، وليبرالية الشيخ محمد عبده وانفتاحه وإيمانه بالحرية كقيمة إنسانية جعله يسارع في تشجيع موهبة الموسيقار داود حسني مع أنه كان يهوديًا مصريًا!" .
كان الإمام محمد رجل إصلاح من طراز نادر، وشُعلة مُضيئة توضح بجلاء صورة الإسلام المعتدل للعالم وسط فتاوى التكفير والانغلاق والجمود، وقد نُشرت مقولة "حجاب ونقاب وزبالات أخرى" للإمام محمد عبده، وهي تحمل تحذيرًا لخطورة الأفكار المتجمدة والمتطرفة والمنغلقة على الإسلام بقوله: "ولكنه دين أردت إصلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم". وكان الإمام الراحل محمد عبده من أشد المدافعين عن حقوق المرأة فنادي بضرورة تعلم المرأة، ونادي بعدم تعدد الزوجات في حالة إذا ما كان الرجل غير قادرًا على تحقيق العدل بين الزوجات، بل ورأى أنه من الصعب أن يتحقق العدل للمرأة في ظل تعدد الزوجات. أما عن الحجاب والنقاب، فقد رأى أن النقاب عادة ناتجة عن الاختلاط بأمم أخرى وليس من الشرع الإسلامي (تقرير لوكالة رويترز للأنباء تحت عنوان: الشيخ محمد عبده: "ليس في الشريعة نص يوجب الحجاب"). ليت روح الإمام محمد عبده التنويرية والوطنية والتجديدية تُبعث في مصر من جديد حفاظًا على صورة الإسلام أمام العالم، والذي بدا واضحًا إنه يفتقر إلى هذه الصورة في الآونة الأخيرة.