كمال غبريال
ليس صحيحاً أبداً، ما يتصوره أو يصوره البعض، أن ما يحدث بالعراق مجرد مواجهة مع الإرهاب الإقليمي أو العالمي. كما أن  المشكلة العراقية المتفجرة الآن، ليست مشكلة بسيطة مفردة، يسهل أو يصعب التعامل معها. ما يحدث الآن هو انفجارات متزامنة، للعديد من الإشكاليات القديمة المزمنة. وأي محاولة لإطفاء النيران المشتعلة الآن، والمتمثلة في فقدان سيطرة الجيش العراقي على القطاع الغربي للبلاد، بأسلوب الحل العسكري، الذي يدحر قوات داعش، ويردها على أعقابها خلف الحدود العراقية السورية، ويقمع ما لابد من اعتباره ثورة سُنِيَّة، هو في حالة نجاحه حل مؤقت، يؤجل انفجارات أسئلة العراق والمنطقة إلى حين.

قبل أن نشرع في استعراض الأسئلة العراقية، نحتاج لتوصيف دقيق لما يحدث في المنطقة، ما بين الحدود الغربية الإيرانية، حتى الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ما إذا كانت محل ثورات شعبية على أنظمة الحكم، أم هي تقلصات وارتعاشات أجساد كيانات سياسية وقبائلية مضروبة بحمى أيديولوجيات معادية للحضارة وللبشرية، أم هو التعرض لهجمة إرهابية لأذرع تنظيم القاعدة، أم هي صراعات قوى خارجية عالمية وإقليمية على أرض المنطقة، أم أن النظم السياسية القائمة تنهار تحت تأثير تصدعاتها الداخلية، بما يعني أننا لابد مقبلون عاجلاً أم آجلاً، على خريطة سياسية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط؟

نحتاج أيضاً أن نتبين الدور الذي تلعبه الأيديولوجيا الجهادية التكفيرية، إن كانت هي المحرك والباعث الرئيسي لانفجارات المنطقة، أم هي مجرد عامل ثانوي، يلجأ إليه الجميع، سواء بتبنيه احتماء به، وتسولاً لما يجلبه من شعبية، أو عداء له، بما يتيحه هذا من تضامن القوى العالمية المقاومة للإرهاب.

لنبدأ بسؤال علاقة العراق ككل بجيرانه، وتأثيره عليهم وتأثيرهم عليه. علاقة التحالف المعاصر، والعداء التاريخي مع إيران، وما يضفيه التحالف الآن من شكوك وضبابية، حول حقيقة كون العراق دولة مستقلة القرار كاملة السيادة. سؤال يصعب الإجابة عليه، ليس فقط لموازين القوى بين الجارين، ولا للطبيعة التوسعية التي تحكم أيديولوجية نظام الملالي في طهران، ولكن أيضاً لموقف المكون السُنِّي والكردي في التركيبة العراقية، ومدى قبولهما الانتماء لدولة، تعمل كفناء خلفي للجار الفارسي.
 

يضاف إلى هذا بالطبع موقف الجار الكويتي وإخوانه في مجلس التعاون الخليجي، وموقف أمريكا ومصالحها، تلك القوة العظمى الأوحد في عالمنا. هل يقبل هؤلاء بعراق في معية إيران، بدلاً من يكون كما كان في السابق، هو البوابة الشرقية للوطن العربي، على حد تعبير صدام حسين؟

ثم سؤال تأثير ما يحدث بالعراق، على شماله التركي، وظهيره السوري واللبناني والأردني والسعودي. والتأثير هنا لا يرجع فقط للجوار الجغرافي، وإنما أيضاً للتداخل الديموجرافي، عبر القبائل التي تعيش في تلك الدائرة. والتأثير الأيديولوجي، على المكونات السُنِيَّة والشيعية في كل الدول المجاورة، وصولاً إلى اليمن جنوباً ولبنان غرباً.

نأتي إلى الأسئلة التفصيلية، الناتجة عما نعتقد أنه انفجار للعراق، الذي تتطاير شظاياه أو مكوناته الآن، ليصبح كل منها مشروع انفجار مستقل.
سؤال شيعة العراق/ إيران: هل يستشعر العامة والنخبة السياسية من الشيعة العراقيين، أن انتماءهم الأصيل والأول، هو للوطن العراقي بكافة مكوناته وتبايناته، أم يستشعرون الانتماء إلى قم وطهران، حيث الولي الفقيه، وأن انتماءهم العراقي هو في أحسن الفروض انتماء فرعي، وفي أسوأها انتماء تعسفي، فرضه اتفاق سايكس بيكو الذي يلعنه الجميع؟

سؤال سُنَة/ شيعة العراق: هل يقبل كل من السُنَة والشيعة بتعايش وطني مشترك، يقوم على أساس دولة المواطنة وسيادة القانون، الذي يساوي بين الجميع، أم أن الشيعة يضمرون تعويض عقود الظلم الذي حاق بهم، باعتلاء سدة عرش الظالمين، ليذيقوا السُنَة ما سبق وذاقوه هم على أيديهم، أيضاً هل يقبل السنة بالتنازل الإجباري عن عرش الاستبداد والهيمنة، لينخرطوا في دولة ديموقراطية حديثة، أم يريدون استعادة ما كان لقطاع محدود منهم (البعث التكريتي) من هيمنة وبطش وعسف؟

 نأتي إلى السؤال الكردي، فلعلنا نستطيع القول بقدر معتبر من التجاوز وعدم الدقة، أن غزو داعش لسوريا والعراق، قد جاء للسفينة الكردية المحشورة بين صخور المنطقة بما تشتهي، رغم الخطر الداهم الذي تشكله داعش على كل المناطق المحيطة بها. فداعش من هذا المنظور بمثابة قنبلة انفجرت في الصخور المحيطة بالسفينة والقضية الكردية. وقد ترتب عملياً على هذا الانفجار حتى الآن

شبه تحرر للأكراد من صخرة الكيان العراقي، المشرف على التفكك النهائي. أيضاً تحرر وشيك للمكون الكردي السوري، ليكون مؤهلاً للالتحاق بكردستان العراق، ليشكلا معاً نواة لتفجيرات مستقبلية، مع الجارين القويين إيران وتركيا، باتجاه خروج دولة كردستان إلى حيز الوجود، بعد ظلم تاريخي مشهود للقومية الكردية.

هذا يصل بنا إلى سؤال العراق/ إيران/ تركيا. فلا نظن أن كلاً من إيران وتركيا تريد إلا أن تكون هناك دولة عراقية قوية موحدة، وأن أطماعمها لا تتجاوز محاولة تعظيم النفوذ على هذه الدولة. فتفكك العراق، لا يعني فقط مجاورتهما لدولة داعش الإرهابية، وفي قلب مركز للمصالح الإيرانية والتركية، لكن الأخطر أنه سوف يفجر المسألة الكردية في كل من إيران وتركيا، بما يبشر بعصور صراع مرير قادمة في هذه البقعة الحيوية من العالم.

هناك أيضاً السؤال الأردني، تلك الدويلة الرهيفة التكوين، والخليط ما بين فلسطينيين وبدو وعشائر سُنِيَّة تهيم غراماً بأيديولوجية داعش، ولنا أن نتوقع قريباً، انفجارات سعي إلحاق المناطق الأردنية، بدولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام والأردن!!

هنا يمكن أن نصل لتساؤل بانورامي: إذا كان العالم لم يحتمل وجود دولة طالبانية في أفغانستان، الواقعة على الطرف الشرقي لمنطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية العالمية، فهل سيتحمل دولة داعش في القلب منها؟

مع كل هذه الأسئلة، ربما تسهل الإجابة على السؤال المثار منذ سنوات عن مسيحيي الشرق، ، باتجاه زيادة اليقين، أنه لا مكان للمسيحيين، وسط ذلك الجحيم، الذي لا ناقة لهم فيه ولا جمل، ونقترب من أن الحل الحاسم هو "شرق أوسط خال من المسيحيين".

هناك أخير وإن لم يكن الآخر، سؤال عام: هل تسمح الثقافة والأيديولوجيات الرائجة بهذه المنطقة، بالوصول إلى صيغة تفاهم وتعايش بين هذه المكونات الفسيفسائية، داخل الكيانات السياسية الحالية، وإن حدث وتم تقسيم المنطقة طائفياً وعرقياً إلى وحدات سياسية جديدة، هل ستسمح هذه الثقافة والأيديولوجيات، بعيش وتعايش سلمي لهذه المكونات الجديدة، أولاً داخلياً بين سائر المنتمين إليها، ثم خارجياً في علاقاتها مع المحيط الإقليمي والعالمي، أم أن الصراع المدمر بلا نهاية، هو المصير الذي لا مهرب منه، لشعوب تعجز وتأبى التطور مع سائر مكونات القبيلة الإنسانية؟!!

kghobrial@yahoo.com