بقلم: ماجد سمير
سأظل ما حييت أتذكر كاريكاتيرًا مبدعًا شاهدته منذ عقد من الزمان تقريبًا، رسم الفنان الموهوب فيه الهيكل التنظيمي الوظيفي في مصر بشكل يكاد يكون واقعيًا جدًا، إذ صوَّر خلاله حقيقة نعيش بل نغوص فيها حتى الأعناق، نغرق فيها وكأنها الطريقة الوحيدة لاستمرارنا في الحياة، في أول الرسمة عبر الفنان بريشته عما بداخله، وكأن الرسمة تصرخ من "الخنقة" عندما رسم مقعدًا فاخرًا جدًا يجلس عليه شخص تبدو عليه العظمة والسمو ماددًا يده لشخص منحي أمامه ويقف على الدرجة العليا من سُلم مواجه لمقعد الرئيس أو المدير، والشخص المنحي في تذلل يمسك يد رئيسه بيده اليمنى ويقبلها بخشوع وخنوع شديدين وفي الوقت نفسه يمد يده اليسرى إلى شخص آخر ينحني خلفه ويقف على درجة السلم الأدنى وبدوره يمسك اليد اليسرى الممدوة له بيده اليمنى ويقبلها وهو يمد يده اليسرى لشخص آخر منحي خلفه بمنتهى التواضع ويقف على الدرجة التالية ويتلقى يد سيده ويقبلها وهو يمد يده الأخرى للأدنى منه درجة المنحي بصورة أكثر لأن الانحناءة تزيد تباعًا من شخص للذي يليه، فيقبل اليد وهو يمد يده الثانية لمن يقف أسفل السلم، فيتلاقها بخضوع شديد ليقبلها قبلة الخادم ليد سيده.. وهكذا يستمر الكاريكاتير إلى آن تجد آخر شخصن في الصورة يحبو على قدميه ويديه ولا يستطيع إلا أن يقبل مؤخرة رئيسه المباشر في العمل كالعبد الذليل.
صورة معبرة جدًا عن مصر التي تحولت منذ ستة عقود تقريبًا عن التعامل مع الكفاءات والمهارات وأصحاب الخبرة والمعرفة، فقد أبدلت السلطة من منتصف خمسينيات القرن الماضي أهل الخبرة بأهل الثقة، فبات الوصول للمناصب العيا ليس له إلا طريقة وحيدة وهو النفاق وإبداء الانسحاق أمام خبرة وذكاء وفطنة رئيسك المباشر، فالكل يتعلم من كلامه ومن سكوته، وعبر المصري بخفة ظله عن ذلك مؤكدًا أن "شلوت المدير دفعة للأمام" وإذا اختلفت معه فأنت معطل للعمل ومن أعداء النجاح ووجدت نفسك تغرد خارج السرب والطبيعي أن تجد نفسك خارجه لأن السرب مع الأسف بات "ينهق" ولا يوجد فيه أية مكان للتغريد.
ونتجية سياسة تمكين أهل الثقة هي "صفر كبير جدًا" في الصحة والتعليم والسياسة والاقتصاد وكذا الأخلاق مع الأسف الشديد، وهذا الصفر لا يقل أبدًا عن صفر "المونديال" الذي حصلت عليه مصر عندما حاولت الحصول على شرف تنظيم نهائيات كأس العالم 2010 .
وأتذكر الفيلم الرائع للفنانة المعتزلة شادية "نحن لا نزرع الشوك" بالرغم من عدم وجود أدنى علاقة بين الفيلم ومضمونه والكاريكاتير المبدع المشار إليه ولا الصفر العظيم الذي نملكه، لكن الرابط بداخلي هو أنه في حالة عودة شادية للعمل الفني ستجد نفسها تكرر تجربة "نحن لا نزرع الشوك " لكن بكل بساطة ستكون "نحن نزرع القرع".