كمال غبريال
هل ما يجري الآن على امتداد مساحة العالم العربي، هي حقائق جديدة تتشكل، أم هي حقائق قديمة، ظلت طوال العقود الماضية مخفية، تفعل فعلها من تحت السطح، وبدأت الآن في الظهور والافتضاح؟
طوال العقود الماضية، لم يمل دراويش العروبة من لعن اتفاقية سايكس بيكو (عام 1916)، التي خلفت سقوط الخلافة العثمانية، وأدت في النهاية إلى تقسيم منطقة الشرق الأوسط، إلى الدول التي نعرفها الآن. ذلك باعتبار أن كل هذه المنطقة في شرع أشاوس العروبة، هي أمة واحدة ودولة واحدة، قسمها الشيطان المستعمر الغربي الصليبي إلى أجزاء، كي يسهل له السيطرة عليها
واستنزاف مواردها. هذه هي الأغنية التي نشأت على ترديدها الأجيال، لتفتضح الحقيقة المرة الآن أمامنا. وهي أن ما ترتب على هذه الـ "سايكس بيكو" التي نلعنها ليل نهار، كان في الحقيقة محاولة تجميع أو توحيد مكونات وشذرات المنطقة بقدر المستطاع، لتتشكل منها أمم حديثة قابلة وقادرة على الحياة. والآن بعدما يقرب من قرن من دعوة القوميين العرب للوحدة، ومنذ المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس عام 1913، نجد هذه "الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة"، على حد شعار حزب البعث العربي الاشتراكي، تتعرض في كل جنباتها للانفجار، لتتحول إلى شظايا، أو قد لا يتبقى من بعضها هنا وهناك إلا الهشيم والرماد. يكاد لا يستثنى في المنطقة العربية من منحى التفكك والتحلل الحادث هذا، غير الأمة المصرية، التي لم يعرفها التاريخ إلا بوحدتها، بالصورة التي هي عليها الآن.
أظن أنه قد آن الأوان أن نخبر شعوبنا المتحدثة بالعربية، بأمر حقيقي وعقلاني، بشر الدراويش طوال الوقت بالمضاد له. فقوة الشعوب متنوعة المكونات، ليست بالضرورة في وحدتها، وضعفها ليس من المحتم أن يكون في تفرقها واستقلال مكوناتها. القوة الحقيقية تكمن في تجمع المكونات المتوافقة للتوحد معاً، بالقدر الذي يمليه مقدار ونوعية هذا التوافق، ليس بأكثر أو أوسع من هذا، ولا يستحسن أن يكون أقل. فتجمع العديد من المكونات المتنافرة، والعاجزة لهذه الأسباب أو تلك عن التوافق والتناغم معاً، لن يكون بأي حال مصدر قوة. وإنما سيشكل إهداراً للقوى الذاتية لكل من هذه المكونات على حده. والعكس صحيح، فتفتت تلك المكونات التي سبق ربطها ببعضها البعض تعسفياً، قد يكون تمهيداً لعودة الكيانات الجزئية الجديدة، للتعاون المشترك فيما بينها، بالقدر الذي تسمح به وتقتضيه مصالحها الحقيقية.
لا يكون التنوع مبرراً للفرقة بين مكونات الشعوب بالمطلق. فكثيراً ما يكون الأمر عكس ذلك، إذ قد نجد التنوع مبرراً للتكامل والتوحد، الذي في ظله يستكمل كل مكون ما ينقصه من مقومات، وهذا ما يعرف بالثراء الذي يجلبه التنوع في مكونات الأمم. ولدينا في العالم الغربي نماذج رائعة لمثل هذا التنوع. التنافر والانقسام إلى حد التشرذم، مصدره الأساسي هو سيادة أيديولوجيات وثقافات طاردة ومعادية للآخر. مثل هذه الثقافة تظل تفعل فعلها، ليس فقط دفعاً للعداء والاقتتال مع مكونات أخرى مختلفة، وإنما تصل بنفسها إلى الاقتتال الداخلي، بين أفراد ومجموعات ممن يعدون منتمين إلى مكون عرقي أو ديني أو قومي واحد. وهذا رأيناه في أفغانستان والصومال، ونراه الآن في سوريا، بين التنظيمات المجاهدة في سبيل الله، والحاملة لذات الفكر والأيديولوجيا، كداعش وجبهة النصرة.
داعش وأخواتها، سُنِيَّة كانت أم شيعية، هم الحقيقة التي حاولت شعارات الوطنية والقومية أن تطمرها. الآن يجب أن تحدد الشعوب مصيرها، ومصير هذه الجماعات التي نشأت بينها. فقط مساعدة هذه الشعوب مادياً ولوجستياً، ومحاصرة منطقة الشام، وتجفيف المصادر الخارجية لتمويل الإرهاب. لكن أي تدخل عسكري خارجي لدحر داعش وفي معيتها القبائل السُنِيَّة، لن يؤدي إلا إلى زيادة السرطان استشراء. ينبغي الاعتراف بأن أيديولوجيا داعش هي بصورة عامة خيار هذه الشعوب، بهذا القدر أو ذاك. وهي من يحق لها وعليها اختبار خيارها، وهي وحدها الكفيلة بقبره في ذات موقع مهده. وحده الشعب المصري، استطاع قلب مساره، وتغيير مصيره مبكراً. ربما يجوز القول أن داعش هي صرخة الموت، وسط شعوب ظلت ثقافتها تعادي الحياة طوال عشرات القرون. إنها داعش، التي تحقق لهذه الشعوب أحلامها المرعبة. داعش داء ودواء. فهي الداء الذي يستوطن جسد شعوب المنطقة، وهي ذاتها التي ستظل تعيث في هذا الجسد فساداً، حتى يفرز مضادات تقضي على الفيروس من أساسه.
الآن شرق أوسط جديد سيتشكل. كيانات تتفتت، وكيانات تتجمع، لتظهر لنا في النهاية خريطة سياسية جديدة. ولا نظن أن هذه ستكون النهاية الدرامية السعيدة، للحرائق والصراع المستعر الآن في سائر أنحاء المنطقة. الظن أنها ستكون نهاية حلقة، وبداية حلقة أو حلقات أخرى من الصراع، بين تلك الكيانات الجديدة وبعضها، وأيضاً داخل كل كيان منها. خاصة وأن هذه الكيانات المتوقع ولادتها، مثل تلك التي هلت علينا أخيراً باسم الخلافة الإسلامية، ستقوم وفق ما يجري الآن، على أساس الانتماء الديني والطائفي، دونما مراعاة للمصالح المادية، ومدى توفر إمكانيات ومقومات الحياة المستقلة للبشر، ولهذه الكيانات السياسية، القائمة على مجرد العداء لآخر. فالصراع والتدمير لكل ما هو حضارة، يبدو وكأنه المصير الذي لا مهرب منه، مادامت الكراهية هي التي تلون كل أفكارنا، عن أنفسنا، وعن العالم من حولنا، بل وعن الحياة ذاتها.
في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون فيه للوعي بما يجري من حولنا، من إعادة تشكل للخريطة السياسية للمنطقة، يلاحظ أن حالة الوعي المصرية قد زادت تدهوراً عن أيام مبارك. أقصد تحديداً استشراء العداء للعالم الخارجي، وهوس نظرية المؤامرة، الذي يعمي العيون عن قراءة الواقع المحيط بنا، وبالتالي نعجز عن تقييمه والتعامل معه. هي حيلة استخدمها مبارك، شأن سلفه عبد الناصر، لكي يحول طاقة النقمة والعداء باتجاه الآخر الخارجي، ويزيد بالتالي من التصاق وتمسك الشعب بنظامه. الآن تجري من حولنا أخطر تحولات وتغيرات عرفتها المنطقة.
ربما أجهزة صنع القرار والاستخبارات المصرية تقرأ الواقع بدقة. لكن في هذه المرحلة التي تلعب فيها الشعوب الدور الأساسي والمحوري، نجد الشعب المصري ونخبته يجري عن عمد إغراقهم في تهاويم وهواجس المؤامرة، وهو ما يؤدي إلى شروخ خطيرة في الجبهة المصرية المناهضة للإرهاب، والساعية لمغادرة قروننا الوسطى، للالتحاق بالمسيرة العالمية، التي تركنا قطارها منطرحين، على رصيف الماضي حالك الإظلام. الطاغية الذي يستمرئ لعبة إلهاء الشعب بإغراقه في التهاويم، لابد وأن يندم بعد فوات الأوان، بأن يتجرع مرارة كأس التضليل، حين تسد عليه الإرادة الشعبية، منافذ الحركة الصحيحة إزاء ما يحدث حولنا.
أظن أننا نحتاج لأن نغتسل ولو بماء النار، كي نتطهر من الناصرية واليسارية وأيديولوجيا العروبة، كي نستقيم في طريق القرن الحادي والعشرين. وأن علينا الآن أن نفتح أبواب عقولنا وقلوبنا، ونستدعي ما نسميه "الغزو الثقافي"، الذي فشل حتى الآن في اختراق جلودنا السميكة!!
kghobrial@yahoo.com |