بقلم: محمد مسلم الحسيني
ليس من السهل التكهن في كيفية نشوء الحكومة العراقية الجديدة في ظل الظروف والملابسات المعقدة وتباعد الفرقاء السياسيين عن بعضهم، وبروز أربعة كتل سياسية كبيرة متباينة فيما بينها، خصوصًا أن الأولى والثانية متقاربة جدًا بالأصوات. عدم حصول كتلة سياسية كبرى على الأغلبية البرلمانية يعني ضرورة تحالف الكتل مع بعضها من أجل الوصول إلى الأغلبية البرلمانية؛ ومن ثم العمل على تشكيل الحكومة. هذا التحالف لن يكون سهلاً بين كتل سياسية مختلفة في الأهواء والإنتماءات والبرامج، كما أن كل كتلة منها تستأثر بكرسي رئيس الوزراء.
التنافس الشديد والتقارب الواضح في عدد أصوات الناخبين بين قائمة رئيس وزراء العراق المنتهية ولايته نوري المالكي "ائتلاف دولة القانون" وقائمة رئيس وزراء العراق الأسبق إياد علاوي "القائمة العراقية", قد يشكل مشكلة في قبول الخاسر للمركز الأول لخسارته. ورفض النتيجة من قبل الطرف الخاسر قد يصاحبها مظاهر عنف وتحدي وطعن لنتائج الإنتخابات، ومثل هذه المظاهر والملابسات حدثت في أعرق بلدان الديمقراطية في العالم حينما تقاربت الأصوات. فعلينا ألاّ نستغرب حصولها في بلد حديث على الديمقراطية ويفتقد بعض قادته السياسيين للحنكة السياسية ولثقافة الديمقراطية. وحسب الدستور العراقي تتكفل الكتلة السياسية الأكبر في البرلمان مهام تشكيل الحكومة، وستكون هذه الكتلة إما كتلة ائتلاف دولة القانون أو كتلة القائمة العراقية وذلك طبقًا للنتائج النهائية التي ستعلن لاحقًا.
تشكيل الحكومة يعني النجاح في خلق تحالف سياسي بين كتل سياسية لها عدد من المقاعد البرلمانية الكافية التي تؤهلها للحصول على الأغلبية البرلمانية. أي أن كتلة المالكي أو كتلة إياد علاوي عليها أن تتآلف مع الكتل الكبيرة الأخرى أو أن تتآلف مع بعضها من أجل تشكيل الحكومة. والتآلف بين كتلة المالكي وكتلة علاوي أمر بعيد المنال وذلك لأسباب كثيرة أذكر منها: أن القائمة العراقية تعتقد بأن المالكي رجل فئوي وطائفي وليس له مشروع وطني حقيقي، إنما له أﭽندات ومصالح ضيقة. كما ترى القائمة العراقية أيضًا بأن المالكي يستخدم سياسة التسقيط والتهميش للخلاص من غرمائه السياسيين. فإسقاط حق عضو القائمة العراقية صالح المطلق "رئيس جبهة الحوار الوطني" للترشيح للإنتخابات وكذلك أعضاء آخرين غيره، يعتبر خطًا أحمرًا قد اجتازه المالكي؛ حيث لا يمكن التعامل معه بعد هذا مهما اختلفت الأحوال. هذا من جانب, ومن جانب آخر فأن من أهداف القائمة العراقية واستراﺗﯿﭽياتها هو التغيير الجذري للفكر والتصرف السياسي العراقي السائد، وببقاء المالكي رئيسًا للوزراء أو شريكًا حقيقيًا في الحكم فلن يتحقق التغيير المنشود.
فوق هذا وذاك فأن المالكي سوف لن يقبل بأقل من كرسي رئاسة الوزراء في الحكومة العراقية القادمة. وهذا المطلب السياسي لن يكون مرفوضًا من قبل القائمة العراقية وحدها فحسب، وإنما سيكون مرفوضًا أيضًا من قبل القائمة الإنتخابية الكبيرة الأخرى "قائمة الإئتلاف الوطني العراقي" التي يقودها السيد عمّار الحكيم "رئيس المجلس الأعلى الإسلامي". والكثير من السياسيين المنضوين تحت هذا الإئتلاف يرفضون تربع المالكي على كرسي الحكم مرة ثانية؛ حيث يعتقد هؤلاء بأن المالكي قد فاز بالمركز الأول في الحكم بعدما صعد على ظهورهم في الإنتخابات التشريعية السابقة، وبفضل الإئتلاف العراقي الموحد، الذي تأسس إنذاك من تحالف كتل سياسية ذات طابع ديني ومذهبي، استطاع المالكي أن يقفز على سيادة الحكم ويستفرد بالقرار مما أدى إلى انسحاب الكثير من أعضاء الكتل السياسية المشاركة في ذلك الإئتلاف من الحكومة بل ومن الإئتلاف نفسه، حتى انحل الإئتلاف كليًا وتناثرت أركانه. وهكذا يستبعد المراقب السياسي ان تتكرر هذه التجربة مرة أخرى ما لم يتخلى المالكي عن عزمه في قيادة الحكومة المقبلة.
أما التحالف بين القائمة العراقية وبين الإئتلاف الوطني العراقي, يعني دمج متناقضين مع بعضهما؛ فهناك تباين كبير في المبدأ والاستراتيجية والولاء والمفهوم والسلوك السياسي بين هاتين الكتلتين. فالقائمة العراقية قائمة تدعي العلمانية وترفض المزج بين الدين والسياسة، كما أن لها علاقات وصداقات مع الجانب الأمريكي دون الجانب الإيراني، وتتطلع إلى منهج التغيير والحداثة وتغليب الحس الوطني على الحس الطائفي والديني وترفض سياسات التهميش والإقصاء التي تعرض ويتعرض لها وبإستمرار شرائح ومكونات في المجتمع العراقي. بينما تبقى قائمة الإئتلاف الوطني العراقي متمسكة بهويتها الدينية وبربط الدين بالدولة وبعلاقاتها المميزة مع إيران وبعدائها الصريح للبعثيين بكل أنواعهم وأشكالهم والمطالبة بمساءلتهم وملاحقتهم أينما كانوا. كما أن تحالفًا كهذا سيصطدم بصخرة الكرسي الأول الذي تصبو له كل الأطراف وهو كرسي رئاسة الوزراء.
ويتمنى الأمريكيون لو ينجح إياد علاوي بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة ويحثون الأكراد على التحالف معه. إلاّ أن الأكراد ورقة صعبة في التحالفات السياسية القادمة، ومن يريد أن يتحالف معهم عليه أن يدفع الثمن ولكن الثمن باهض وصعب, لا يستطيع السياسي العراقي أن يدفعه لأنه يتعلق بمسائل حساسة ومصيرية وأهمها ملف مدينة كركوك الغنية بالنفط والتي يسعى الأكراد لضمها إلى منطقة كردستان العراق في إطار الحكم الذاتي. فأي تنازلات للأكراد من قبل أي سياسي عراقي بهذا الاعتبار يعد لعبًا بالنار حيث لا يتجرأ السياسي العراقي أن يحرق نفسه بهذه النار مهما كانت المسوغات والمعطيات. كما أن القائمة العراقية كان لها القدح المغلي بكسب أصوات مدينة كركوك، فلا يمكن لإياد علاوي أن يخذل من انتخبه في هذه المدينة ويقدم تنازلات بشأن هذا الملف الحساس. هذا من جانب، ومن جانب آخر فأن طارق الهاشمي ـ عضو القائمة العراقية ورئيس حركة تجديد ـ يعتبر منافس قوي أمام جلال الطالباني على منصب رئاسة الجمهورية في الدورة المقبلة. كل هذه الأمور لا تحفز الأكراد على التحالف مع القائمة العراقية على الأقل في بداية مشوار المفاوضات وبانتظار الراية الحمراء التي قد يرفعها الأمريكيون بوجههم حينما تدق الساعة.
أما غريمة أمريكا ومنافستها العنيدة في النفوذ والهيمنة في العراق وهي إيران، فإنها تسعى دائمًا إلى حث الأطراف الموالية لها، وخصوصًا الإئتلاف الوطني العراقي وإئتلاف دولة القانون إلى التحالف فيما بينهما من أجل تفويت الفرصة على الطرف الآخر وتشكيل حكومة جديدة لا ترفع شعارات معادية لها ولا يمكن أن تكون ظهيرًا قويّا لسياسات الأمريكيين في المنطقة. إلا أن تحالفًا كهذا قد يجبر نوري المالكي على التخلي عن كرسي رئاسة الوزراء لأحد أعضاء الإئتلاف الوطني العراقي أو على الأقل لشخص آخر من قائمته لأنه يعتبر ـ ومن قبل الكثير من السياسيين في هذا الإئتلاف ـ شخص غير مرغوب فيه لتولي هذا المنصب مرة أخرى. وتخلي المالكي عن موقعه المنشود والذي قد يحلّ المشكلة من جذورها لن تكون عملية سهلة وروتينية بل تتطلب الكثير من الجهد والوقت وضرورة تدخل الأطراف الخارجية فيها.
من خلال هذه الحقائق والوقائع السياسية فإن المحلل السياسي قد لا يرى طريقة سلسة وسهلة لتشكيل حكومة عراقية جديدة في ظل وجود مثل هذه التناقضات، الراكنة في مسرح تتضارب فيه النزعات والإرادات، والمنبثقة من مجتمع تباين فيه السياسيون كما تباينت تركيبة هذا المجتمع واختلفت شرائح تكوينه؛ بل أن تباين السياسيين قد فاق وزاد على ذلك، خصوصًا بوجود أقطاب خارجية تتربص الموقف وتنظر إلى مصالحها المتضاربة مع بعضها.
قد لا يستبعد المتابع للأحداث ـ وفي ظل التشاحن والتزاحم على المركز الأول والثاني بين كتلة إئتلاف دولة القانون والقائمة العراقية ـ أن تستمر عملية جر الحبل بين الأطراف إلى أجل غير مسمّى ويبقى الشعب العراقي بين الجار والمجرور فيضيع الخيط والعصفور وتضيع الديمقراطية الهشة معهما!